يندم كثير من السوريين، في داخل سورية، على أنهم ترددوا في الخروج مبكرًا من البلاد، عندما كان ذلك أقلّ صعوبة، بعد أن أصبح هذا القرار أشبه بمغامرة كبرى، بعد منتصف عام 2016. بينما يحتفظ معظم السوريين الذين اضطروا إلى الخروج من سورية مبكرًا بصورة لا تشبه مطلقًا البلد التي عاشوا فيها أعمارهم وغادروها مضطرين، في نقطة زمنية ما بعد ربيع عام عام 2011، ومنهم من ندم على الخروج، ويريد العودة إلى بيته، وحيِّه، ومدينته.
في فئتيهم، يعاني سوريو الداخل والخارج من معضلة استخراج الوثائق الشخصية، ووثائق السفر، وأهمها بالطبع جواز السفر السوري، على الرغم من أنه يحتل مرتبة متأخرة جدًا بين جوازات السفر التي تسهل لحاملها السفر والانتقال بين الدول، حيث يُعدُّ جواز السفر السوري “ثالث أسوأ جواز سفر عالميًا، وثاني أسوأ جواز عربيًا، بعد الجواز العراقي”، حسب موقع (يورو نيوز)، الذي نقل قائمة صادرة عن مؤشر جوازات السفر العالمي (باسابورت إنديكس) في نهاية العام الماضي.
مع ذلك، ليس أمام السوري سوى محاولة الحصول على جواز السفر الصادر عن النظام الأسدي من دمشق، أو المدن التي يسيطر عليها، أو السفارات والقنصليات خارج سورية، كي يسافر، أو يهرب، أو يلجأ.
في إسطنبول، يكلف حجز موعد في القنصلية 225 دولارًا أميركيًا على الأقل، عدا عن تكلفة الجواز 325 دولارًا للجواز (العادي)، أي غير المستعجل، فالمستعجل يكلف 825 دولارًا. والأمر مختلف في القنصليات في دول الخليج العربي، أو الدول الأوروبية، فلا دور كبيرًا هناك للسماسرة في تعقيد حجز المواعيد، لكن الجواز (العادي) قد يستغرق الحصول عليه شهرين، أو أكثر. ومدة هذا الجواز دائمًا سنتان فقط، ولا يمكن الحصول على جواز لمدة أربع سنوات، أو ست سنوات.
تجارب أصدقاء يعيشون خارج سورية تكشف أيضًا تفاصيل معقدة لمن يريد استخراج جواز سفر من دمشق، أو حماة. فجواز السفر العادي، الذي يستغرق الحصول عليه أسبوعًا واحدًا، يكلف 12 ألف ليرة سورية لمن هو في الداخل، و34 ألف ليرة سورية للجواز المستعجل الذي يتم استخراجه في اليوم نفسه، بينما تبلغ التكلفة 300 دولار أميركي بالعملة الصعبة، وليس ما يعادلها، لمن خرج من سورية ولديه قريب من الدرجة الأولى يستطيع استخراج جواز سفر له، حسب القانون الأسدي المتساهل للحصول على العملة الصعبة. وقد يحصل الشخص، إن كان امرأة، أو تجاوز سن الخدمة العسكرية الإلزامية، أو كان معفًى منها، على جواز مدته 6 سنوات. وإذا كان مطلوبًا لفرع من الفروع الأمنية يحصل على جواز مدته سنتان فقط.
يقول الصديق (أ. ج)، وقد مرَّ بهذه التجربة: “لو كنت مكان موظفي النظام ومخابراته؛ لأعطيت المطلوب جواز سفر مدته عشر سنوات، أو (عشرين سنة)، إذا كان ذلك ممكنًا”.
قال هذا لأنه لا يعرف أن المطلوب أمنيًا للنظام يستطيع الحصول على الجواز الذي يريده، لكن في مقابل 2200 دولار أميركي، وأكثر من ذلك إذا كان معارضًا مشهورًا ومن الطبقة التي تشتم النظام على شاشات التلفزيونات. وهذا ما حدث مع مطلوب لأكثر من فرع أمني، ورد اسمه في التسريبات التي نشرتها مواقع سورية عن مليون ونصف المليون من السوريين المطلوبين لـ “مراجعة فروع أمنية”.
وفي السنوات الأخيرة، أصبح على المتقدم للحصول على جواز سفر تقديم بيان قيد (إخراج قيد) مستخرج من دوائر النفوس، ولم تعد الهوية الشخصية تكفي لذلك، وهذا يكلف من هو خارج سورية 25 ألف ليرة سورية، والمبلغ مماثل لاستخراج (بيان قيد عائلي) في حال ضرورة ذلك. ولذلك نلاحظ نشاط السماسرة والمزورين السوريين في هذا المجال، وخاصة في تركيا. ولمن يريد ذلك فما عليه سوى التواصل مع أشخاص “يقدمون هذه الخدمات” على صفحات التواصل الاجتماعي.
وإذا كنت موظفًا في إحدى مؤسسات النظام؛ فلموافقة رئيس دائرتك على ذلك ثمن، كي يتجاوز مضمون تقرير وصلهم بأنك غادرت سورية وما زلت تقبض رواتبك، فدوائر الجوازات تشترط موافقة رئيس دائرتك حتى تحصل على جواز سفر، وعلى موافقة أخرى كي تسافر عبر أحد المنافذ الحدودية، أو المطارات، التي يسيطر عليها النظام.
ويستطيع أي زائر للقنصلية السورية في إسطنبول، مثلًا، جمع قصص كثيرة عن مثل هذه المتاعب التي سيتعرض لها أي سوري يقصد القنصلية للحصول على جواز سفر، أو تصديق جواز سفر صادر من سورية، أو سند إقامة، أو وكالة قانونية، أو تسجيل ولادة، أو وفاة، بحيث يمكن إدراج كل القصص في ما بات يُطلق عليه (الاقتصاد السياسي، للاعتقال، لجوازات السفر… إلخ).
بالطبع، هذه الظاهرة ليست جديدة مطلقًا، لكنها الآن أكثر علانية، وتضخمت الأرقام وأصبحت بالدولار الأميركي، وتوسعت دائرة الفساد وممراته للتهرب من الشراكة مع الدوائر الأمنية الكبرى وضباطها. وهؤلاء الضباط مكتفون وقانعون بـ (الاقتصاد السياسي للاعتقال) الذي “يدرّ” عليهم عشرات ملايين الليرات يوميًا، ليتركوا لمئات آلاف الفاسدين الصغار فتات ما تولده الجوازات والأوراق الثبوتية من أموال تتوزع عليهم.
Social Links: