الأيديولوجيا القومية ومآلاتها؛ مراجعة أولية
حسن النيفي
مدخــــــــــــــــــــــــــــــــل
أتاحت ثورات الربيع العربي –والثورة السورية على وجه الخصوص بما قدمته من كشوفات ثقافية– فرصاً غنية لمراجعة أهم القضايا المعرفية التي انشغل بها الفكر العربي في مدى قرن كامل. ذلك أن انفجار هذه الثورات منذ أواخر عام 2010 ومطلع 2011، قد تزامن مع شيخوخة الأيديولوجيات التقليدية معظمها وترهّل مجمل البنى المعرفية التي انبثقت منها آليات التفكير السائدة طوال قرن أو أكثر من الزمن. فضلاً عن أن هذه الثورات لم تساهم في كشف عورات أنظمة الحكم السائدة فحسب، بل ساهمت –بطريقة أعمق– في فضح انهيار الحوامل الأيديولوجية التي كانت تعتاش عليها السلطات المحلية أيضاً.
ولئن جسّد تفكّك الاتحاد السوفياتي في مطلع التسعينيات من القرن العشرين إيذانا واضحاً بعدم قدرة الأيديولوجيات الشمولية على الصمود في وجه التقدّم التاريخي والحداثة، إلّا أن عدوى الانهيار الشيوعي لم تستطع إقناع السلطات المحلية العربية القائمة بضرورة الاستفادة مما آلت إليه التجربة الشيوعية، ليس لغياب أسباب الانهيار أو ضبابيتها، وكذلك ليس لاختلاف الخصوصيات الجغرافية والاجتماعية، بل لغياب الأسس العقلانية للتفكير لدى الممسكين برقاب الأيديولوجيات الشمولية معظمهم.
هل الأيديولوجيا القومية من العوامل المؤسسة للاستبداد عربياً؟
ما من شك في أن لوثة الاستبداد وآثارها المدمِّرة للمجتمعات –سياسياً واقتصادياً واجتماعياً– كانت الدافع الأكبر لثورات الربيع العربي، وما من شك أيضاً في أن منظومات الحكم المستهدفة معظمها من جانب هذه الثورات قد استمدّت من (العروبة) مضامينها السلطوية، فهل كانت الأيديولوجيا القومية هي العامل المؤسس للاستبداد وآثاره التدميرية في الوطن العربي؟
لعلّنا لا نعدم الإجابة عن هذا السؤال فيما تطالعنا به كثير من الكتابات أو الدراسات، إلّا أن هذه الإجابات مظمها –سواء أكانت بالسلب أم الإيجاب- غالباً ما تكون مسكونةً بالإشكالية ذاتها، أي إمّا أن تكون ذات هاجس دفاعي تبريري، أو أنها ذات نزعة هجومية تُضمر نتائجها السابقة لوجودها، ووفقاً لهذين التصورين، تكون الأيديولوجيا القومية إمّا خيراً مطلقاً، أو شراً مطلقاً، وتبقى الرؤية ذات الأولوية المعرفية النائية عن الرضوخ للرواسب الأيديولوجية والنزعات السياسية المباشرة نادرةً جداً، إنْ لم نقل غائبة.
تبلور الفكر القومي
لم يكن مفهوم القومية العربية –شأنه في ذلك شأن سواه من الأيديولوجيات- نتاجاً علمياً أو خلاصة لجهد فلسفي محدد، بل هو جملة من العوامل والمحددات العرقية والثقافية والاجتماعية والدينية اجتمعت لتعمل -في سياق تاريخي محدد– على بلورة عقيدة جماعية كانت ضرورية –آنذاك– لمواجهة تحدّيات عدة كانت تواجهها الأمة العربية. ومن هنا يمكن إبراز الدور المهم للمعطى التاريخي الذي وسم مفهوم العروبة بطابعه. وعلى الرغم من التغيير والتبدّل الهائل الذي خضعت له تلك المعطيات التاريخية السالفة، إلّا أن آثارها الأولية ما زالت هي الحامل الأول لمفهوم القومية كما نراه الآن.
ويمكن إجمال العوامل التاريخية التي واكبت نشوء الفكر القومي وتبلوره في ما يأتي:
1 – خسارة تركيا في الحرب العالمية الأولى، وتفكك إمبراطوريتها، ومن ثم احتلال الغرب لعدد من الدول التي كانت تنضوي تحت سلطتها.
2 – ظهور معاهدة (سايكس بيكو) وانعكاساتها التي أفضت إلى التجزئة.
3 – نجاح الثورة البلشفية التي أفضت إلى قيام الاتحاد السوفياتي.
4 – إخفاق المشروع النهضوي الذي قاده التنويريون الإصلاحيون من أمثال (محمد عبده وجمال الدين الأفغاني وقاسم أمين وغيرهم)، الأمر الذي مهّد لظهور تيارات أيديولوجية أكثر حدّةً من التيار الإصلاحي الذي قاده النهضويون الأوائل.
5 – احتلال فلسطين عام 1948 وتداعياته السياسية في الوطن العربي.
لقد جسّدت هذه العوامل تحديات كبيرة أمام النخبة العربية آنذاك، بل كان لها كبير الأثر في صوغ الردّ الملائم الذي كانت الأيديولوجيا القومية إحدى تجلياته.
ويمكن تأكيد أن مجمل العوامل السياسية التي تلت الحرب العالمية الأولى لم تساهم فقط في دفع مفهوم القومية العربية إلى الظهور، بل ساهمت أيضاً في توفير الطاقة التعبوية والدعوية لها أيضاً، ذلك أن نشوء الأحزاب القومية وحصولها على المدّ الشعبي آنذاك قد حصل نتيجة حالة تماهي تلك الأحزاب مع حركة التحرر العربي ومقاومة الاستعمار الغربي، وهذا ما جعل المشروع القومي-في أنظار كثيرين- مشروعاً مزدوجاً من الناحية الوظيفية، فهو يهدف إلى التحرر من الاستعمار من جهة، ويهدف إلى نهضة عربية شاملة من جهة أخرى.
شواغل الفكر القومي
ثمة قضايا مركزية ثلاث كانت الشاغل الأهم، والملهم الرئيس في الوقت ذاته لمجمل النتاج النظري للقومين العرب منذ مطلع الأربعينيات وحتى سبعينيات القرن الماضي:
الوحدة العربية
لقد اتّسم مفهوم الوحدة في الطرح القومي بأنه جاء تلبية لتحديات واقعية في حقبة تاريخية محددة، ولعل أبرز تلك التحديات التجزئة التي فرضتها مصالح الدول الاستعمارية من جهة، وكذلك احتلال فلسطين من جانب الكيان الصهيوني من جهة ثانية، فجاء المطلب الوحدوي ردّاً –يراه كثيرون آنذاك– ملائماً لتلك التحديات، إلاّ أن الإشكالية الحقيقية في هذه المسألة إنما تكمن في التصور القومي العام لشكل الدولة المنشودة ومحتواها القيمي لدى المفكرين القوميين العرب معظمهم. وهنا لا بدّ من إشارة سريعة إلى اللحظة التاريخية التي شهدت ولادة الدولة القومية في الغرب التي استلهمت حوامل وجودها من منبعين اثنين: الأول هو المُنجز القيمي للثورة الفرنسية وبخاصة في ما يتعلق بالحرية والعدالة وحقوق الإنسان، والثاني هو القيم الليبرالية، وعلى وجه الخصوص اقتصاد السوق، أي إن نشوء الدولة القومية في الغرب بدأ ببناء أسسها الداخلية وتقويتها أولاً، ثم راهنت على أن تكون عظمة الدولة نتيجة لمتانة أسسها الاجتماعية والاقتصادية، ليس المقصود من وراء هذه الإشارة إجراء مقارنة بين نشوء القوميات في الغرب ونشوئها في الوطن العربي، فهذا سياقه العام خارج نطاق هذه الدراسة، إنما أردتُ التمييز بين تصورين اثنين لبناء الدولة القومية، الأول غربي اتجه نحو البناء العمودي للدولة، وآخر عربي اتجهت أنظاره نحو الأطياف الأفقية للبلاد العربية.
المفهوم الإمبراطوري للدولة
على الرغم من العلاقة المتشنجة بين مفهومي (العروبة – الإسلام) وبخاصة لدى مفكري المشرق القوميين، إلّا أن هذا التشنّج لم يتجاوز المناكفات النظرية والسياسية، أمّا من حيث المرجعيات التي أنتجت آليات التفكير فهي واحدة، بل تكاد تصل إلى حدّ التطابق، وأعني بذلك تصوّر الطرفين كليهما (القومي والإسلامي) لمفهوم الدولة. إذ ثمة معايير متماثلة ثابتة لم تغادر المخيلة (العربية الإسلامية) في أي مشروع نهضوي، لعلّ أبرزها:
1 – اتساع الجغرافيا باعتبارها مقياساً لاتساع النفوذ، من دون إعطاء أي أهمية أو اعتبار للخصائص النوعية لتلك الجغرافية، وأعني بذلك تجاهل المناخات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسكانية لـ(الأقاليم – المناطق – الأقطاع) كلها التي يمكن أن تنضوي ضمن الدولة الواحدة. ولا شك في أن هذه النظرة تنبثق من إيلاء الأهمية للمشروع السياسي للدولة (المركز)، من دون إيلاء أي أهمية لمصالح الأقاليم أو البلدان الأخرى، وكما أن المسلمين ما يزالون يحتفظون بالصورة اللامعة للدولة الإسلامية الممتدة من الصين شرقاً وحتى الأندلس غرباً، كذلك القوميون لن يرضوا من دون أن تكون الدولة العربية ممتدة من المحيط إلى الخليج.
مشروع حيازة الجغرافيا، ثم إحكام السيطرة عليها، ينطلق من الدولة (النواة) التي هي غالباً ما تكون عاصمة الخلافة عند الإسلاميين، تقودها حكومة ذات مركزية هرمية. ولعلّ خير من جسّد هذا التصور في الإرث النظري للقوميين هو الدكتور(عصمت سيف الدولة) في كتابه (من التجزئة إلى الوحدة)، إذ يشيد الدكتور عصمت نظريته في بناء دولة الوحدة على ركيزتين اثنتين هما: (الإقليم القاعدة – الشخصية الكارزماتية)، وقد وجد الرجل لركيزتيه قرينتين تؤيدان طرحه الوحدوي آنذاك، وهما (مصر – الإقليم القاعدة)، (جمال عبد الناصر- الشخصية الكارزماتية).
2 – النظر إلى الدولة بوصفها كياناً يستمدّ مقوّمات قوّته وبقائه من قدرته على إخضاع المجتمع وإجباره على خدمة مشروعه السياسي – السلطوي في أغلب الأحيان، أي إن قوة الدولة لا تقوّم على التماسك الاجتماعي وصلابته وقدرتها على تلبية الحاجات المجتمعية التي تفضي إلى علاقة تفاعلية بين الجهتين، بل تقوّم على انقياد المجتمع لمشيئة الدولة وتسخير طاقاته كلها لخدمتها، الأمر الذي يؤدي إلى نتيجتين حتميتين: انفصال الدولة عن المجتمع، ثم اختزال مشروع الدولة بمشروع السلطة.
ما من شك في أن هذا التصور الخاطئ لمفهوم الدولة كانت له آثاره المدمرة مجتمعياً وإنسانياً وحضارياً، إذ لم يعد ولاء الفرد للدولة –وفقاً لهذا المنظور- منبثقاً من شعور الأفراد بسعي الدولة للاستجابة إلى حاجاتهم وتطلعاتهم، بل من دأْب الدولة على امتثالهم أو انصياعهم لمشروع لا يرون فيه سوى أنه يجسّد مصالح من يحكمهم.
لقد أسس هذا المنظور الخاطئ الذي يختزل المجتمع بالدولة (السلطة) ويجعل من الطاقات المجتمعية كلها مشروعاً لاستثمار السلطة فحسب، لمشكلات عميقة جداً، وقد ازدادت خطورتها حين جُسِّدت من جانب السلطات العربية الحاكمة بمفهومات ذات تجليات أمنية مباشرة، لعلّ أبرزها اختزال الدولة بالقيادة –القائد- واعتبار كل مخالفة أو اعتراض على شخص الحاكم هو انتهاك لكيان الدولة.
ولعلّ هذا التصور العام لمفهوم الدولة ما زال يمتح من مرجعيات سالفة لم يعد بمقدورها الاستجابة لواقع مغاير لأزمانها الغابرة، وأعني بذلك النموذج الإمبراطوري للدولة الذي ما زال يُعد النموذج الأرقى لجميع أنظمة الحكم ذات الأيديولوجيات الشمولية.
واقع الحال يؤكد أن ثورات الربيع العربي جميعها ينظمها قاسم مشترك يتجلى في رغبة الشعوب في تغيير العلاقة الموروثة بين الدولة والمجتمع، ذلك أن نضال الأفراد من أجل الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان وإرساء مبدأ المواطنة وتحسين فرص العيش والعمل والمشاركة في صنع القرار …..إلخ، لا تعدو كونها نضالاً ضدّ تغوّل الدولة ومصادرة المجتمع، وكذلك نضالاً من أجل التأسيس لعلاقة صحيحة وسليمة بين الفرد والدولة تغدو بموجبها الدولة في خدمة المجتمع وليس العكس.
القضية الفلسطينية
لم تكن نكبة عام 1948 محض عدوان على شعب فلسطين وتشريده واغتصاب أرضه من جانب الكيان الصهيوني فحسب، وكذلك لم تكن تداعيات تلك النكبة تنحصر في إطارها السياسي فقط، بل اجتاحت تداعياتها الأفق القومي بأكمله، الأمر الذي جعل قضية فلسطين تلعب دوراً كبيراً في رسم إستراتيجية النضال القومي حتى وقتنا الراهن. وبناءً عليه، بات الالتزام بالقضية الفلسطينية لدى الحكومات العربية معظمها معياراً للإخلاص القومي من جهة، ومصدراً تستمد منه الأنظمة الحاكمة شرعيتها من جهة أخرى.
بحلول نكسة حزيران 1967، واحتلال الضفة الغربية وقطاع غزة، وهضبة الجولان السورية، ومع افتضاح هشاشة البنى السياسية والعسكرية للأنظمة العربية التي كانت تعدّ نفسها في خط المواجهة مع إسرائيل، ازداد الخطاب القومي تشظيّاً وضياعاً، إذ عزا بعض القوميين هزيمة حزيران إلى أنها هزيمة للأيديولوجيا القومية ذاتها، فغادر خطابه القومي كلّياً وراح يلتمس بغيته في حيّزٍ أيديولوجي آخر، وجنح بعض آخر إلى التماس أسباب الهزيمة في السياسات العربية وطبيعة تحالفاتها الإقليمية والدولية، وثمة فئة قليلة من المفكرين القوميين واجهت بعمق الشروخات الفكرية والنظرية في منظومة الفكر القومي كما كان سائداً، وذلك من خلال مراجعات نقدية تتسم بالجدّة والموضوعية، في محاولة لصوغ خطاب قومي يتجاوز أنساقه التقليدية الكابحة لتطوره، ولعل المُنجز الفكري النقدي للمرحوم ياسين الحافظ يُعدّ واحداً من هذه المحاولات.
لماذا فشل المشروع القومي في تجديد خطابه؟
ما يجب تأكيده أن الجهد النقدي مجمله الذي حاول التأسيس لمشروع يهدف إلى تجديد الخطاب القومي وإعادة إنتاج مفهوم (العروبة) وفقاً للمستجدات المعاصرة لم يكن له تأثير ملموس أو جوهري في إنتاج أي تصوّر مغاير لما سبق وذلك لسببين: لعل الأول يكمن في أن النشاط الفكري النظري ظل محصوراً في الدوائر النخبوية الضيقة للمفكرين والمثقفين القوميين، ولم يتمكنوا جعْله أساساً لبرامج الأحزاب القومية أو منهجاً لعملها. والثاني هو أن تلك المراجعات النقدية لم يكن بمقدورها التأثير في سلوك السلطات الحاكمة التي تدّعي تبنّيها للاتجاه القومي، بل إن هذه السلطات في الأغلب الأعم وقفت موقف العداء من أي نشاط أو جهد فكري لا يسعى إلى تعزيز شرعيتها أو إبداء الولاء المطلق لوجودها في السلطة.
لم تكن نكسة السادس من حزيران 1967 مبعث صحوة لأنظمة الحكم ذات التوجه القومي، بقدر ما جسّدت لديها إصراراً على التجذّر في السلطة، وبرّرت استبدادها السلطوي على أنه صمود في وجه القوى الاستعمارية، الأمر الذي جعلها تعدّ أي استهداف لوجودها في السلطة أو انتقاد لممارساتها مقروناً بمؤامرة عدوانية استعمارية، وهكذا تصبح تهمة الخيانة لصيقة بكل صوت يحاول النيل من هيبة (السلطة – الدولة).
إن عجز الأنظمة القومية وفشلها حيال قضية فلسطين والجولان وباقي الأراضي المحتلة لا يكشف فشلها في الدور الذي أوكلت نفسها إليه فحسب، بل يكشف حرصها الشديد على التمسّك بهذا الفشل لجعْله ذريعة لتسلّطها واستبدادها، ذلك أن النضال من أجل فلسطين والجولان ومقاومة الاستعمار والإمبريالية يتيح لها –وفقاً لتوجهاتها العريضة– الاستمرار في التسلّط ومصادرة السياسة من المجتمع مصادرة كليةً، بل أتاح لها أيضاً أن تستر عوراتها وسوءاتها الشنيعة كلها بتلك الشعارات، حتى بات يُخيّل لأكثر من جيل -في سورية مثلاً– أن تحرير الأرض ومقاومة الاستعمار مرهون بإذلال الشعوب وممارسة أشكال القهر والاضطهاد كلها عليها.
النهضة العربية الشاملة
يؤكد القوميون في طروحاتهم النظرية التأسيسية معظمها ازدواجية المهمّة التي يسعون إلى تحقيقها التي تتمثل في (مقاومة الاستعمار الخارجي، والعمل من أجل النهضة والتنمية في آن معاً). وانطلاقاً من مبدأ فحواه: إن المقدّمات الخاطئة ستؤدي بالضرورة إلى نتائج فاشلة، نستطيع القول: إن فشل السلطات القومية في مسعاها الأول كان مقروناً في الآن ذاته بفشلها في المسعى الثاني. ذلك أن النهضة المفترضة التي كانت تنشدها السلطات القومية الحاكمة لم تتجه نحو تنمية مجتمعية، بقدر ما كانت تسعى إلى تنمية سلطاتها وتعزيز أسباب تسلطها وعوامله بالدرجة الأولى، إذ أفلحت هذه الأنظمة في تضخيم جيوشها وإنشاء أجهزة الاستخبارات والمراكز الأمنية التي باتت تستهلك ما يقارب (70 في المئة) من ميزانية الدولة، وهذا ما تستلزمه طبيعة المواجهة مع الاستعمار-وفقاً لتسويغاتهم- ولعل هذا الأمر يفسّر لنا جيداً مدى حرص السلطات الاستبدادية على وجود (عدو خارجي دائم) ليكون مصدراً ثابتاً من مصادر المؤامرة التي إن لم توجد، لعملوا على إيجادها باستمرار، لأن وجودها –سواء في مستوى الوهم أم الحقيقة– يبقى غطاءً تمارس تحته أشكال العربدة السلطوية كلها.
إن التنمية الاجتماعية بمفهومها الشامل التي تعنى أولاً بقضايا الإنسان الجوهرية، كالحريات بأشكالها كافة، وحق العمل وتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص، وقضايا التعليم وإنشاء الجامعات ومراكز البحوث والاهتمام بقضايا الشباب وتطوير مهاراتهم وتعزيز القيم الديمقراطية وثقافة تداول السلطة …. إلخ، لعل ما ذكرناه جميعه لم يكن بالمطلق يدخل في حيّز مفهوم النهضة كما تتخيله أنظمة الحكم القومية معظمها.
لقد أخفق الخطاب القومي الرسمي (السلطوي) في ترجمته لشواغله الثلاث التي جعلها شعارات كبرى له منذ مطلع القرن الفائت. ولم ينته إخفاقه في فشل سياسي أو عسكري فحسب، بل أعقبه آثار تدميرية هائلة في المستوى المجتمعي أيضاً، ففي بلد كسورية مثلاً، وبفضل الكشوفات الثقافية للثورة السورية، بات واضحاً مدى التغييب ومستوى الموات الاجتماعي الذي كان يعانيه السوريون على مدى عقود من الزمن، ولعل أبرز صور هذا الموات الاجتماعي تغييب جملة من المفهومات الجوهرية في حياة الشعوب كمفهوم (الوطنية – المواطنة – حقوق الإنسان – الحقوق القومية للمكونات المجتمعية – وسواها كثير).
وفي موازاة الإخفاقات المتتالية والمتراكمة للنظام القومي الرسمي، ثمة قوى قومية متنوعة (أحزاب – تيارات – تجمعات – شخصيات)، هي خارج النطاق الرسمي للسلطات الحاكمة وليست في مواقع القرار، ما زالت تحمل الأيديولوجيا القومية بغيرة شديدة، ولا ترى في فشل الخطاب القومي الرسمي سوى فشلاً لتلك السلطات ذاتها، لأن هذه السلطات –وفقاً لهذه الأحزاب والقوى والتيارات– ليست سوى مجموعات من العسكر استطاعت الانقضاض على السلطة في متغيرات تاريخية ما، وحين تمكّنِها السلطة لم يعد هناك ما يربطها بالشعارات القومية التي تحملها سوى رغبتها في توظيف تلك الشعارات لخدمة نزوعها السلطوي وتسلطها على المجتمع.
ولمزيد من الإنصاف ينبغي القول: إن عدداً من هذه القوى القومية التي أشرنا إليها في الفقرة السابقة، قد ساهمت مساهمة جادّة في مقاومة الأنظمة القومية الاستبدادية في مدى عقود من الزمن، ودفعت ثمن مقاومتها تصفياتٍ جسدية وسجوناً مدداً طويلة من الزمن، ولم تهادن طاغية أو حاكماً متسلطاً، شأنها في ذلك شأن بقية القوى الرافضة للظلم والتسلّط. إذْ ثمة قناعة لدى هؤلاء بأن الأيديولوجيا القومية ما زالت قادرة على أن تكون إطاراً ناجحاً للنضال الوطني، أمّا حالة الشلل والصورة غير الحميدة لمآلاتها فسببها الأنظمة التي كبحت الدور الحقيقي لحركة القومية العربية وعطّلته.
تساؤلات تواجه الفكر القومي
لكن هذه التعليلات أو التسويغات لمآلات الفكر القومي تواجهها –بالمقابل– تساؤلات بقدر ما هي بسيطة وعفوية، ولكنها تعبر عن معطى واقعي إشكالي لا بدّ من إيجاد جواب مقنع له، ولعل أبرز هذه التساؤلات:
1 – يتعرض السوريون منذ عام 2011 وحتى الوقت الراهن لحرب إبادة حقيقية أودت بحياة أكثر من مليون سوري، وتشريد أضعاف أضعافهم في بقاع العالم كلها، باستثناء الدول العربية التي يؤوي عدد محدود
منها مواطنين سوريين بشروط مهينة.
2 – كم تظاهرة خرجت في الوطن العربي خلال سبع سنوات تندد بحالة القتل الممنهج الذي يُمارس بحق السوريين؟
3 – المرونة والاستجابة التي يبديها اللاجئون العرب في اندماجهم بالمجتمعات الغربية التي تؤويهم، حالما يجدون فيها إنصافاً لإنسانيتهم، بغض النظر إلى أعراقهم أو أديانهم، واختفاء عصبة العروبة الأيديولوجية عقدة المؤامرة فور شعورهم بالأمان وزوال عقدة التسلط من أنفسهم.
لعلّ تساؤلات كثيرة من هذا النوع، على الرغم من عفويتها، فإنها تستدعي مزيداً من ضرورة إعادة التفكير والمراجعة الجريئة للمفهومات التي ما زال القوميون يعدّونها من البدهيات في صلب النظريات القومية، كمفهوم الانتماء ووحدة المصير والتطلعات والآمال الجامعة والمشتركات الثقافية وما إلى ذلك، إذ إن التمسّك بالأيديولوجيا والإخلاص لها والتضحيات من أجلها، على الرغم من أهميته، ولكنه غير قادر -بكل تأكيد- على عصمتها وبثّ الحيوية فيها، ما لم يقترن ذلك بمزيد من التفكير السليم والجريء للعمل على خلخلة المفهومات وتفكيكها واختبارها باستمرار ومعرفة مدى صدقيتها وقدرتها على مواجهة تحديات الواقع المعاصر.
أظن جازماً أن رمْيَ أسباب فشل الأيديولوجيات جميعها –والأيديولوجيا القومية على وجه الخصوص– على الممارسات الخاطئة للأنظمة فقط، هو تعليل لا يختلف في جوهره عن التعليلات التي تبديها الأنظمة الحاكمة نفسها حين تعزو أسباب فشلها إلى وجود الاستعمار بأشكاله كافة. ولعل الإصرار على هذا المنطق التسويغي الذي لم يعد مقنعاً بعد اندلاع الثورة السورية، سيصبح الوجه الآخر لخطاب الممانعة الزائف الذي كان-وما يزال– يعتاش على قضية فلسطين والجولان ومقاومة المؤامرة الصهيونية والإمبريالية.
Social Links: