في 18 تموز (يوليو) من كل عام تطلب الأمم المتحدة من كل الأفراد حول العالم الاحتفال بالذكرى المئوية لمولد نيلسون مانديلا، بتكريس 67 دقيقة من وقتهم للعمل في خدمة المجتمع. وفي ذلك ما يرمز إلى 67 سنة كرّسها مانديلا لمكافحة العنصرية والدفاع عن حقوق الإنسان وتعزيز العدالة الاجتماعية في جنوب أفريقيا.
بدأ مانديلا كفاحه بمناهضة الاستعمار البريطاني وبعد وصول الأفريكان القوميين من الحزب الوطني في 1948 للحكم وتطبيقهم سياسة الفصل العنصري- التي هدفت إلى خلق إطار قانوني يحافظ على الهيمنة الاقتصادية والسياسية للأقلية البيضاء ذات الأصول الأوروبية- برز دوره في حزب المؤتمر الوطني إذ انتخب رئيساً لعصبة الشبيبة التابعة للحزب. وفي 1952 دشّن مانديلا حملة «تحد» وهي حملة عصيان مدني هدفت إلى الاحتجاج على القوانين الظالمة وشارك في تكوين الجناح المسلح لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي عام 1961 حتى تم القبض عليه في 1964 لاتهامه بالتخريب والتآمر لقلب نظام الحكم وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة!
مكث مانديلا في السجن 27 عاماً، واصلَ خلالها كفاحه ونجح في استكمال دراسة الحقوق وكتب سيرته الذاتية «مسيرتي الطويلة نحو الحرية» التي سُرِبت أجزاء منها خارج أسوار السجن، وأعطت زخماً لكفاح مانديلا الذي صار أيقونة لمقاومة الفصل العنصري والظلم في بلاده.
وباستمرار الضغوط الشعبية والخارجية وتصاعد أعمال العنف في البلاد، عرضت حكومة جنوب أفريقيا في أواخر الثمانينات على مانديلا الإفراج عنه وإضفاء الشرعية على حزب المؤتمر الوطني الأفريقي مقابل نبذهم للعنف في شكل دائم وعدم الإصرار على حكم الغالبية. إلا أن مانديلا رفض مقايضة حريته الشخصية بتقويض المقاومة وتجريمها. ومع تولي دي كليرك رئاسة جنوب أفريقيا أدرك أن نظام الفصل العنصري جلب الخراب لبلاده ووافق على الإفراج عن مانديلا من دون قيد أو شرط في شباط (فبراير) 1990. واصل حزب المؤتمر الوطني بزعامة مانديلا مفاوضاته مع الحزب الوطني الديموقراطي بزعامة دي كليرك من أجل تحقيق العدالة وإحلال السلام في مرحلة ما بعد نظام الفصل العنصري ونالا معاً جائزة نوبل للسلام عام 1993 مقابل جهودهما في هذا الصدد.
في 1994 تم انتخاب مانديلا كأول رئيس أسود لجنوب أفريقيا. ورأى مانديلا أن إرساء المصالحة الوطنية هو مهمته الأساسية.
وفي هذا الإطار عمل على تشجيع الاندماج والتعايش السلمي بين المكونات العرقية المختلفة والتركيز على المستقبل بدلاً من اجترار الماضي. وشجَع مانديلا شعبه على التسامح والتجاوز عن أخطاء الماضي عندما ارتدى قميص فريق الرغبي الوطني الذي كان يكرهه سابقاً- نظراً لكونه رمزاً للعنصرية وسيطرة البيض لعقود- خلال المباراة الختامية لكأس العالم للرغبي التي أقيمت في جنوب أفريقيا في 1995 ومثّل هذا الحدث خطوة مهمة في تحقيق المصالحة الوطنية بين البيض والسود.
ولم ينجح مانديلا فقط في إتمام المصالحة الوطنية وإحلال السلم الاجتماعي في بلاده، بل عمل على تحقيق التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية في بلد تفاوتت فيها الثروة تفاوتاً كبيراً بين مجتمعي البيض والسود ورزح أكثر من نصف سكانه- معظمهم من السود- تحت خط الفقر آنذاك. وكان من أبرز جهوده في هذا الصدد زيادة الإنفاق على التعليم وتوفير الرعاية الاجتماعية والصحية للسكان والتي كانت تتفاوت سابقاً باختلاف الجماعات العرقية، وإصدار قانون الإصلاح الزراعي في 1996 الذي كفل عدم طرد المستأجرين من أراضيهم من دون أمر من المحكمة وإصدار قانون المساواة في العمل عام 1998 والذي قضى على التمييز غير العادل بين البيض والسود. وعلى رغم إنجازات مانديلا اقتصادياً واجتماعياً فإنه عزف عن الترشح لفترة رئاسية ثانية موفياً بالعهد الذي قطعه على نفسه عند انتخابه.
وبالتأمل في رحلة مانديلا الطويلة نحو الحرية، لا يملك المرء إلا أن ينبهر بعزيمة هذا المناضل الثائر وثباته على مبادئه حتى خلَص بلاده من أردان العنصرية وصار أباً للقارة الأفريقية كلها. ولعل ذكرى مولده تكون فرصة لاستلهام دروس التاريخ من مشوار هذا القائد العظيم الذي نجح في حسم الصراع في بلاده حسماً إنسانياً رائعاً أُنجز بروح التسامح والغفران وسياسات التعايش المشترك.
Social Links: