يكاد ينقضي شهر على (المونديال) يوم فاز الفريق الفرنسي ببطولة العالم لكأس كرة القدم (بالضبط يوم الأحد 15 ـ 7 ـ 2018)، لكن تداعيات تلك الفرحة الفرنسية الكبيرة ما زالت مستمرة في الإعلام الفرنسي. وربما لذلك، لم يتذوق الكثيرون القول الذكي الساخر لمذيعة الأخبار في إحدى القنوات الفرنسية «لورانس فيراري» التي وصفت اللاعبين بمجموعة من أصحاب الملايين يركضون خلف كرة!
وهو قول وجدته طريفًا، والمعروف أن اللاعب المتفوق يربح الملايين.
لن تكون كرة قدم بعد اليوم!
وقياسًا على قول «فيراري» شعرت بالحزن كعربية، لأن بعض أوطاننا العربية صارت تشبه كرة قدم يركلها الجميع: الفريق الإيراني والروسي والأمريكي والتركي والإسرائيلي وغيرهم، وكل منهم يحاول إدخالها في مرمى الفريق الآخر لامباليًا بما يصيب تلك الكرة المسكينة من ضربات. وقد نجح الفريق الإسرائيلي مثلاً في تسجيل هدف داخل المسجد الأقصى حين دخلت إليه جموع من (أولاد نتنياهو بتشجيع من الحَكَم غير العادل ترامب) محمية بحراسة مسلحة من جيش الاحتلال بزعم زيارة (الهيكل) الذي تدعي إسرائيل أن المسجد الأقصى يقوم فوقه.. ما يذكرنا بتحويل جامع قرطبة على كاتدرائية بعد هزيمة (الأندلسيين). وكل عمود وقوس فيها يشهد على روعة الحضارة الإسلامية الإبداعية، ولعله أجمل مسجد في العالم شاهدته.
الحيوية الإعلامية الفرنسية
انتصر الفريق الفرنسي وقفز الناس في الشوارع فرحًا، لكن أهل الصحافة (قفزوا) إلى عملهم، وكان من المثير للإعجاب في نظري سرعة تغطية المجلات الفرنسية للحدث بإتقان مهني نادر وبسرعة قياسية. مجلة (باري ماتش) مثلاً التي صدرت في عدد خاص يوم 18 ـ 7 حملت على غلافها صور لحظة الانتصار وقدمت كملحق في المجلة ثمانين صفحة حول الفريق المنتصر لاعبًا بعد الآخر.. واستطاعت الحصول على صورهم أطفالاً كما لبداياتهم ولعائلاتهم وحبيباتهم وحياتهم الرياضية قبل النصر.. كل ذلك خلال 48 ساعة، حيث تولى كتابة ذلك الملحق أكثر من عشرين محررًا، وقد وجدت في ذلك نصرًا صحافيًا تجلى في بعض المنابر الأخـــرى على نحو ما في المجلات الفرنسية غير السياسية.
وغطت الصحافة اليومية، كما البرامج التلفزيونية، أسبوعًا بعد آخر، صور استقبال (الأبطال) في قراهم الأم ومدنهم التي نبتوا فيها أو الأحياء الفقيرة في الضواحي، كما فخر الذين عرفوهم في صغرهم، وتم استجواب جيرانهم وكل من عرفهم.
الديوك الزرق قطفوا نجمة ثانية
بلغ من اهتمام فرنسا بأبطالها «الديوك الزرق» أن أهل الصحافة حاوروا كل من يمت إليهم بصلة، حتى سائق سيارة النقل المكشوفة الـــتي مروا بهــــا في جادة الشـــــانزيليزيه حيث وقفوا لتحية حوالي ربع مليــــون شخص كانوا في انتظارهم! أما (الإعلانات) عن البضائع في التلفزيون فبدأت كلها بعبارة «شكرًا لكم أيها الديوك الزرق لأنكــم غمرتمونا بالفرح». وبصفتي عربية، كم أفتقد جرثومة الفرح! وكم كنت أتمنى لو فاز فريق عربي بذلك! وعساه يحدث عام 2022 حين تنظم قطر المباريات.
الفرح الممتزج باللؤم
مجلة (شارلي ايبدو) التي سبق أن سخرت من (سيدنا محمد عليه السلام) بكثير من السم تصب اليوم لؤم كاريكاتيراتها على رئيس الجمهورية الفرنسية ماكرون، الذي قفز فرحة حين فاز الفريق الفرنسي. الفرنسيون أحبوا تغطية قوس النصر بالضوء الأزرق مع صور أبطال الفريق المنتصر، فباريس تتقن فن الاحتفال وترحب بجرثومة الفرح التي تشتاق إلى (الإصابة) بها كعرب.. ويحزننا أن بعض أوطاننا صارت ملعبًا لأقدام بلدان أجنبية تركلنا ونتركها تتقاذفنا ككرة قدم.
الانتصار المضاد لسم العنصرية والطائفية
الفريق الفرنسي المنتصر كان يضم فرنسيين من أبناء الضواحي أيضًا بغض النظر عن الأديان والطوائف، وهذا الانتصار لقاح ضد سم العنصرية، وبين (الأبطال) كثير من أبناء المهاجرين من أصل أفريقي، وحسنًا فعل سفير فرنسا في واشنطن حين رفض تعبير «أفريقيا فازت بكأس العالم»، قائلاً: «إن فرنسا لا تصنف مواطنيها وفق العرق أو الدين أو الأصل» وعسى أن نتعلم من ذلك، نحن العرب، ونكف عن حروب محلية طائفية حين يصنف بعض الزعماء المواطنين على هذا النحو ليستغلوا أبناء طائفتهم في حروب محلية وخارجية، رافضين ضمنًا سلطة الدولة التي ينبغي بسطها على الجميع. بعض الصحف الغربية التي لم يفز فريقها علقت ببعض اللؤم على الفوز الفرنسي كما في جريدة «نيويورك تايمز» مثلاً 18ـ7ـ2018، حيث كتب انتوني بلينكن: هل يستطيع ماكرون أن يقدم لأبناء الضواحي ما قدموه لفرنسا؟
أما جمال رئيسة جمهورية كرواتيا فقد لفت نظر بعض العرب على مواقع التواصل الاجتماعي!
ونسوا أن تلك المرأة لم تصل إلى الحكم لأنها جميلة، بل لأسباب سياسية كثيرة ومهارات في حقول وطنية.
وقبل ذلك كله، علينا أن نرفض كعرب تحويلنا إلى كرة قدم لهذا الفريق أو ذاك، فقد تعبنـــا من الإذلال ولن نألفه!.. لا، لن نألفه.
Social Links: