يقول جورج أورويل، في روايته الشهيرة (1984): “إذا لم يكن من المرغوب فيه أن يكون لدى عامة الشعب وعي سياسي قوي، فكل ما هو مطلوب منهم وطنية بدائية، يمكن اللجوء إليها حين يستلزم الأمر”، وحيث تكون الوطنية مبدأ وانتماء راسخًا أولًا، يمكن الحديث بعدها عن تشكيلات الحكم السياسية، عن الديمقراطية، عن الدستورية والحقوقية، وإلا فإن مفاهيم الدولة العصرية هذه لا يمكن أن تبنى في فراغ آخر غير الوطن والوطنية، ولا يمكنها أن تكون قبل الوطن والانتماء الوطني، فقد عُرفت الدولة منذ التاريخ القديم للبشرية، ولكن الدولة الوطنية والحديثة بمفاهيمها العصرية أتت نتاج تطور المجتمع وصراعه مع قوى الاستبداد، بأشكالها المتعددة السياسية والعسكرية والدينية والأيديولوجية أيضًا. وهو الأمر ذاته المنوط بالوطنية السورية اليوم، بعد حجم الكوارث التي تعرض لها السوريون تباعًا، فالمشهد لم يعد خفيًا على أحد، ولا يمكن مداراته بأي وسيلة كانت، لقد تمكنت غطرسة القوة العسكرية الروسية من تفريغ الداخل السوري، وفرض شروط هيمنتها العسكرية عليها من تهجير وشروط مصالحة واهية، بعد ما مارسته آلتها العسكرية من قتل ودمار.
في السياق ذاته، وعلى خطوط متوازية، تسعى الدبلوماسية الروسية لفرض وجودها العالمي سياسيًا، ومن خلال البوابة السورية ذاتها، بحيث تجعل من سحقها العسكري للشعب السوري نقطةَ ارتكاز للوصول إلى قمة الهرم العالمي سياسيًا كقوة عظمى، وإن لم يكن كقطب عالمي ثانٍ منفرد، فبمنزلة الند القوى الذي يستطيع فرض شروطه، لا على السوريين فحسب بل على قوى العالم كافة. وبات واضحًا أن الروس، بعد كل معركة كبيرة يخوضونها في سورية، يسعون لعقد مؤتمرات دولية حولها، سواء بالدفع بمقررات جنيف المنقوصة، حسب قراءتهم السياسية الشكلية لها إرضاء للمجتمع الدولي، أو عبر محاور جديدة شكلتها كنتيجة لاتفاقات أستانا وما سُمي زورًا “خفض التصعيد”، وصولًا إلى سوتشي واحد وتمهيدًا لسوتشي اثنان، والعمل على الدفع بصياغة دستور سوري، يضمن لها من خلاله الاستقرار السياسي في سورية عبر أبنائها ذاتهم، ويحقق مصالحها ومصالح حلفائها الإقليميين والمحليين.
الدستور ولجان دي ميستورا الدستورية، سلة السوريين الممتلئة عن آخرها، منها أحلام الحرية والمواطنة الذاهبة أدراج الموت الجزافي المعلن، ومنها رغبات الساسة في تحصيل مكاسب ومناصب، ومنها أقوال بلا مضمون كالعلمانية أو الإسلامية، وهما إلى اليوم يشكلان وجهًا لعملة واحدة سوريًا، هو تثبيت الاستبداد العسكري وهيمنة القوة. كيف لا وقد كانت مقولة الإرهاب وحماية الديمقراطية المقولةَ الأخطر في تاريخ سورية، خلال السنوات السبع ونيف الماضية، المقولة التي استقطبت كل قوى الشر العالمي لجعل السوريين إرهابيين بالجملة، تُشن عليهم حملات الإبادة والتهجير، ثمّ “تعفيش” أرزاقهم وممتلكاتهم وتاريخهم أيضًا؛ كيف لا وقد جعلت تلك المقولة أن تنمو عشرات الحُزب السياسية المدعومة من موسكو أصلًا، إضافة إلى حُزب الجبهة الوطنية السورية العشرين، المصفقين طوال عمرهم لقيادة البعث التاريخية للدولة والمجتمع كفروع لحزب البعث ليس إلا، ولكن بنكهات أخرى: شيوعية وناصرية وليبرالية وإسلامية وووو؛ تبحث عن مكان لها وحصة في مغانم الحل السياسي الذي تقوده روسيا سوريًا، مغانم لا تقل حيلة ودهاء عن “تعفيش” منازل السوريين، ليبحثوا كل يوم عن طريقة لـ “تعفيش” دستورهم وحياتهم السياسية، تحت شعار الحق الديمقراطي في التمثيل، كون هذه المكونات السياسية “سورية”، ذات رؤية وقدرة على الحل والربط، وفي معظمها ذات هوى “نفعوي” و”ذاتوي”، لا يخرج عن نرجسية تنامت على تضخيم مرآتها الذاتية، فقط لأنها مدعومة من قوى الغطرسة الروسية العسكرية… وليس آخرًا تنبري عشرات المنصات السورية أيضًا، ومئات المنظمات المدنية للبحث في الدستور السوري، فإن كانت صياغة الدستور حق العقد الاجتماعي بين السوريين، حين يتوافقون على حقوقهم وشكل حياتهم السياسي، فكيف لمن يتلظى بدعم القوة العسكرية أن يبنى دستورًا يضمن حقوق الكل السوري، ولا أجد توصيفًا لهذا إلا في ما يعتلج نفوس أبناء الغوطة ودرعا، عندما يروون أثاث منازلهم “المعفش” أمامهم، وعليهم أن يشتروه مرة أخرى من “تم ساكت” ونفس مقهورة، كما كل الوطنيين السوريين المؤمنين بالتغيير الديمقراطي ودولة الحق والقانون وحرية التعبير وإرساء قاعدة الحريات العامة والخاصة، ومن ضمنها حرية الاعتقاد، أن يجدوا دستورهم وقد “عفشته” النفعية السياسية المبنية على الاستلزام لقوة العسكر، وما يسمى بالهندسة الديموغرافية كاشتقاق بذيء للتهجير القسري والتغيير الديموغرافي لسكان سورية. فعندما يقول البعض إن الحرب غنيمة ومكاسب، وللمنتصر حق سلب المهزوم ممتلكاته وسبي نسائه أيضًا! فيا للعجب أليست هذه ثقافة ما أسمته كتب القومية العربية ثقافة عصر الجاهلية، وهي ذاتها التي تستقوي بمقولة الديمقراطية والدستورية السورية كمفاهيم عصرية، وبالضرورة يصبح تعفيش المنازل أقل شيء يصيب السوريين، أمام تعفيش تاريخهم وحاضرهم السياسي ودستورهم، كخلاصة لعقدهم الاجتماعي، بذهنية الغزو والسبي ذاتها واستحواذ أملاك الغير بلا حق أو رادع.
فرانسيس فوكوياما، في كتابه (نهاية التاريخ) وعد البشرية بأن الديمقراطية الليبرالية هي “أرض الميعاد”، وأن “الأيديولوجيا التي يمكن أن يقنع العالم كله بصلاحيتها هي الديمقراطية الليبرالية”، فهل تصبح الديمقراطية السورية ودستورها العصري المزمع قيامهم على حساب حياة السوريين كافة: سوريي الشتات واللجوء والنفي القسري، سوريي المعتقلات والمنافي، سوريي الموت الفجيعة دفنًا تحت الأنقاض أو قهرًا، هل تصبح أرض الميعاد التي تكلم عنها فوكوياما! كيف لا وأن منصات موسكو وحميميم وجنيف والرياض وقمح وحنطة وهيئات الشأن العام هي الساعية لكسب مغانمها السياسية اليوم، وما هي إلا ذاك الفتات الذي سيرميه الروس لهم لتنفيذ مصالحهم وسياساتهم من خلالها؛ حيث لم يعد الوعي الوطني هو المرجع، بل باتت النفعية والغرضية الشخصية والنزعة الكلبية بنهش اللحم الأدمي وتاريخ البشر وحضارتهم سنّة الغالب، فمن الطبيعي جدًا أن تصبح الديمقراطية سلعة للمتاجرة بالوطنية، وعلى ذلك؛ يتم طمس كل ما قاله فوكوياما عن الديمقراطية من أنها “جنة الله على الأرض”، في معناها المتحقق في الدول الحديثة، على أنها جملة من الحقوق والقيم الليبرالية التي تحقق للفرد في سياق الكل المجتمعي، بتنوعه واختلافه، كلية حقوقه السياسية والفكرية والشخصية في سياق الدولة، وكونها القيمة الأرفع التي توصل لها الفكر البشري، فلا عجب بعد اليوم ولا لوم للتاريخ كيف سيسجل أحداثه وكيف سيقرؤه القادمون من بعدنا، أيها “الوطنيون السوريون الديمقراطيون العصريون الاشتراكيون…”!
Social Links: