لعل متابعة ردّات الأفعال السورية، على الانتخابات التركية التي جرت مؤخرًا، وأسفرت عن إعادة انتخاب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لولاية رئاسية جديدة، ومنحت حزبه “العدالة والتنمية” نسبة مريحة من الأصوات، ستمكنه من متابعة مشروعه السياسي والاقتصادي الذي بدأه منذ سنوات ليست بالقليلة، وهو مشروع ناجح، قياسًا على ما كانت عليه تركيا قبله، ستضعنا -أقصد متابعة ردات الأفعال السورية- أمام رؤيتين متطرفتين جدًا؛ فمعسكر المعارضة القريبة من تركيا، بدا ملكيًا أكثر من الملك، وهو ما فتئ يردد أن الرئيس أردوغان هو الوحيد القادر على حسم المسألة السورية لصالح المعارضة، بسبب قوته وحضوره العالمي، ويراهنون على أن النجاح الذي حققه إنما يصبّ في مصلحة السوريين المشردين والنازحين، الذين تضم تركيا أكثر من ثلاثة ملايين منهم، وبمقدار ما نتفق حول موضوع اللاجئين في تركيا، يبدو الشق الأول من رهان المعارضة منافيًا لمنطق الحال والواقع بكل تأكيد، فالرئيس التركي ليس منقذًا للسوريين، لا لأنه لا يريد، ولكن لأن سورية ليست مشروعه، ولم تكن ضمن برنامجه الانتخابي الذي التزم بتنفيذه أمام ناخبيه، وهو ليس مُلزمًا أمام ناخبيه بإنهاء المأساة السورية إلا بما يخدم مصلحة بلاده.
على الضفة الأخرى، علت أصوات معسكر نظام دمشق، تعلق على فوز الرئيس التركي وكأنه الكارثة التي ضربت تركيا، الجارة الشمالية، فالرجل كما وصفه محللو نظام دمشق لا هاجس لديه سوى التآمر على دولة “الصمود” وقيادتها “الحكيمة”، وأن تركيا “المسكينة” مهددة بتغوّل الديكتاتورية الأردوغانية، هكذا حرفيًا. طبعًا، محللو نظام دمشق وسياسيوه، أسقطوا من حساباتهم مشروع “العدالة والتنمية” الذي نقل تركيا نقلة اقتصادية مهمة، وقد أعدوا دراسات تبيّن أن الاقتصاد التركي على شفا حفرة من الانهيار كليًا، وهذا الكلام كله صادر عن نظام يوصف عالميًا بأنه الديكتاتورية الأبشع في العصر الحديث، وتتم مقارنته بهتلر وستالين.
ولكن، في هذا الزحام من ردات الأفعال السورية، ثمة غائب أكبر، وربما لم يُلتفت إليه، وهو المشروع السوري المصنع بأيدٍ سورية، فالمشروع الذي نراقبه الآن، هو مشروع خارجي بالكامل، تتولى التخطيط له دول إقليمية وعالمية من بينها تركيا، فيتم توزيع الأدوار على رقعة شطرنج لا يمثل السوريون فيها سوى بيادق يتم التضحية بها، كي تنجح اللعبة، فبينما يكتفي نظام دمشق الذي سلم مفاتيح البلاد لمختلف صنوف الغزاة، بترديد أسطوانته السخيفة عن أن مشروعه الوحيد هو “محاربة الإرهاب”، وفيما تتولى إيران التخطيط لمستقبل سورية كاملة، وقد بدأت ملامح هذا المستقبل بالظهور من خلال الحُسينيات التي افتتحت، والبدء بنشر التشيع واللغة الفارسية، في عدد من مدن المنطقة الشرقية التي تسيطر عليها (ذكرت تقارير إعلامية أن إيران افتتحت ثلاث مدارس في مدينتي الميادين والبوكمال)، وطبعًا في مناطق ومدن أخرى، وفيما ترتب تركيا بمعرفتها أوضاع مدن الشمال الواقعة تحت حمايتها، فترسم خططها وفق رؤيتها، ويظل البيدق السوري جاهزًا للنقل كما يشاء هذا اللاعب أو ذاك؛ تردد المعارضة أنها تريد بناء دولة ديمقراطية حديثة، وهذا الكلام يمكن تبين زيفه من خلال متابعة بسيطة لعمل تشكيلاتها، التي لم تتمكن حتى يومنا هذا من تقديم ورقة عمل متكاملة، دون أن تكون مكتوبة بقلم خارجي، وقد طالب الكثيرون بضرورة عقد مؤتمر سوري جامع، يوحد الرؤى، أقله، للوصول إلى اتفاق قبل الشروع في حلّ سياسي، بات أمره محسومًا من قبل القوى الكبرى، ولن تنفع العنتريات لتعطيله، ولكن عبثًا، فلا حياة لمن تنادي، أو لا قرار له، لا فرق، ولعل القائمة الطويلة التي قيل إن المعارضة قدمتها للمبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا، لاختيار قائمة قصيرة منها للجنة صياغة الدستور، توضح لنا أننا أمام طبخة مجانين لا انسجام فيما بينها، لا يمكن لعاقل أن يتذوقها، وسيظل الحال على ما هو عليه، وفيما نراقب في مقدمة المشهد تفاصيل إعادة تدوير نظام دمشق، وجعله صالحًا للاستخدام الدولي من جديد، فإن عشرات آلاف المهجرين من مدينة درعا يهيمون في العراء، لا يجدون ملاذًا آمنا يلجؤون إليه، وقد أغلقت الأبواب والحدود في وجوههم، وارتفعت أصواتهم عاليًا: يا الله ما لنا غيرك يا الله.
لا مشروع سوريًا، نعم، لكن ثمة حلقات دبكة سورية تُعقد في كل زمان ومكان، دبكة لانتصار مزعوم على القوى الإمبريالية العالمية، ودبكة أخرى ربما سوف نشهدها قريبًا تحتفي بدستور لبقايا دولةٍ آخر ما تحتاج إليه هو الدستور.
Social Links: