قانون القومية اليهودية عند بشارة وغانم وزيداني – ماجد كيالي

قانون القومية اليهودية عند بشارة وغانم وزيداني – ماجد كيالي

كأن قانون «القومية اليهودية»، الذي أقرّه الكنيست الإسرائيلي أخيراً، ألقى حجراً في المياه الفلسطينية الراكدة، منذ عقود، في نمط تفكيرها السياسي المكرّر، وفي كياناتها العاجزة أو المتكلّسة أو الضامرة، وفي خياراتها السياسية والكفاحية التي أضحت لا تضيف أو لا تجدي شيئاً.

المشكلة بالنسبة إلى القيادة الفلسطينية (وضمنها قيادة فلسطينيي 48)، أنها تبدو متفاجئة بالقانون، كأنه هبط من السماء، كما فوجئت، قبل 18 عاماً في مفاوضات كامب ديفيد 2000، بتملّص إسرائيل من استحقاقاتها في اتفاق أوسلو (1993)، على رغم أنها وقّعت على اتفاق لا اعتراف فيه بالفلسطينيين كشعب، ولا بتوصيف إسرائيل كدولة محتلة للضفة والقطاع، ولا بنص يفيد بإنهاء الاستيطان، أو بماهية الحل النهائي. وكما شهدنا، قبل أشهر، فإن تلك القيادة فوجئت، أيضاً، بأن الولايات المتحدة ليست طرفاً موثوقاً ولا وسيطاً محايداً ولا راعياً نزيهاً للمفاوضات، لاعترافها بالقدس الموحدة عاصمة لإسرائيل، كأنها لم تكن حليفاً استراتيجياً لإسرائيل، منذ قيامها، بل وضامنة لأمنها ولتفوقها في المنطقة.

هكذا، فإن بيان اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، التي بات عملها يقتصر غالباً على البيانات، لم يتحدث إلا عن خطر هذا القانون على حل الدولة المستقلة في الضفة والقطاع، وأنه جزء من مؤامرة «صفقة القرن»، وهو ما فعلته بقية الفصائل التي أكدت المؤكد، باعتبارها إسرائيل دولة استعمارية وعنصرية، في حين أن القيادات الفلسطينية ما زالت تبحث عن توافق معين، وفي الحد الأدنى، يتيح الرد على الخطوة الإسرائيلية.

المهم أن مجمل المواقف الفلسطينية ما زالت تغرف من السلّة ذاتها، أي المواقف والشعارات التي اعتادت عليها منذ عقود، وتبقى مجرد حبر على ورق، من دون إمكانيات، ومن دون عوامل قوة، لا قوة المجتمع الفلسطيني في الداخل (الضفة وغزة)، الذي بات مشلولاً وخائراً وحائراً، في ظل سلطة انتهجت سياسات أدت إلى تهميشه، وإضعاف دينامياته، بحيث بات كفاحه ضد إسرائيل وسياساتها، قبل إقامة السلطة (1994)، أعلى بكثير منه بعد قيامها. والمعنى أن المجتمع المدني ضعف بعد قيام السلطة، لمصلحة الطبقة السياسية السائدة، وتاليا فهو ضعف في مواجهته لإسرائيل، إن بسبب إحباطاته، أو بسبب ارتهانات السلطة، وتقييدها له، كما بحكم السيطرة الإسرائيلية، الناجمة عن اتفاقات التبعية الاقتصادية والتنسيق الأمني والسيطرة الإدارية.

على ذلك فإن الواقع الفلسطيني غاية في التعقيد والضعف والتفتّت، ما يصعّب مواجهة أي استحقاق مهما كان، لا سيما مع غياب مركز قيادي للفلسطينيين، واختلافهم على ماهية مشروعهم الوطني، وترهل كياناتهم السياسية وفواتها (المنظمة والسلطة والفصائل والمنظمات الشعبية)، وفي ظل اختفاء مجتمعات اللاجئين الفلسطينيين أو تهميشها، في سورية ولبنان والعراق والأردن، وفي ظل ضعف مبادرات الفئات الوسطى من المثقفين والفنانين والأكاديميين ورجال الأعمال، في مختلف التجمعات الفلسطينية، لابتداع أفكار تؤمن الخروج من هذه الحالة، بعيداً من اليقينيات الجاهزة والبديهيات المطلقة.

في إطار متابعة ردود الفعل على القانون المذكور، لفت انتباهي ثلاث مقالات، الأولى لعزمي بشارة، وعنوانها: «كم مرة سوف يعلنون قيام إسرائيل؟» (العربي الجديد 24/7) قدّم فيها قراءة تحليلية معمّقة للقانون، الذي رأى أن واضعيه ومؤيديه ينطلقون من خلفية مفادها «أن دولة إسرائيل، في جوهرها، دولة يهودية، وفي طابعها فقط ديموقراطية». وعلى رغم أنه لا يرى جديداً إلا أنه «لا يقلل من أهميته… فثمّة فرق بين ممارسات ناجمة عن سياسات الحكومة والمؤسسات الصهيونية القائمة وقناعات غالبية الجمهور الإسرائيلي، وبين ترسيخها دستورياً…»، ويحذّر من أن القانون سينشأ عنه «دينامية تُشجّع على تكثيف هذه الممارسات… وتصعيدها… لقد انطلقت هذه العملية التفاعلية ولا أحد يعرف أين تتوقف».

والفكرة هنا أن الحديث العمومي، أو اعتبار إسرائيل دولة يهودية وعنصرية فقط لا يفيد، بخاصة بالنسبة لفلسطينيي 48، الذين يرون أن وجودهم أو بقاءهم في أرضهم، وحمايتهم هويتهم، وتصعيدهم كفاحهم، تنطلق من استثمار هذا التناقض باعتبار إسرائيل ذاتها، ولو شكلياً، يهودية وديموقراطية، إذ هذا التناقض يساهم في خلق جبهة يهودية، مهما كان حجمها ضد سياسات الدولة، كما يمكّن الفلسطينيين من تطوير مجتمعهم وكفاحهم، أي أن الأمر ليس بتلك السهولة التي ينظر إليها بعض قادة الفصائل، الذين يتكلمون بالعموميات عن التحرير أو عن الدولة الفلسطينية، عن الكفاح المسلح أو غيره.

المادة الثانية، التي لفتت انتباهي، كانت لأسعد غانم، الأستاذ في جامعة حيفا، وعنوانها: «قانون إسرائيل- الدولة القومية للشعب الإسرائيلي» («كل العرب»، 23/7). والذي طالب فيه بمراجعة، أو نقض، مقولة «أن الصراع القومي تم حلّه أو أنه في طريقه للحل وان ما تبقى هو تعميق الديموقراطية في إسرائيل وفلسطين، من خلال تعزيز خطاب المساواة والحقوق». وفي دعوة منه لإعادة «التفكير في قبول فكرة التقسيم (القرار 181) التي تم رفضها اسرائيلياً على أرض الواقع» يقول: «قبول قيادات تاريخية لمبدأ التقسيم وحل الدولتين على أساس عرقي كان كارثة، ولا زال ولن يضرنا تصحيح الموقف، ولو رمزياً، بل قد يفيدنا عملياً في المستقبل، لا سيما أن قرار التقسيم انتهى مفعوله عمليا». وعموماً فهذه فكرة مثيرة للجدل وتستحق النقاش، وتفيد بأن الحديث عن الانفصال في دولتين غير ممكن، كما تبين في التجربة، لذا فإن غانم يرى أن «قانون القومية… يمثل نهاية فصل «إقامة دولة إلى جانب إسرائيل» بالنسبة لقيادة منظمة التحرير»، ما يتطلب «إعادة الاعتبار للرؤية الكولونيالية للصراع، والتصرف بناء عليها». وبالنسبة إلى فلسطينيي 48 فإن غانم يعتقد بأن «حق تقرير المصير»، لم يعد مقبولاً «أن يكون لمجموعة واحدة»، لذا فهو يدعو إلى «صياغة وثيقة وطنية جديدة تتضمن ذلك، من غير الذهاب إلى غياهب شوفينية وفاشية وقومية تكون «نسخاً عربياً» للموقف الإسرائيلي، بل تصر على التصور الديموقراطي والنسبي والمرن لحق تقرير المصير». ويختم مقالته بالقول إن «أفضل الردود هو نشر تصور متكامل لمشروع يهدف الى تعميق الهوية، وتصور الجماعة لنفسها، وهذا صحيح لعموم الفلسطينيين..في أطر مختلفة»، مؤكداً أن «تغيير اسرائيل مستقبلاً لا يتمّ الا بوجود الفلسطينيين وشراكتهم»، ناقلاً الأمر من الوعي المحلي إلى الوعي الوطني العام.

المقالة الثالثة لسعيد زيداني، الأستاذ في جامعة القدس، وعنوانها: «مشروع قانون الدولة القومية»، عرب 48، 8/6/2017، وكان كتبها إبان التحضير للقانون المذكور، الذي رأى فيه «خمس رسائل لخمسة أطراف»، الأولى للاجئين الفلسطينيين، ومفادها: عودتكم بأعداد كبيرة ونسب عالية إلى قراكم ومدنكم داخل حدود دولة إسرائيل… غير واردة… الثانية، موجهة للفلسطينيين داخل حدود دولة إسرائيل، ومفادها التالي: ليس لكم حقوق جماعية… الدولة القومية لليهود… أنتم مواطنون أفراد وجماعات دينية… فلا تحلموا بالانفصال عن جسد الدولة، ولا تجنحوا نحو تحويلها إلى دولة ثنائية القومية، ولا تتعللوا بأفكار حول حكم ذاتي جغرافي أو ذي معنى…الثالثة، هي لليهود خارج حدود دولة إسرائيل: ومفادها أن إسرائيل هي دولتكم القومية فحافظوا عليها وعلى يهوديتها… الرابعة، موجهة إلى أنصار أو دعاة الدولة الديموقراطية الواحدة… وتقول صراحة: لا مكان لدولة واحدة يتساوى فيها الفلسطينيون والإسرائيليون اليهود في حقوق المواطنة، سواء كانت ثنائية القومية أو مفدرلة أو ديموقراطية ليبيرالية. الخامسة موجهة للمحكمة العليا وأنصارها… ومفادها: ليهودية الدولة أولوية واضحة وصريحة على ديموقراطيتها…» وفي محاولته الإجابة عن سؤال ما العمل؟ يقترح زيداني أن يكون النضال «أهلياً وبرلمانياً ودولياً… إعطاء المركّب الديمقراطي في تعريف الدولة الأولوية…على المركّب اليهودي..التخفيف قدر الإمكان من سمك المركب اليهودي والتعويض عما يتبقى منه بشكل أو بآخر من الحكم الذاتي للفلسطينيين داخل دولة إسرائيل… أسبقية القضية الحقوقية والديموقراطية على القضية القومية أو الدينية (في حال التعارض بينهما). وفي مقالة أخرى يقترح زيداني دولتين أو نظامين سياسيين في أرض واحدة، أي من دون فصل جغرافي أو ديموغرافي، الانفصال سياسياً، والاشتراك في الموارد التي لا يمكن تقاسمها (الأرض المياه الثروات الطبيعية والمعابر)، باعتبار ذلك هو الحل الذي يعالج قضايا اللاجئين وقضايا الاستيطان والقدس والحدود، والحفاظ على الخصوصيات الجماعية لكل طرف، ففي هذا الخيار برأيه حل وسط بين حل الدولة الفلسطينية وحل الدولة الواحدة.

من كل ما تقدم يمكن الاستنتاج أنه لا يوجد حل ناجز أو مثالي للقضية الفلسطينية، لاسيما في هذه الظروف، وأنه لا يمكن الفلسطينيين وحدهم الكفاح ضد عنصرية إسرائيل ومن اجل المساواة بدون مشاركة قطاعات من الإسرائيليين الليبراليين، الذين يرون أن عنصرية إسرائيل ستكون على حسابهم وعلى حساب الديمقراطية وحقوق الأنسان والمواطنة، وأن الانطلاق من الواقع لتطويره أو تغييره هو الأساس، بعد كل هذه التجربة، بعيداً من الشعارات، ومن العقليات الفصائلية التي لم تعد تفيد أو لم تعد تضيف شيئاً.

أما على الصعيد الفلسطيني، وإزاء المعطيات الراهنة، فإن الفلسطينيين معنيون برد يتناسب مع الأخطار الكامنة في هذا القانون، الذي كشف صراحة عن طابع إسرائيل كدولة استعمارية واستيطانية وعنصرية، والذي يستهدف الشعب الفلسطيني كله، في أماكن وجوده كافة، الأمر الذي يفترض وضع ذلك في مركز الثقافة السياسية الفلسطينية، وإعادة الاعتبار لوحدة الشعب الفلسطيني ووحدة قضيته ومصيره، وللتطابق بين أرض فلسطين وقضية فلسطين وشعب فلسطين، وبناء الكيانات التي تعزز ذلك، على الأصعدة كافة.

  • Social Links:

Leave a Reply