في غمرة النقاش حول قانون قومية دولة الاحتلال الإسرائيلي، التي يحدث أنها ما تزال «واحة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط» لدى دول وجماعات وأفراد هنا وهناك في أرجاء العالم، وفي الغرب تحديداً؛ ثمة ما يفقأ أعين أبناء هذه «الديمقراطية» أنفسهم، وقبل سواهم بالتالي، ويهبط بالسجال حول قومية «الدولة اليهودية» إلى أسفل سافلين. قلّة قليلة من «الجيل الوسيط» الإسرائيلي، إذا جاز التعبير هكذا، ما تزال تقتات على استعادة الحلم الصهيوني الأبكر، حين لاح أنّ الكيبوتز مزيج من مزرعة تنمية ومواطنة ورخاء، ومتراس ديمقراطية وحقوق إنسان وعلمانية. جيل «الآباء المؤسسين» اندثر أو يكاد، وما تبقى منه يتمرغ في أحضان بنيامين نتنياهو، بعد أن انقلبت الصهيونية عنده إلى قومية دينية انعزالية عنصرية أين منها أبارتيد جنوب أفريقيا. الجيل الثالث، أو الراهن في تعميم لا مناص منه، هو ذاك الذي تشهد عليه نتائج كلّ دورة انتخابية، على مستويات شتى، وتعكسه تركيبة الكنيست ونماذج الأعضاء «الشباب» في هذا المحفل العصابي.
للمرء أن يدع جانباً ممارسات الاحتلال ضد الفلسطينيين، فهذه باتت وصفة مكثفة لشخصية دولة الاستيطان والتمييز والتصفيات الجسدية واعتقال الأطفال وهدم البيوت واقتلاع البيارات؛ فيذهب المرء إياه إلى ما تمارسه مخابرات الـ»شين بيت» الإسرائيلية ضدّ مواطني «الحلم الصهيوني» أنفسهم، اليهود كابراً عن كابر، غنيّ عن القول. الناشط مورييل روثمان ـ زيشار احتُجز قبل أيام في مطار بن غوريون، على خلفية انتمائه إلى المنظمتين اليساريتين «كسر الصمت» و«كلّ ما هو يسار»، المرخص لهما قانونياً، للإيضاح المفيد. قبل شهر، في المطار إياه، احتُجزت يهوديت إيلاني لأنها غطت حكاية أسطول كسر الحصار المتوجه إلى غزّة؛ وقد سبقتها إلى احتجاز مماثل تانيا روبنستين، بسبب مشاركتها في مؤتمر نظمته وزارة الخارجية السويدية. وأما الواقعة الأطرف فقد كانت توقيف الأمريكي اليهودي مئير كوبلو، الذي تبرّع بالملايين لدولة الاحتلال، وذلك لحيازته كراساً فلسطينياً «مشبوهاً»: ما الذي ستفعل به حين تعود إلى أمريكا، سأل محقق الـ»شين بيت»!
وفي صحيفة «هآرتز» تقرأ زيهافا غولان هذه الوقائع على خلفية رأي يوفال ديسكين، في سنة 2007 حين كان رئيس الـ»شين بيت»؛ فاعتبر أنّ أعمال «الفتنة» يمكن أن تنطوي أيضاً على «محاولة تغيير القوانين الأساسية للدولة»، وأنّ أجهزة المخابرات الداخلية تعتبر ذاتها مخوّلة بمراقبة وحفظ الأنشطة السياسية القانونية، وباستخدام أدوات اختراقية بغرض «جمع المعلومات». وما كان مثيراً للجدل قبل 11 عاماً، تتابع غولان، صار ممارسة مقبولة اليوم، وبات «نشر الغسيل القذر علانية» تهديداً وجودياً يتيح تبييض أي أمر، من تحقيقات الـ»شين بيت» إلى القوانين الهادفة إلى إسكات الأصوات: «البيت طافح بالغسيل القذر، ولكنّ غسله محظور»! ولا غرو، تتابع غولان، أنّ المؤسسة الإسرائيلية التي غسلت 51 سنة من نهب الأراضي الفلسطينية، هي ذاتها التي تنقلب اليوم على ركائز «الدولة» بذريعة الحاجة إلى كسر البيض لصناعة العجة!
جبهة ثانية يمكن للمراقب متابعة نيرانها، المشتعلة تحت الرماد وفوقه في الواقع، هي حال دروز دولة الاحتلال مع قانون القومية الجديد؛ وكيف تعالت احتجاجاتهم لأنّ القانون يحيلهم إلى مواطنين من الدرجة الثانية (بافتراض أنهم تمتعوا، أصلاً، بمواطنة من الدرجة الأولى في أيّ يوم من تاريخ هذا الكيان). فلقد سارعت قيادة جيش الاحتلال إلى تعليق عمل الضابط شادي زيدان، الذي كان نائب قائد سرية، لأنه «لا مكان للخطاب السياسي» في «جيش الدفاع الإسرائيلي. وأمّا الخطاب الذي أثار حفيظة رئاسة الاركان، فقد كان ما كتبه زيدان في صفحته على «فيسبوك»: «إنني مواطن مثل الجميع وقد قدّمت كلّ ما أملك. وفي النهاية أجد نفسي مواطناً من الدرجة الثانية. لست مستعداً لأن أكون جزءاً من هذا. كذلك فإنني أنضمّ للنضال، وقد قررت التوقف عن خدمة هذا البلد. حتى هذه الساعة وقفت أمام علم الدولة بفخار وقمت بتحيته. وحتى هذه الساعة أنشدت نشيد الهاتكفا لإني كنت واثقاً أنّ هذه بلدي وإنني متساو فيها مع الجميع. ولكني اليوم، وللمرة الأولى في خدمتي، أرفض تحية العلم، وأرفض إنشاد النشيد الوطني». قبل زيدان كان ضابط آخر من أبناء الطائفة الدرزية، عمير جمال، قد أعلن احتجاجه على قانون القومية، وكتب أنه سوف ينسحب من الخدمة في جيش الاحتلال، وطالب قادة الطائفة بدعوة الشباب الدرزي لرفض التجنيد الإلزامي للدروز.
لا يلوح أنّ هذا هو رأي قادة الطائفة، كما يمثلهم الشيخ موفق طريف، الرئيس الروحي للطائفة ورئيس المجلس الديني الأعلى ورئيس محكمة الاستئناف الدرزية؛ إذْ قد يرى الرجل أنه يتمتع بكامل مزايا المواطن من الدرجة الأولى، هو الذي اختارته وزيرة الثقافة الإسرائيلية، ميري ريغيف، لكي يكون أحد موقدي شعلة الذكرى السبعين لإقامة الكيان الصهيوني. فبعد اجتماعه، على رأس وفد من ممثلي الفعاليات الدرزية، مع مسؤولين في مكتب نتنياهو، صرّح الشيخ طريف أنّ الوفد «أوضح بجلاء وإجماع أنّ مسألة الولاء للدولة ليست على جدول الأعمال»، وأنّ الوفد «يرجو أبناء الطائفة الاستمرار في اعتناق القِيَم المشتركة والولاء المطلق لدولة إسرائيل». المشكلة أنّ هذه «الدولة» لا تبدو راغبة، من جانبها، في استقبال هذا الولاء، مطلقاً كان أم نسبياً؛ إذْ أنّ قانون القومية لا يترك هامشاً للإعراب عن ذلك الولاء، بقدر ما يُلقي به في سلّة مهملات التميّز الصرف للمواطن اليهودي… وحده، لا حليف له ولا شريك!
الأمر الذي يقود إلى جبهة «الجيل الوسيط»، الذي اختار أن يكون البيض الذي لم تتوقف الصهيونية عن تكسيره تحت شعار صناعة العجة، أي «دولة إسرائيل الديمقراطية المدنية العلمانية»، فلم ينتهِ اليوم إلا إلى عجّة العنصرية والانعزال والاستيطان والفاشية والأربارتيد. هذا ما تقوله عريضة موجهة إلى نتنياهو، وقّعها مئات الكتّاب والمثقفين الإسرائيليين، وعلى رأسهم أمثال دافيد غروسمان وعاموس عوز وأ. ب. يهوشاع وإشكول نيفو وإتغار كيريت وأورلي كاسل ـ بلوم، تحت عنوان «أبطلْ هذا الإثم»، تطالب بإلغاء قانون قومية الدولة، لأنه «توجد تجاوزات يمكن للمحكمة أن تقضي فيها، ولكن توجد آثام تمسّ جوهر الشعب اليهودي ووطنه، تستحق انتباه المثقفين وحكم التاريخ». العجيب، مع ذلك، أنّ العريضة تحتج على توصيف دولة الاحتلال بـ«الدولة ـ الأمّة للشعب اليهودي»، لكنها في الآن ذاته تقرّ مفهوم «الوطن اليهودي»، دون أن ترى في التقاطع هذا صيغة تطابق أو تكامل! ذلك لا يمنع الموقعين على العريضة من استنكار «التمييز العنصري والديني» الذي يتيحه القانون بكل وضوح، و«إبطال العربية كلغة رسمية إلى جانب العبرية»، و«عدم ذكر الديمقراطية كركيزة للبلاد»، و«إغفال ذكر المساواة كقيمة أساسية»…
لكنّ غروسمان، بوصفه أحد مشاهير العريضة، كان قبل أسابيع قليلة قد تغنى بدولة الاحتلال، في معظم الحوارات التي أجريت معه على هامش إحياء الذكرى السبعين لإقامة الكيان؛ وشدد على إنجاز تاريخي هائل اسمه «دولة إسرائيل»، ولم يكن جدّه يتصور في أيّ يوم أنّ الحلم العسير سوف يصبح حقيقة. هو غروسمان ذاته الذي سوف يواصل إقرار تكسير البيض الصهيوني إلى أجل غير مسمى، علّ تلك «الدولة» المنشودة ترى النور ذات يوم، قريب أو بعيد؛ وسيان، في غضون ذلك، أنها اليوم ترث الأبارتيد في سيرورات إعادة تدوير للنظام البائد، هي الأشنع والأبشع.
Social Links: