العلمانيةُ بين المسيحيين والمسلمين
عبدالله خليفه – كاتب من البحرين
(١٠)
نشأت ظروفٌ مختلفةٌ بين حضارتي المسيحيين والمسلمين، فحين إنتصرت القبائلُ الجرمانيةُ المسيحية على الإمبراطورية الرومانية الغربية الوثنية إنتشرتْ المسيحيةُ الكاثوليكية وقامت كنيسةُ روما وغدا رجالُ الدين المسيحيين هم الطبقةُ المسيطرة على العالم المسيحي الغربي. إنقسم الناسُ في عالم السيطرةِ الكنسية بين رجال اللاهوت، والناس العاديين. بين الكهنوتيين والعلمانيين، وكانت التسميةُ تعني أولئك الرجال والنساء الذين لا يشتغلون في الأعمال الدينية. فالذين لا يشتغلون في أمور الكهانةِ ووظائف الكنائس يُطلق عليهم علمانيون. فثمة أناسٌ متخصصون في العمل للآخرة والملكوت القادم الدائم وأناس يشتغلون في مهن الزراعة والحدادة والحطابة وغيرها وكانت حتى المهن الثقافية نادرة فلا شيء يخرجُ من سيطرة الكنسية وثقافة الكنيسة. وهكذا أصطبغت التسميةُ بشكلٍ عملي بين الجانب اللاهوتي والجانب الدنيوي العلماني. وحين تنامت حركاتُ الطبقاتِ الوسطى والصناعة والحداثة أخذت تنتزعُ مساحات العالم اللاهوتي المسيطر، وراحت تزيحُ سيطرةَ الكنائس ذات الأملاك الهائلة والسيطرات السياسية المطلقة، فدخلت الثقافة العلمانية، أي ثقافة الناس الذي لا يشتغلون في المهن الدينية في صراع مع الثقافة اللاهوتية، مع المتكسبين من الدين.
ليس العلمانيون هم غير مسيحيين لكنهم فقط راحوا يفصلون العلومَ والسياسات والأفكارَ عن هيمنة الكنائس، لكن الكثير منهم مؤمنون بالمسيحية، ولم تسلمْ الكنيسةُ ومعها الحكوماتُ الكليةُ المتشددة بهذا الحراكِ الديمقراطي العلماني حتى تحولت لثورات وتحولات بحيث أخذتْ الأملاكَ الزراعية والسلطات السياسية وتركت للكنائس مناطق واسعة في الحياة الاجتماعية والثقافية والعبادية، لكن مفاهيم القراءات الدينية المحافظة لشؤون التاريخ والعلوم والطبيعة والثقافة تعرضتْ لانهيارات بسبب إكتساحها من قبل الثورات الفكرية ولهذا تم تغلغل العلمانية في المناهج الدراسية والشؤون الشخصية بحيث توسعت الهوةُ بين الدين المسيحي والمجتمع، إضافة للثورات التي دخلت في الدين نفسه وأنشأت تيارات ومذاهب مغايرة للحياة الروحية التقليدية. في حين أن المسلمين لم يعرفوا هذه الثنائية المتضادة في عصر النهضة، فلم يُقبل في الإسلام نشؤ كهنوت، وسيطرة رجال دين على السلطات، ولم يحدث تمييزٌ بين من هو رجل دين ورجل معاش، وعمل كبارُ الصحابةِ والفقهاء في الأسواق والتجارة والأعمال الحرة المختلفة، بل حتى في الأعمال اليدوية البسيطة، فلم يعرفوا في تلك القرون تسمية العلمانية، ولم يعرفوا الانفصال بين الحياة العملية والحياة الروحية. وبالتأكيد فإن الحياةَ السياسية والاجتماعية يهيمنُّ عليها الدين، ولكن في الفهم المؤسّس لا يُعتبر الدينُ وسيلةً لتشكيل حزب، أو إقامةِ جماعةٍ سياسية، أو أن الدولةَ هي مخصصةٌ لجماعات دون غيرها، والجماعةُ المسموحُ بها هي فقط جماعة تعمل لنشر الفضائل وليس لتضع خيوطَ السلطة في يدها. تعبيرُ الإسلام هو تعبيرٌ عن المواطنين ككل، وأن عليهم إذا أختلفوا أن لا يختلفوا في الدين بل في فهم المعاش، وقد كانت الدولةُ حسب التصميم الأولي هي التي تجعل الناسَ يملكون الخيرات، وعندما جاءت أسرُ الأشراف وأمتلكتْ الخيراتَ نشأتْ الفِرقُ الدينية، وقد كان نشؤها إنها ظهرت لشرح معانٍ دينية وليس بقصد شق صفوف(الملةِ) فظهرتْ على أسس فكريةٍ محضةٍ كشرح معنى القَدر وتفسير مصطلحات القرآن ولكنها تغلغلتْ بين الناس وصارت قوى سياسية دينية. ولم ينشأ مع هذا إختلاف بين المواطنين فيتخصص أناسٌ في الدين دون سواهم، أو أن يظهر كهنوت، ومع هذا فإن الدولَ المسيطرة حولت الفقهاءَ ورجال الدين لشراح وواعظين ومؤدلجين لسياساتها، ومسيطرين على الأحوال الشخصية خاصة، فيستفيدون من منافعها وأن لا يقحموا أنفسهم في السياسة.
ومع تدهور الانتاج والمعاش وسع رجال الدين من نفوذهم وغدتْ الصوفيةُ دروشةً والفقهُ جموداً. هكذا نشأ الكهنوتُ من خلال سيطراتِ الدول المحافظة، الأمر الذي إستدعى تعدد أشكال الكهنوت، والمذاهب، بحيث غدا إستغلال الدين في عصور التفكك والانحطاط سلعةً رائجة. هنا تشابه الحال مع عالم البابوية وحكم الكنيسة، على الرغم من أنه ظلت الحكومات العربية مدنيةً، ويُلزم في الحاكم حفظُ الحمى والأمن والمعاش أكثر من أي منحى آخر لديه. تجذرُ المنحى(العلماني) كبيرٌ بهذا المعنى في تاريخ العرب والمسلمين، ولكن إنقلاب التطور عن أوربا هو بسبب ضخامة مخلفات العصر الوسيط المتأخر، ولم يفهم النهضويون المتأوربون الاختلافَ بين عالم المسيحيين والمسلمين، فراحوا يصارعون تاريخَ أوربا الوسيط أكثر من فهم تاريخ العرب، وجاءت الماديةُ العدميةُ وأثارتْ الشكوكَ والصراعات الجانبية فتوسعت التنظيماتُ الدينية المستغِّلة للدين في أعمال السياسة، وصورتْ الحياةَ السياسية التحديثية وكأنها مؤامرات للقضاء على الدين، ولكن من المؤكد إنه مع تطور الحياة السياسية الديمقراطية وحدوث ثورة ثقافية وسط العامة سوف يتم توجيه السياسات للصالح العام كما ستتغير صورةُ الدين.
Social Links: