منذ انطلاق معركة الغوطة الشرقية، بدأ الحديث عن نهاية مرحلة مناطق خفض التصعيد باستثناء محافظة درعا، بسبب خضوعها لاعتبارات إقليمية (الأردن، إسرائيل) أكثر من خضوعها لاعتبارات محلية من جهة، ولأنها ستكون ورقة ضغط أميركية على المحور الروسي من جهة ثانية، وقد عزز هذا التوجهَ بيانا الخارجية الأميركية، في 25 أيار/ مايو و14 حزيران/ يونيو، اللذان وجهت فيهما واشنطن تحذيرات للنظام من مغبة خرق اتفاق الجنوب، وبعد ذلك سحبت الولايات المتحدة، بشكل مفاجئ، يدها من الجنوب، في غدر واضح بفصائل المعارضة التي بنت مواقفها على السياسة الأميركية المعلنة.
من الأكيد أن ثمة تفاهمًا دوليًا على إنهاء مناطق خفض التوتر كافة وإعادتها للنظام؛ لتكون الجغرافية العسكرية السورية مقسمة إلى ثلاثة أقسام: قسم بيد النظام، وقسم بيد “قوات سورية الديمقراطية”، وقسم بيد المعارضة على أن ينحصر تواجدها في بقعة جغرافية موحدة، وتحت إشراف دولة واحدة هي تركيا.
لذلك لم يعد السؤال ماذا سيجري في الجنوب، وكيف ستنتهي الأمور؟ لأن الجنوب أصبح ساقطًا بالمعنى العسكري، منذ الرسالة التي أرسلتها الولايات المتحدة لفصائل المعارضة، وطالبتهم فيها بعدم بناء قراراتهم على توقع تدخل أميركي إلى جانبهم.
ثمة أسباب عدة كانت وراء الاستعجال الأميركي – الروسي، في حسم مصير الجنوب السوري:
1 – الأوضاع الاقتصادية الحرجة في الأردن، مع ما يستدعيه ذلك من ضرورة إنعاش الاقتصاد الأردني، وإعادة تفعيل حركة النقل التي تشمل سورية ولبنان والأردن ودولًا عربية أخرى، فضلًا عن تركيا، ويشكل معبر نصيب الحدودي أحد أدوات الإنعاش هذه، بموافقة أميركية صريحة.
2 – ضرورة إعادة تأهيل النظام السوري اقتصاديًا، ولو جزئيًا، من أجل تخفيف اعتماده -اقتصاديًا- على إيران، ويعدّ فتح معبر نصيب الحدودي خطوة أولى، ضمن خطوات ستتخذها واشنطن خلال المرحلة المقبلة في هذا الإطار، ولا يستبعد أن تقوم الولايات المتحدة بإعادة ترتيب حضورها في عموم الشرق السوري، سواء في التنف عن المثلث الحدودي مع الأردن والعراق، أو في محافظتي دير الزور والرقة، وهذا يعني أن ثمة مقاربة أميركية للحل في سورية، بدأت تتضح معالمها، هي أميل للطرح الروسي.
3 – إنهاء الوجود الإيراني في الجنوب السوري، وبالتالي إخراج “إسرائيل” جزئيًا من المشهد العسكري السوري، باستثناء الحالات التي تتجاوز فيها إيران الخطوط الحمر الإسرائيلية (إنشاء قواعد عسكرية كبيرة في أي منطقة من سورية، نقل أسلحة متطورة لـحزب الله).
المطلوب من روسيا ضمان انسحاب كامل للقوات الإيرانية وقوات “حزب الله” إلى مسافة 40 كم شمال الحدود مع الجولان والأردن، وأن يكون ذلك بضمانة روسيا.
بعبارة أخرى: آن الآوان لتحقيق المطالب الأردنية والإسرائيلية، عبر انتشار قوات النظام على الحدود مع الأردن، وفي الجولان المحتل ضمن القواعد المرعية الملزمة للنظام السوري، بحسب اتفاقية فك الاشتباك لعام 1974.
لعل الانتشار العسكري الإسرائيلي في الجولان يأتي ضمن هذا الترتيب، فـ “إسرائيل” لا تعارض انتشار قوات النظام في الجولان، شرط الالتزام باتفاقية فك الاشتباك التي تنص أولًا على انتشار قوات (أندوف) التابعة للأمم المتحدة، في المنطقة منزوعة السلاح بين الخطين الدوليين: (ألف) من جهة “إسرائيل” و(برافو) من جهة سورية، وثانيًا على منع دخول أسلحة سورية ثقيلة للمنطقة المحدودة السلاح التي تبدأ من خط (برافو) غربًا، وتتجه بعمق 25 كم شرقًا في عمق الأراضي السورية.
هنا لا تقبل “إسرائيل” بأي تواجد إيراني أو لبناني تحت أي مسمى، حتى لو اقتصر الأمر على عناصر بالزي العسكري السوري.
بكل الأحوال، سيرتب على إنهاء ملف الجنوب الانتقال إلى مرحلة جديدة من الصراع في سورية، تحت عنوان سياسي لا عسكري، لكن المرور من العسكري إلى السياسي يتطلب إنهاء جميع الملفات العسكرية، ومن ضمنها إدلب والشرق السوري.
لذلك يتوقع في ضوء المواقف الأميركية أن تحدث متغيرات في الشرق السوري الذي يبدو عصيًا إلى الآن على شروط المحور الروسي، ولن يكون مفاجئًا أن تقدم واشنطن مزيدًا من التنازلات التي بدأت أولًا من البوابة الكردية، ثم ثانيًا من بوابة الجنوب، ولن يكون مستغربًا أيضًا أن يُعاد فتح ملف محافظة إدلب من جديد، وإعادة ترتيب الحضور التركي في الشمال الغربي.
لم تعد واشنطن مهتمة بمستقبل المعارضة ولا بمستقبل النظام، بقدر اهتمامها بوضع الأزمة السورية على سكة الحل الذي ينهي تشظياتها المربكة لعموم الإقليم، وقد أعلن مستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون صراحة أن بلاده لا ترى مانعًا في بقاء الأسد.
Social Links: