يبقى السَبَقُ الصحفي ومحاولة التميز في طريقة مقاربة الأحداث من أهم الامور التي يسعى الصحفي اليها. ولكن لابد لمن يعمل في بلد مثل “سورية الأسد” من توقع دفع الثمن، الذي قد لايخطر له على بال، إذا ما أصر على التغريد “خارج السرب”، وأن لايكون “بوقاً” لأحد، وأن يخرق الحدود المرسومة بدقة.
وفي بلد العجائب سورية الأسد، “اللامعقول” ليس حالة استثنائية، إذ لاغرابة في أن يجبرك ضابط في غرفة التحقيق على الاعتراف بأن سارية السواس فتح في الاغنية العالمية، ولا غرابة أيضاً، اذا ماأقنع وزير اعلامه نفسه أن بوش عمك ..!
صحفي من “عظام الرقبة”..؟!
كنت في المكتب الذي يقدم ل”الحرة” الخدمات الفنية اللازمة، من مصور وكاميرا وعمليات فنية، وتأمين ارسال التقارير التي أقوم بانجازها، وكان هذا المكتب قريبا من معرض دمشق الدولي، حيث يقع مطعم “قصر النبلاء” الذي يرتاده علية القوم، وأبرز رموز الفساد السوري، وضيوف الدولة، وكنت أعرف ساعتها أن فاروق الشرع نائب الرئيس السوري – أنذاك – موجود في المطعم مع ضيف رسمي على مائدة الغداء، عندما كانت القنوات التلفزيونية تبث ساعتها مباشرة من مكان اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري.
طلبت من المصور تجهيز الكاميرا ومرافقتي الى المطعم، وذهبنا ركضاً، ومع وصولنا وجدنا مجموعة من المراسلين ينتظرون خروج الشرع عند باب المطعم، وعند خروجه مع ضيفه، تمكنت من سؤاله عن رأيه عمن يمكن أن يكون خلف اغتيال الحريري .. خلال الثواني القليلة جداً، التي كنت أنتظر فيها اجابته، جاءني الجواب من خلفي من “مراسل صحفي..!” من “عظام رقبة” النظام وبصوت مسموع للجميع، أجابني الزميل المراسل:
– نائب الرئيس لايعرف من قتل الحريري..حاجتكم اشعال الفتنة بهيك أسئلة..انتو جماعة المخابرات الأمريكية ( يبدو أن أبو الشباب كان يتوقع مني أن أسأل الشرع عن مستوى ونوعية وأصناف الطعام التي ازدردها وضيفه في المطعم ) .. !.
لم يجب الشرع بكلمة، رافضاً الاجابة عن أي سؤال لأنه – على ذمته – قد عرف باغتيال الحريري منّا نحن معشر المراسلين، واتجه مسرعا مع ضيفه الى سيارته، وغادروا..بحثت عن “الصبي” المراسل كي “يأخذ نصيبه” مني، ولم أجده بين الجموع التي بدأت بمغادرة المكان.
اتصال الرعب:
في ساعة متأخرة من الليل، رن”موبايلي”، وقبل أن أتبين الرقم فتحته، وإذ على الطرف الآخر مراسل “الحرة” في اسرائيل أنذاك..”أعوذ بالله من هالليلة”..!.. والى أن تبينت أنه يتصل من خط قبرصي “متّ ألف موتة”.. لم يكن يريد شيئا، كل القصة ومافيها أنه يريد التعرف علي وابداء اعجابه بتقرير لي كان قد بث في ذلك اليوم .. !.
أذكر أن بقايا النعاس التي كانت موجودة قد طارت، تلتها أيام من الرعب والقلق “لاتشتهيها لعدو”..” شو بدك تساوي مع هالورطة اللي ماكانت على بال..؟!” .. هل تذهب وتخبرهم بالاتصال وما دار فيه ؟!.. لن يصدقوك لوحلفت لهم على كل الكتب السماوية..؟!.. هل تطنش وتتركها للقدر..؟!..إذا اكتشفوا الاتصال ستصبح ” برفة عين “جاسوسا وعميلا وخائنا وعدواً للنظام الاشتراكي، وعندها لن ينقذك”ستين بوش” من الاعتقال و”المرمطة” ..؟! .
لم أخبر أحدا..وبقيت عدة أيام أسيراً لقلق لامثيل له..!.
ياسر عرفات وأم أحمد ..؟!:
عندما توفي ياسر عرفات، أنجزت عدة تقاريرمصورة عن المناسبة، رصدت فيها ردة فعل الشارع الفلسطيني في المخيمات، وأراء القيادات الفلسطينية “الرابضة” في دمشق، والتي حررت فلسطين ألف مرة، بخطابات لايشق لها غبار..في أحد الايام ذهبت لتصوير مسيرة تقرر اقامتها بهذه المناسبة في مخيم فلسطين، وقد صادفت أمرين لاأنساهما ما حييت، الأول عندما وصلت كانت مجاميع من البشر متناثرة هنا وهناك، وكل منها يحمل أعلامه، دون أن يلتئم شملها بمجموعة واحدة، وظننت يومها أن خلافاً بين الفصائل على موقع كل منها في المسيرة هو السبب في عدم تجمعها، لكن بعد السؤال والتمحيص، قال لي أحد المسؤولين عن هذه المسيرة :
– ننتظر موافقة المخابرات السورية ووصول عناصرها لنبدأ المسيرة ..؟!.
والأمر الآخرحدث عندما شعر الرجل، الذي أخبرني عن سبب تأخر المسيرة، بتململي من طول الانتظار إذ قال لي :
– اعمول لقاء مع أم أحمد لبين ماتبدا المسيرة..!!.
لم ينتظر جوابي، وأرسل أحد الصبية كي ينادي أم أحمد..بعد دقائق وصلت أم أحمد تتمختر بزيها الفلسطيني المناسب لعمرها الاربعيني..سألت الرجل الذي أرسل يطلبها وهي تؤشر عليّ:
– شو .. اتفقت معاه ..؟!.
– لا .. ماخصني .. مِنِك إلو يا أم أحمد ..؟!.
اقتربت أم أحمد مني وضوح لاشائبة فيه قالت:
– ألف ليرة..انتو أمريكان وجيوبكن مليانة..ألف ليرة وخود حكي عن المرحوم بيخليهن يرفعوك لما بيسمعوه..!.
دفعت الألف ليرة، وكما يفعل أي ممثل يريد استحضار دوره،صفنت أم أحمد قليلا..أغمضت عينيها وتجهم وجهها وهي تنظر إلى السماء بعيدا، وانتظرت الى أن خرجت أول دمعة، فبدأت أم أحمد بث شجونها عن الراحل، وانشاد بعض النواح الملائم للمناسبة..وبالفعل كان تقريرا من التقارير التي لاأنساها ..!.
عشر ثواني مع محمود عباس:
اتصلوا معي من واشنطن، وأبلغوني أن محمود عباس في دمشق، وأنهم يريدون جوابا على سؤال مفاده معرفة مضمون رسالة اسرائيلية يحملها للأسد..عرفت أنه في مريديان دمشق، فذهبت مع المصور، وفي ساعة متأخرة من الليل وصل عباس مع أحمد قريع، وعند باب المصعد تمكن المصور من التقاط عشر ثواني يظهر فيها قريع وهو يحاول ابعادنا..طرحت السؤال منتظرا اجابة: لكنه رفض وأنكر أنه يحمل رسالة..حاولت الصعود معه بالأسانسير الا أن “أحمد قريع” كان بالمرصاد ..ارسلت الثواني العشر لعباس منكراً أنه يحمل رسالة اسرائيلية لبشار الأسد..!.
الانتخابات العراقية:
في أول انتخابات عراقية أجريت باشراف أمريكا بعد احتلال بغداد، كانت دمشق واحدة من العواصم الأساسية التي جرت فيها الانتخابات، وكان عتاولة”المعارضة” العراقية وطائفييها يسكنون فيها، وكل منهم يتأبط فرعاً أمنياً يزوره بانتظام لتلقي التوجيهات والمعلوم..!.
كنت أظن أن هؤلاء “المخبرين الطائفيين الأصلاء” هم “زوادة” تقاريري، وأن المعارضة العراقية التي اعتقدناها يسارية، ولم يكن يعنينا إن كانت شيعية أم لا، لن يشاركوا في الحديث عن الانتخابات، لهذا كنت أتحاشاهم، عندما ألتقيهم مصادفة، كي لا أحرجهم، خاصة وأنني مراسل لقناة امبريالية قضوا أعمارهم وهم يحاربونها ويحاولون اسقاطها والقضاء عليها..!.
المفاجأة كانت أنني حيثما ألتقيهم في المراكز، كانوا “يشحذون” برجاء والحاح الظهور في هذه القناة الامبريالية، لتدبيج المدائح عن هذه الحالة الديمقراطية التي يشهدها العراق، أما رائحة الطائفية التي كانت واضحة في تلك الانتخابات، فهذه مسألة لاخص لهم فيها ..!.
– أغاتي إنت..خللي الناس يتكلموا ويتباهوا بانتماءاتهم الطائفية..معليش .. خللهم يسولفون بحرية ..أكو مشكلة حياتي ..!..
توضيح: الجملة أعلاه قالها مظفر النواب، وعلى مقربة منه في كادر الصورة، يقف سعدون جابر، وتم بثها في تقرير مصور في الحرة، وبالصوت عبر اذاعة سوا في اليوم نفسه.. الامبريالتين بالطبع..!.
“أونكل” جورج بوش الابن ..!:
كان وزير الاعلام أنذاك أحمد الحسن يرسل أواخر الليل سيارة لأذهب إليه في مكتبه في مبنى التلفزيون، كي يحاورني ويستدرجني للبوح بما عندي حول توجهات السياسة الأمريكية(!!!)، وهو جالس قبالتي وليس خلف طاولته، ملمحا بمعرفته أنني أحمل في مفكرتي أرقام الهواتف الخاصة لسكان البيت الأبيض..!.
لله والتاريخ، لم أصحح له مايعتقده، وكنت أتحدث له عن هذه السياسة باستفاضة، ودخان سيكارتي يملأ فضاء الغرفة، وكاسة شاي رايحة وفنجان قهوة جاي، معتمدا على ما أقرؤه في الصحف مع “شوية بهارات” من عندي..لاشئ يدعوني لتصحيح قناعته أنه بامكاني- إذا ماخطرله أن يزعجني في أمر ما- أن أرفع سماعة الهاتف، وأتصل ب”أونكل بوش” مباشرة بلا”إحم ولا دستور”، كي يرسل طائرة حربية تقصف مكتب الوزير خص نص .. كان وزيرا عجائبياً ..!.
أنا ومارغريت سكوبي ..!:
عندما ظهرت “الحرة” كانت مارغريت سكوبي هي السفيرة الأمريكية في سورية، وطيلة فترة عملي لم ألتق بها، ولم يخطر لي أن أزور سفارتها، باستثناء مرة واحدة التقيتها في أحد مراكز الانتخابات العراقية، وقد خصتني يومها بتصريح قصيرحول الانتخابات، ومرة أخرى حين حضرت احتفالا في العيد الوطني الأمريكي.. لاهي ولا أي عامل في السفارة الامريكية..!.
الطريف في الأمر، أن “زملاء المهنة ..!” قاموا بتصنيفي في أحاديث المقاهي عميلا أمريكياً صنف أول، بل وسمعت أنني لا”أتكنس” من السفارة بحكم قربها من محل سكني، رغم أن الوسط الاعلامي والثقافي، يعرف أن كل هؤلاء الاعلاميين، ومعهم ثلة مختارة من الفنانين والمخرجين المعادين للامبريالية، لايفوتون حضور أي نشاط للمركز الثقافي الامريكي، أو للسسفارة الامريكية، طمعا في الحصول على دعوة مدفوعة التكاليف الى أمريكا قائدة الامبريالية الى جهنم..!.
Social Links: