أظن أن الكثير من أبناء جيلي الذين قرؤوا مشروع محمد عابد الجابري في نقد العقل العربي، لم يكونوا على دراية كافية بذلك التعارض الحاسم الذي يُصرّ الجابري على إقامته بين “الإسلام السني” و”الإسلام الشيعي”، أو “العقل السني” و”العقل الشيعي”، بحسب اصطلاح الجابري نفسه. وسبب قصور الفهم أننا عشنا في مرحلة كان الخطاب القومي، بصيغته اليسارية، ما يزال يحظى بحضور واسع في الحياة العامة، ولم تكن منطلقات هذا الخطاب ورؤاه تسمح لنا بتجاوز البعد القومي إلى مزالق ضيقة، كنا نظنها بعيدة كل البعد من عالمنا المعاصر.
ليس الخطاب القومي وحده مسؤولًا عن قصور معرفتنا بالخطر الإيراني، فقد أسهمت الآلة الإعلامية للنظام في الترويج لمقولات النظام الإيراني وشعاراته البراقة، في النضال من أجل قضية فلسطين، وكان ذكر فلسطين كافيًا لكي يغمض المتلقي أعينه عن شعارات تصدير الثورة التي كنا نظن أنها موجهة حقًا نحو القوى الإمبريالية والاستعمارية، كما هو متداول في أجندات ذلك الخطاب، مثلما كانت الآلة الإعلامية ذاتها هي السبب في وقوف جزء كبير من مثقفي تلك المرحلة مع النظام الإيراني، في عدوانه على بلد عربي شقيق هو العراق.
مناسبة هذا الكلام هو أن جهلنا بحجم الخطر الإيراني كان كبيرًا، حيث استحوذ الصراع مع “إسرائيل” على آليات تفكيرنا (وما يزال كذلك لدى جمهور واسع من التيار القومي) دون أن يتاح لنا إدراك الإشارات التي ينطوي عليها مشروع الجابري. كان الرجل بطبيعة الحال يتحدث عن قضايا تراثية، غير أن العمى الذي تسببه الأيديولوجيا هو ما حال بيننا وبين اكتشاف ارتداداتها المعاصرة التي كان بلد عربي آخر يتحمل وحده تقريبًا عبء التصدي لها، عبر مواجهة المشروع التوسعي الإيراني.
في المقارنة، بين الصراع مع “إسرائيل” والصراع مع إيران، يبدو الأول أكثر انسجامًا مع روح العصر، فهو جزء من صراع كبير بين القوى الرأسمالية والشعوب الفقيرة، في حين أن الصراع مع إيران يُعيدنا إلى تبني مقولات تتناسب مع عالم القبيلة والعرق والطائفة، وهي كلها محددات لما قبل الدولة… إلخ.
“إسرائيل” كيان دخيل، وبعيد من ثقافة المنطقة، على الرغم من ادعائه الانتساب إليها لاهوتيًا، على اعتبار أن الدين اليهودي نزل في البقعة المقدسة، واستوطن أرض كنعان، غير أنها مشروع متقدم للرأسمالية العالمية في منطقتنا، فهي قطعة أوروبية مستزرعة في بلادنا، هدفها الحيلولة دون قيام اتصال جغرافي بين مشرق العالم العربي ومغربه، وتشكيل جسم غريب في المنطقة يؤدي إلى خلق حالة نزاع دائمة فيها، ولذلك فهي استثمار رأسمالي ناجح جدًا، من هذه الزاوية.
حقًا إن “إسرائيل” تعتمد في استيطانها على عنصر ديني، يتمثل في “وعد الرب” لبني “إسرائيل” أن يعودوا إلى أرض أجدادهم في فلسطين، ولكن وسائلها في تحقيق هذا الهدف وسائل حديثة. “إسرائيل” لا تمثل في وعينا الآخر الديني، فلا السوريون ولا العرب ينظرون إليها على أنها دولة يهودية، ربما يأتي وصفها باليهودية عرضًا، والأرجح أن مفردات الخطاب الجهادي تستثمر هذا العنصر الهوياتي، بغية حشد الأنصار والمقاتلين، ولكن وعينا الكلي بها وبتفوقها لا يستند إلى العامل الديني أبدًا، بمقدار ما يعيد هذا التفوق إلى الجانب المعرفي، فهي في وعينا دولة متقدمة تقنيًا ومعرفيًا، وهذا سر انتصارها ونقطة ضعفنا. وهذا الضعف كان يستحوذ على وعينا، ويدفعنا إلى مجاراة “إسرائيل”.
كان الصراع مع “إسرائيل” حافزًا يدفعنا إلى الأمام، لأن الهوة بيننا وبينها هي هوة تقنية، ولذلك كنا نرى محقين أن السبيل الوحيد للانتصار عليها هو تجاوز الفجوة التكنولوجية، والانخراط أكثر في العالم، والإفادة من تجارب الدول المتقدمة. وهذا ما يفسر إلى حدّ ما الإقبال الواسع على العلم والتعلم في المرحلة التي تلت نشوء دولة “إسرائيل”. لا شك أننا نبسّط الأمر كثيرًا إن قلنا إن الرغبة في مجاراة “إسرائيل” هي الدافع الوحيد لذلك الإقبال الكثيف على العلم والتعلم، ولكن لا بد من الإقرار بأن الصراع مع “إسرائيل” والرغبة في التفوق عليها كانا موجهين أساسيين لوعي جيل عربي واسع، لديه هموم قومية، وآمال كبيرة في تحقيق أحلام القومية المنشودة، وهذا لا يتحقق إلا من خلال ردم الفجوة الحضارية التي كانت لصالح “إسرائيل”.
الأمر مختلف في صراعنا مع إيران؛ حيث إن إيران بلد موجود في جورانا منذ آلاف السنين، استطاع العرب المسلمون تحويله إلى الإسلام، حتى إن عالَم القرون الوسطى يدين بإنجازاته ومعارفه لذلك الالتحام الكبير بين العنصرين العربي والفارسي. وهي ليست قابلة للالتحاق بالنظام الرأسمالي العالمي لأسباب كثيرة، فإيران هي النظير المكافئ للبلاد العربية من ناحية العلاقات الاجتماعية، والتخلف العلمي، والتأخر الحضاري، والترهل الإداري، والضعف الاقتصادي… إلخ. ومن هنا؛ فإن الصراع معها لا يشكل بالنسبة إلينا دافعًا إلى تطوير أنفسنا، لأنها ببساطة صورتنا الحضارية المعكوسة أمامنا في المرآة.
ثمة وجه آخر، وهو أن إيران تمثل الآخر المذهبي المنغلق على نفسه، الذي يفتقر إلى مشروع حضاري وتنموي، ومن هنا أعادنا الصراع معها قرونًا إلى الوراء، وإلى مسالك كنا نظن أننا تجاوزناها منذ زمن، بفعل نضال عدد كبير من المفكرين والكتاب والسياسيين، غير أنها، بإصرارها على تقديم نفسها بصورتها المذهبية، تعيدنا مرغمين إلى خطاب عالم القرون الوسطى، بكل أفكاره وتصوراته ورؤاه.
لا يعني هذا الكلام مطلقًا تفضيل عدو على آخر، فكلنا يعلم حجم المآسي التي سببتها لنا “إسرائيل”، طوال سبعة عقود من ظهورها كيانًا استيطانيًا مغتصبًا، قام على تهجير شعب من أرضه، واحتلالها. لكن الصراع مع “إسرائيل” في جانب منه كان حافزًا لنا. فـ ”إسرائيل” تدين بوجودها لفارق القوة بيننا وبين العالم، ولهذا ظهرت لكي تمنع عملية تطورنا وانفتاحنا، ولكي تسوغ وجود حكومات وأنظمة عملت على تجريف مظاهر الحياة والحضارة في منطقتنا.
أدى المشروع الإسرائيلي وظيفته في المنطقة، ولم يعد قادرًا على الاستمرار في تأدية الدور المنوط به، كما كان سابقًا، فالبعد الديموغرافي ليس في صالحه على الإطلاق، وجاء الربيع العربي جرس إنذار عمّا يمكن أن يكون عليه مستقبل ذلك المشروع في حال انتصار الثورات. وجد النظام الرأسمالي العالمي ضالته في إيران التي قدمت نفسها بديلًا لهذا الصراع، بديلًا قائمًا على ثأر تاريخي، رأينا وحشيته في مدن مدمرة، ودول مفككة، وميليشيات دموية عابرة للحدود، تُمارس القتل والتطهير الديموغرافي، لكن الأشد قسوة من كل الآثار السابقة أن وحشية المشروع تجرّ معها قلوبنا وعقولنا إلى دهاليز أكثر سوداوية مما نتخيل، دهاليز سنحتاج إلى عقود طويلة، بعد نهاية هذه الهجمة، لنخرج منها إلى النور.
Social Links: