أيّاً تكن التسمية، محادثات بغرض “جسّ النبض” على حد تعبير الرئيس الأسبق لحزب الاتحاد الديمقراطي، صالح مسلم، أم جولة مفاوضات ابتدائية قد تمهّد لمفاوضات واتفاق لاحق مع النظام السوري، فإن اللقاء بين مجلس سوريا الديمقراطية، الذراع السياسي لقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، والنظام السوري، قد حصل. وبمعزل عن النتائج الأوليّة، يمكن الحديث عن تخلّص الطرفين من الحرج المتواصل الذي حال دون تلاقيهما في العلن.
كثرت التكهنات والترجيحات المتصلة بمخرجات اللقاء، إلّا أن كل ما رشح منه لا يكاد يفسّر توقيت التفاوض الأوّلي هذا وشكله ونتائجه، ذلك أن التوقيت جاء بُعيد الاتفاق الروسي الأميركي الذي أنهى بموجبه وضع الجنوب السوري، محافظة درعا تحديدا، لمصلحة النظام وبأقل الأكلاف، وفي ظل حديث النظام السوري عن الاستعداد لعملية استعادة إدلب، وأيضاً يأتي اللقاء على مقربةٍ زمنيةٍ من تصريح وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، الذي جدّد الحديث عن أن الولايات المتحدة تدعم سكان شمالي شرقي سورية في أي تسويةٍ مقبلة، في إشارة إلى حلفائه في “قسد”.
يبدو تصوير التفاوض بأنه رسالة من “قسد” موجهة إلى الأميركان أمراً غير قابل للتصريف، فالوشائج العسكرية بين الولايات المتحدة وحليفتها “قسد” ما تزال قائمة ومتينة، أقلّه حتى هذه اللحظة. ولكن يمكن قراءة مشهد التفاوض في سياق مغاير وأقرب إلى الواقع من خلال الحديث عن اتفاق روسي أميركي، يدعم جهود خوض تسويةٍ من هذا النوع، ففي السنوات السابقة التي خاضت فيها المعارضة حلقات تفاوض مع النظام السوري في جنيف وأستانة وسوتشي، كان هناك إصرار لدى المعارضة والدول الإقليمية الداعمة لها على استبعاد “قسد”، لأسباب متصلة بالنفوذ التركي، الغريم المباشر لهذه القوات، على الرغم من إصرار الولايات المتحدة غير مرّة على وجوب تمثيل هذا الفصيل السياسي – العسكري الحليف ضمن فريق المعارضة المفاوض، إلى جانب عدم إبداء الروس أي تحفّظ على حضور “قسد”، بيد أن فشل الولايات المتحدة في
ذلك المنحى دفعها إلى غضّ النظر عن التفاوض الجاري، والذي سبقته لقاءات بين مجلس سورية الديمقراطية والنظام، كما حصل في مدينة الطبقة، والتي وُصفت بأنها ترمي إلى معالجة بعض الأمور الخدميّة، وقبل ذلك عندما فاوضت القوات النظام السوري في الأيام الأخيرة لسقوط عفرين الخارجة عن تأثير الولايات المتحدة وحضورها.
بعيداً عن التقديرات، يمكن القول إن النظام سيبقى مصرّاً على رفض مشروع الإدارة الذاتية بوضعه الحالي، وسيصرّ على قانون الإدارة المحليّة المعمول به، وقد تدفع عملية التفاوض وتبدّل الوقائع على الأرض النظام إلى تطوير هذا القانون، ليصبح أقرب إلى صيغة الإدارة الذاتية الذي قد يمنح المواطنين الأكراد حقوقاً ثقافية سبق وأن رفضها النظام في مراحل لاحقة من حكمه المديد، كما أن مسألة تشكيل “لجان مشتركة” بين الجانبين ستجعل من عملية تأطير التفاوض مقامةً على جداول زمنية ومراحل متتابعة، وبالتالي سيحمل الأمر الفريق المفاوض إلى التخفيف من الحمولة الإيديولوجيّة التي تحلّى بها طوال الأعوام السابقة، للوصول إلى مشتركات إدارية وسياسية، وخصوصا في المجال الخدمي الذي تؤيده الولايات المتحدة، وفق ما صدر عن المبعوث الأميركي الخاص، بريت ماكغورك، الذي أشار إلى أن التفاوض يجب أن يركّز على الجانب الخدمي، ذلك أن الولايات المتحدة تعي أكلاف بقاء مناطق شرق الفرات معزولةً عن جوارها الإقليمي، وكذلك الداخلي السوري.
تمثّل مسألة آلاف المقاتلين المنضوين في قوات سوريا الديمقراطية، والمدعومين من التحالف الدولي، إحدى العقبات الناتئة في طريق أي تسويةٍ بين دمشق والقامشلي، بالإضافة إلى المسائل الإدارية، كالمؤسسات الرديفة التي أنشأها حزب الاتحاد الديمقراطي، في موازاة مؤسسات الدولة السورية. يضاف إلى ذلك مصير أكثر من ثلاثين ألف موظّف، يتقاضون رواتبهم مباشرة من الإدارة الذاتية، ولا يغيب عن المشهد أيضاً حال منظّمات المجتمع المدني التي هيّأت الإدارة لهم سبل العمل والارتباط بشبكات مموّلة وراعية غربيّة، والتي تخشى من عودة القبضة الأمنيّة التي تحظر كل نشاط من هذا القبيل، وكذلك مسألة المعابر الحدودية، كما أن النظام القضائي الذي وطّدته الإدارة طوال السنوات السابقة يستلزم إيجاد حلٍّ منطقي، يفضي إلى دمجه أو حلّه، ليصار إلى وحدة قضائية في مناطق الإدارة التي عرفت تشريعين ومحكمتين متوازيين طوال سنوات الأزمة السورية، إلى ذلك من مشكلات بات حلّها يستلزم جداول زمنية، ونقاشات
معمّقة، لا سيّما وأن مناطق الإدارة تستبطن خشية وحذراً من فكرة عودة المؤسسة الأمنية التي قد تقتصّ من المعارضين، سواء أكانوا من الأكراد أو من بقيّة العناصر القومية.
لن تكون مسألة المفاوضات سهلةً بالمطلق، في غياب الرعاة الدوليين عن مشهد التفاوض، وبغياب عناصر الإلزام التي قد تساهم في ترجمة نتائج التفاوض إلى واقع عملي، وبالتالي ثمّة إمكانية أن يفضي التفاوض إلى إشكالاتٍ وصداماتٍ لاحقة في منطقةٍ مختلطة إثنياً، ومؤهلة للدخول في حربٍ أهلية جديدة، هذا إذا أُخذت في الحسبان عقلية النظام القائمة على فرض المركزية الصارمة، ورفضه تمكين المناطق من حكم نفسها بنفسها، مهما بدا ذلك سهلاً نظرياً، والحال قد تدخل المفاوضات الابتدائية هذه نفقاً مظلماً، لا يفضي إلى أي نتيجةٍ مرجوّة، أو قد يتحوّل إلى تفاوض مديد وتدريجي، يدفع النظام إلى تقبّل فكرة الشراكة على أساس من اللامركزية.
تفيد المصادر بأنه، قبل بدء المفاوضات، اصطحب النظام وفد مجلس سوريا الديمقراطية بجولةٍ في مناطق من الغوطة الشرقية شبه المدمّرة، ليتنقّل من خلالها الوفد بين الخرائب والركام، في إشارة إلى إمكانية تعويم نموذج الحل التدميري في الغوطة وسحبه على مناطق شمالي شرقي سورية. لكن ومهما يكن من أمر تهديد النظام، أو إصرار مجلس سوريا الديمقراطية على موقفه في ما خصّ اللامركزية، تبقى مسألة التفاوض ونجاحه معقودةً على التفاهم الروسي الأميركي، من دون التقليل من إمكانات اللاعبين المحليين في الوقت نفسه.
Social Links: