ينطلق الروس من مسلّمةٍ سياسية، وهي قمع الثورات؛ ولهذا رفضوا كل الثورات “الملونة” المحيطة بروسيا، وغزوا دولًا وحاصروا أوكرانيا واقتطعوا أجزاء منها وتآمروا على بعضها. روسيا أيضًا رفضت غزو ليبيا، باسم إيقاف نظام القذافي عن ارتكاب المجازر؛ وهذا يعني أنها لن تعترف بالشعب السوري ولا بثورته، وستعيد تأهيل النظام الاستبدادي، فهو يشبه النظام الروسي ذاته. وما فعلته منذ أن غزت سورية في أيلول 2015 يؤكد ذلك، ومشكلة روسيا في الأطراف الإقليمية والدولية التي تتصارع على سورية، وهي أطراف تتلاقى وتتصارع معها بخصوص غير سورية كذلك.
إن لروسيا مشكلات مع أميركا وأوروبا، وهي تسبق أزمة سورية؛ وبسبب سورية تعقدت تلك المشكلات. روسيا محاصرة بعقوبات دولية كثيرة وبوضعٍ اقتصادي هش، وبصراعٍ دولي مع أميركا وأوروبا، وبالتالي لا يمكنها تجاهل كل تلك الأطراف، إذا أرادت التفرد في احتلال سورية. مشكلة أوروبا إزاء سورية تكمن في السياسة الأميركية، التي تثير نقاشات عالمية كثيرة حولها، ومفادها غياب سياسة رادعة للروس، واعتماد سياسات فوضوية في الشؤون الدولية، وهذا ما يسمح للروس بفرض نفوذهم العالمي، وكأنّهم دولة تساوي أوروبا أو أميركا.
أميركا لا ترفض السيطرة الروسية على سورية، وقد صمتت عما فعلته فيها منذ 2015، ولا تشكل الضربة الثلاثية منذ أشهرٍ للنظام السوري أي سياسة جديدة أو مخالفة للروس، حيث تُرك النظام يتابع تدميره للمدن السورية وتهجيره للملايين ودفن مناطق التصعيد بالتدريج، بل إنها تخلت عن درعا برسالةٍ واضحة للروس: خذوا سورية كاملة، ولكن لدينا شروطًا متعددة، أهمها إبعاد إيران من الحدود مع “إسرائيل”، ولن نختلف أيضًا بخصوص المناطق التي تحت سيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي. روسيا التي تعي أن الوضع السوري ليس بسيطًا، وأن هناك مشكلات إيران مع أميركا ومع أكثر من دولة عربية، تريد الاستثمار في كل هذه القضايا للإقرار الكامل باحتلالها سورية، ومحاولة رفع العقوبات الدولية ضدها، والتخلي عن أوكرانيا أيضًا.
تعمدت روسيا الإبقاء على منطقة خفض التوتر الخاصة بإدلب، مع تحذيرٍ شديد، بأن (جبهة فتح الشام) يجب شطبُها بالكامل لأنها منظمة إرهابية، وهي رسالة لأوروبا وأميركا كذلك، بأن روسيا تتحالف معهم ضد الارهاب. تأجيل حسم موضوع إدلب لا يعني رفض محاولات النظام التقدم في أكثر من منطقة للضغط على تلك المدينة وعلى تركيا، وإجبار الأخيرة على الإسراع في ذلك. إن دولة القيصر تراقب مجريات مدينة إدلب بدقة كبيرة؛ وهي تتقدم لدولٍ كثيرة بمشاريع متعددة لإعادة اللاجئين السوريين، في كل دول العالم، وبالتالي لا يمكنها أن تشن معركة في إدلب تتسبب في هجرة ملايين السوريين إلى تركيا. روسيا وتركيا متفقتان على ضرورة إخضاع إدلب بالكامل؛ ولهذا نجد تركيا تعمل من أجل تشكيل جيش تحرير وطني لتحرير إدلب. تركيا مجبرة على إيجاد حلّ لتنظيم فتح الشام وحركة حراس الدين والحزب التركستاني والجهاديين الأجانب المتواجدين في إدلب. هي مهمة صعبة بالتأكيد، وتقتضي الشطب الكامل لمشروع الجولاني بإمارة إسلامية هناك، وكل محاولات الأخير للتقرب من تركيا باءت بالفشل، حيث أشرف تنظيمه على حماية وتأمين القوات التركية، لنشر قواتها للمراقبة المتفق عليها في أستانا، وشكَّلَ حكومة في الداخل، وحاول تمثيل المجالس المحلية المستقلة عنه فيها، أي أن جبهة فتح الشام تريد إعادة تأهيل نفسها دون خسارات كبيرة. قلنا إن كل ذلك لم يعد له قيمة تذكر، فدرعا والجولان انتهتا، والوسط أصبح بيد روسيا والنظام، والشمال يحاور النظام بدفع من أميركا، وعلى ذلك؛ لم تعد هناك مناطق خارجة عن السيطرة وتسمح لفتح الشام بالمناورة واللعب. إذًا مصير إدلب موضوع على طاولة أستانا والنقاش الروسي التركي، وبالتالي إمّا أن تَحسم تركيا الأمر، أو أن روسيا ستقوم بالأمر ، وفق رؤيتها للحرب بالتعاون مع النظام وإيران.
القضية الأخيرة توضِّح ممانعة روسيا إجبار إيران على الخروج من كل سورية، وتأكيدها الاكتفاء بابتعادها من حدود “إسرائيل” 100 كيلومتر. هذا الموقف يفسّر بأنها لا تريد تورطًا بريًا واسعًا، وستظل تعتمد على إيران وميليشياتها لحل القضايا الإشكالية في الداخل السوري، وهو ما فعلته منذ أن غزت سورية، واعتمدت على تركيا كذلك، ولا سيما بعد احتلال حلب وما تلاها، مشكلة روسيا هنا أنها لم تستطع حتى اللحظة تشكيل جيشها الخاص “الفيلق الخامس”، وهذا ما يتيح لكل من إيران والنظام أن يلعبا بعض الوقت، وكذلك لتركيا!.
في غير لقاء أستانا العاشر، وفيه كذلك، طرحت روسيا مؤخرًا ملف إعادة اللاجئين، وأجرت لقاءات إقليمية ودولية بخصوصه، وهي تستفيد منه من أجل إظهار أنها الوحيدة الساعية لحل الوضع السوري، وأن لديها القدرة على ذلك، وهذا يلاقي هوًى لدى حكومات دول كثيرة إقليمية ودولية، للتخلص من اللاجئين أو إيقاف الهجرة إليها. ما تريده روسيا هو إعادة تعويم النظام وترميمه فقط، وذلك عبر عودة اللاجئين، وهذا ما لا ترفضه حكومات لبنان والأردن، بينما تتحفظ عليه تركيا، وأوروبا وأميركا؛ الأطراف الثلاثة تؤكد ضرورة تزامن ذلك مع بيئة سياسية آمنة، بينما لا يزال النظام على شكله القديم، أي نظام أمني عسكري، ولم تتوقف سياساته القمعية قط. روسيا تعلم ذلك، وهي تريد ابتزاز دول كثيرة عبر ورقة اللاجئين، وتصعيد الخلافات الداخلية في تلك الدول، فهناك أحزاب يمينية وهوى غربي يطالب بحل المشكلة السورية، ولو بقي النظام ذاته، وإعادة العلاقات مع روسيا. هنا اللعب الروسي “الرخيص”، ولكن ذلك لا يمكن تمريره على كل من أوروبا وأميركا، اللتين ما تزالان تؤكدان أن حل القضية السورية يمرّ عبر مؤتمر جنيف والقرارات الدولية الخاصة بسورية، وعبر انتقال سياسي، وبالتالي ليس من مشاركة في إعادة الإعمار وتعويم النظام وترميمه، قبل تحقق ذلك.
كل محاولات روسيا لإعادة اللاجئين باءت بالفشل، فمن عاد منهم لا يشكل رقمًا صعبًا؛ وبالتالي ما يجري حاليًا في سورية هو الاستمرار في المداولات الدولية المعقّدة، للوصول إلى توافقٍ سياسي بخصوص سورية؛ فهل ستنتصر روسيا عبر سلة الدستور والانتخابات لاحقًا، بالتوافق مع تركيا وإيران، أم أنها ستعود أدراجها إلى جنيف، وتتوافق مع أميركا وأوروبا على حلٍّ جديد، يتوافق مع مصالح تلك الدول، وإن كان على جثة حقوق الشعب السوري؟!
Social Links: