عاد البولندي الشهير ليش فاليسا، إذن، رغم أنّ العود لا يلوح أحمدَ؛ أو حتى أحرى باستعادة بعض البريق الذي اكتسبه الرجل طيلة 37 سنة أعقبت صعود نجمه في حياة البلد، والعالم بأسره ربما، في مطالع الثمانينيات على الأقل. إنه، للتذكير، ما يزال الزعيم التاريخي الأسبق للنقابات التعاونية البولندية (أو «سوليدارنوش»، التضامن)؛ وقائد الإضراب العمّالي الشهير الذي شهدته أحواض سفن غدانسك، صيف 1981؛ والزعيم الأجنبي الذي ألقى خطاباً في اجتماع مشترك للكونغرس الأمريكي، ليصبح بذلك ثالث شخص يحظى بهذا الشرف بعد المركيز دولافاييت والسير ونستون تشرشل؛ ثمّ، بالطبع، هو الناشط النقابي الذي صار أوّل رئيس منتخَب ديمقراطياً في أطوار ما بعد انهيار المعسكر الإشتراكي؛ والحائز على جائزة نوبل للسلام، 1983.
بيد أنّ هذا السجلّ، الوضاء بكل المقاييس المعتمَدة في عالم السياسة المعاصرة، خسر معركة الانتخابات الرئاسية في سنة 1995، أمام ألكساندر كواسنييفسكي، الشابّ القادم من «الحزب الاجتماعي ـ الديمقراطي»، أي من إعادة تدوير الحزب الشيوعي البولندي دون سواه؛ والذي كان وزيراً أيام الحكم الشيوعي. سجلات التاريخ تقول إن البولنديين ضاقوا ذرعاً بانزلاق فاليسا إلى الكنيسة والسياسات المحافظة، حتى لاح أنّ كفاحه ضدّ النظام الشيوعي لم يكن يستهدف نقل بولندا إلى الأمام، بقدر إرجاعها إلى الخلف نحو حضن الفاتيكان.
يومها استجمع فاليسا قواه، وأطلق آخر ما تبقى في جعبته من سهام، فخاض حرب وثائق ضدّ الرئيس المنتخب، زاعماً أنها تدينه بالخيانة العظمى، ليس أقلّ. ولقد اختبر شعبيته، فألقى خطبة عصماء نارية، استعرض خلالها أمجاد حوض غدانسك، ولم يغفل معاتبة التاريخ الذي أتاح «انتصار الشرّ» مجدداً، في شخص «هذا الشيوعي العتيق» كواسنييفسكي. وحين فشلت هذه المحاولات في تبديل الوقائع الباردة، راقب فاليسا تسلّم الرئيس الجديد مقاليد السلطة، وسار في موكب حزين إلى طائرة جاثمة في مطار كئيب، وألقى نظرة وداع أخيرة على مودّعيه القلائل الذين حرصوا على عدم الظهور بمظهر المشيّعين، وسافر إلى حيث ينبغي أن يسافر.
مفارقة الأقدار أنّ حرب الوثائق تلك سرعان ما انقلبت عليه، حين ظهرت وثائق تدينه بالعمالة المباشرة للاستخبارات البولندية أيام الحكم الشيوعي. المحكمة برأته في الجولة الأولى، لكنّ التاريخ ظلّ يتعقبه إلى أن تولى «معهد الذاكرة الوطنية» البولندي إماطة اللثام عن 279 وثيقة سرّية جديدة تثبت عمالة فاليسا، كانت أرملة وزير الداخلية الشيوعي الجنرال شيسلاو كيشاك تنوي بيعها. وبالطبع، عاد الزعيم النقابي الأسبق إلى إنكار صحة الوثائق الجديدة، رغم أنّ لوكاش كامينسكي مدير المعهد رجّح العكس.
وقبل أيام عاد فاليسا إلى الشارع مجدداً، ليشارك في تظاهرة أمام المحكمة العليا، للتضامن مع رئيسة المحكمة مالغورزاتا غيرسدورف، التي ترفض التقاعد القسري بموجب تشريع جديد سنّته الحكومة اليمينية ويقضي بإحالة القضاة إلى التقاعد عند سنّ 65، بدل 70 سنة. كذلك فإنّ التشريع يمكّن وزير العدل من تعيين رؤساء المحاكم بمن فيهم رؤساء محاكم الاستئناف، دون استشارة هيئات القضاة العامة والمجلس الوطني للقضاء. وقد أعلن الاتحاد الأوروبي مناهضته لهذا القرار، وشرع في اتخاذ إجراءات لمقاضاة الحكومة البولندية أمام محاكم الاتحاد، الأمر الذي قد يسفر عن عقوبات مادية في حال الإدانة. وهكذا عاد فاليسا دفاعاً عن الديمقراطية، كما يقول، وعن «استقلالية العدالة»، ولأن «الذين يسرقون الدستور هم بمثابة مجرمين»، و«إذا تنازلنا في مسألة المحاكم، فلن يتوقف الأمر هنا، ويجب القيام بكل شيء للدفاع عن دستورنا».
وللوهلة الأولى يبدو هذا الموقف حميداً، بل جديراً بالإطراء، لولا أنّ فاليسا لا يعود إلا من زاوية استغلال حال عالقة، ذات صفة إجرائية وإدارية؛ وهذه عودة قد تُكسبه بعض ما خسر من شعبية، ولعها تضعه على الألسن مؤقتاً، وتردّه إلى سدّة الأحداث من باب المعارضة مثلاً. ذلك لأنّ القضايا الكبرى التي تهزّ المجتمع البولندي راهناً، من البطالة إلى صعود اليمين المتشدد، فضلاً عن تفاقم مناخات العنصرية ضدّ الأجانب، لم تحظ من فاليسا بأية التفاتة معمقة، جديرة على أقلّ تقدير بـ«ثوري مخضرم» كما يحلو له تسمية نفسه. ولعلّ العكس هو الصحيح، إذْ أنّ قراءته لتاريخ أوروبا المعاصرة، من حيث هذه المآزق تحديداً، تميل إلى التفسير الشعبوي التبسيطي، ويندر أن تتخذ صفة نقد راديكالية صريحة.
طريف، في المقابل، أن يدخل رئيس الوزراء البولندي الحالي، ماتيوش مورافيتسكي، في نزاع خطابي علني مع الاتحاد الأوروبي، حول حقّ بلاده «في التخلص من بقايا النظام الشيوعي في نظامها القضائي»؛ وكأنّ بروكسيل هي اليوم قلعة الدفاع عن الشيوعية، أو كأنّ الاتحاد راضٍ عن القضاء في ألمانيا أو فرنسا أو بلجيكا أو إسبانيا… لأنه منسجم مع القِيَم الشيوعية! أو كأنّ الدول الأعضاء في الاتحاد بحاجة إلى محاضرات حول الشيوعية، على النحو الذي انساق إليه مورافيتسكي: «من الصعب جداً على العديد من شركائنا في أوروبا الغربية فهم حقيقة أوروبا الوسطى، لأنك كنت محظوظاً لعدم قضائك 50 عاماً في ظل الشيوعية، وكنت محظوظاً بما يكفي لتكون على الجانب الأيمن من الستار الحديدي»!
وقبل زمن غير بعيد علّق فاليسا، في حوار مع الصحيفة الفرنسية «ويست ـ فرانس»، على اندحار الأحزاب التقليدية كما مثّله انتخاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون؛ وكذلك على صعود الشعبوية الأمريكية، ممثلة في شخص الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. وقال إن الديمقراطية «ترتكز على ثلاثة أعمدة: المؤسسات والدستور والجهاز القانوني، والشعب الذي ينتخب ويقرر العيش مع هذه المؤسسات أو يرفضها، وأخيراً سماكة دفتر الشيكات أو ثروة الشعب في عبارة أخرى». هنا، أيضاً، ثمة كلام حقّ لا ينتهي إلا إلى باطل؛ لأنّ فاليسا اعتلى هرم السلطة حين كانت هذه الأعمدة سارية المفعول، فأرسلته صناديق الاقتراع إلى النسيان، من جهة أولى؛ وكذلك ظلت الأعمدة ذاتها تفعل فعلها في بولندا طيلة عقود، فلم يخرج فاليسا لينشقّ على سلطات «النظام الرأسمالي» الذي يدينه اليوم، من جهة ثانية.
والحال أنّ أزمات بولندا المختلفة ليست سوى واحدة من سلسلة ظواهر اجتماعية وسياسية واقتصادية، والبعض لا يتردد في الحديث عن جذور ثقافية ضاربة في العمق، تعيشها أطراف المعسكر الرأسمالي المعاصر (إذْ لا يزال يستحقّ صفة «المعسكر»، حتى مع غياب غريمه المعسكر الاشتراكي). وفي فرنسا كما في الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا واليابان، تتابع أخلاقيات السوق العيش وفق قواعد «ثقافة الرضى» حسب تعبير المفكر الاقتصادي الكبير جون كينيث غالبرايث: إنها جسم إيديولوجي اجتماعي ـ اقتصادي يلبس لبوس الديمقراطية (حين لا تكون هذه خيار مجموع المواطنين، بل أداة أولئك الذين يقصدون صناديق الاقتراع دفاعاً عن امتيازاتهم الاجتماعية والاقتصادية)؛ وتفرز أجهزة حكم لا تنطلق في تطبيقاتها السياسية من مبدأ التلاؤم مع الواقع والحاجة العامة، بل من طمأنة الخلايا الدقيقة المنعَمة والراضية، التي تصنع الأغلبية الناخبة. ويبقى أنّ الموقف من الزمن التاريخي (أي ذاك الذي يرتد إلى الماضي من المستقبل، مروراً بالحاضر)، هو إحدى السمات المكوّنة في لاهوت ثقافة الرضى هذه. إنها لا تنكر التأزّم (حيث يتعذر الإنكار)، لكنها تسعى إلى تأجيل الفعل اللازم للحلّ، وتتعامل على نحو تبادلي مع انقلاب المعادلات في صناديق الاقتراع، بين «يمين» أو «وسط» أو «يسار». فلا عجب أنّ يعود الزمن عند فاليسا إلى سنة 1981، وكأنّ شيئاً لم يكن!
Social Links: