مراجعتي لكتاب آرماندو سالفاتوري “سوسيولوجيا الإسلام: المعرفة والسلطة والمدنية”
ترجمةربيع وهبة
-2017) شككت في ملاءمة سوسيولوجيا الدين بالمقارنة مع سوسيولوجيا المجتمعات أو الجماعات، وظنّنت أنّ الكتاب سيقوم بتعميمات مفرطة، خاصة عندما أخذت بعين الاعتبار أنّ الكتاب سيدرس مادة تغطي ما يمتد جغرافيًا من نهر النيل إلى نهر جيحون، وزمنيًا ما يمتد من الفترات الوسيطة (منتصف القرن العاشر إلى منتصف القرن الخامس عشر) إلى يومنا هذا. إلا أنّ شكوكي تبدّدت مع قراءة الكتاب، وتبين لي أنّ سالفاتوري تعامل مع موضوع كتابه بكثيرٍ من التمعّن والدقة. ولم يتعامل الكتاب مع الإسلام كدينٍ فحسب، بل تجاوز ذلك للتعامل معه كسلطة اجتماعية وسياسية وثقافية، من خلال عدسات المعرفة والسلطة والمدنية.
ويعدّ الكتاب جزءًا من مشروع مطوّل في سوسيولوجيا الإسلام، وسيتبعه مجلّدان آخران، إذ يعتمد في موضوعه على نظريات علم الاجتماع الكلاسيكية والتحليل الحضاري ونقد ما بعد الاستعمار، ولا شك في أنّ المقاربة العلمية التي اتبعها سالفاتوري تتجاوز هوس الفيلولوجيين الأوروبيين بالأصول “الحقيقية” للنصوص الإسلامية. وستتناول هذه المراجعة ثلاثة مواضيع: الأول منها هو منهجية سالفاتوري في التعامل مع مجموعة من المفاهيم (وخصوصًا المعمورة والمدنية) التي تعتبر مركزية في سوسيولوجيا الإسلام؛ وثانيها تصوّره لانتقال المعيارية الإسلامية عبر الزمان والمكان، وآخرها تأثير الموضوعين السابقين على فهم سالفاتوري لعمليّة التمدّن في المعمورة الإسلامية والعولمة؛ وسأختم بثلاث نقاطٍ نقدية.
المدنية في المعمورة الإسلامية
يعي سالفاتوري أهمية مشروعه، ولذلك فقد سلّح نفسه بالمفاهيم الملائمة للمقاربة التي يتبناها. فهو يشير إلى الإسلام على أنّه “معمورة” (ecumene)، ولا يشير إليه كـ”حضارة” (وهو مفهوم مهمّ للعلوم الإنسانية يرتبط بثقافةٍ أو لغةٍ واحدة. وقد أصبح مشحونا كثيرا بأحكام مثل مفهوم الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي أن هناك حضارة واحدة هي الحضارة الإسلامية والباقي مجرد مدنيات) ولا كـ”مجتمع محلي” (community) (وهو التعبير المستخدم في علم الاجتماع عادة للدلالة على الخلفية التراثية للمجتمعات المعاصرة). إنّ مفهوم المعمورة مشابه لمفهوم الأمة، إلّا أنّه “مقصودٌ بالأحرى جسمٍ جماعيٍ “لاعضوي” (‘an-organic’) يمكن أن يتحول إلى مجموعات متماسكة على المستوى المحلي والعابر-للمحلي والعالمي” (10)[2] ويقصد سالفاتوري باللاعضوي “بُعد الرابطة الاجتماعية الذي ينتج التماسك من خلال تشبيكات لها شكل التكرر الرزمي (rhizomatic replication)، أكثر من البعد “العضوي” للتضامن داخل المجتمعات الحديثة كما تم تنظيرها من قبل دوركهايم” (10). والمفيد في استخدام تعبير المعمورة أنّه يمثل تشابك الديني والمدني في المجال المحلي والكوني، بشكل حلقات متداخلة، دون وجود مركزية حصريّة. وبالتالي فالمعمورة هي فضاء تتكاثف فيه “مجموعة أنماطٍ شديدة الحراك من المعيارية والمدنية التي تؤمّن التماسك والتوجه للشبكات العابرة للمحلي وفي محليات متعدّدة.” ويشبه الفرق بين الأمّة والمعمورة تفرقة مارشال هودجسون بين الإسلامي (Islamic) (ذات البعد الحصري الديني) والظاهرة الإسلامية الحضارية (Islamicate)، التي كانت نتيجة المناطق الجغرافية التي سيطر عليها المسلمين ولكنها لم تكن إسلامية بالمعنى الديني، ويمكن أن نفرّق بنفس الطريقة بين الفارسي الإثني (Persian) والفارسي الحضاري (Persianate). إنّ هذا المفهوم مهمٌ جدًا في إعادة توجيه فهم المناطق ذات الأغلبية الإسلامية من الإسلامي الديني للبحث في شبكة الظواهر السوسيولوجية والحضارية المرتبطة وغير المنحصرة بالإسلام والمسلمين، والتي تشمل الأدبيات اللادينية ومختلف الممارسات الاجتماعية. ولذلك يسلّط هودجسون الضوء على مختلف الحضارات الإسلامية (الإيرانية-الساميّة، الصفوية، مغول الهند، العثمانية).
يقوم سالفاتوري بنقدٍ مقنعٍ لسوسيولوجيا ماكس فيبر التاريخية من خلال استثماره أعمال مارشال هودجسون، بريان ترنر، يوهان آرنسون، وصمويل آيزنشتات؛ ويرى سالفاتوري أنّ سوسيولوحيا الإسلام ستتخلص من انحيازيات ومركزية أوروبا المرتبطة بمفاهيم فيبر للأخوة والكاريزما والاستثناء الغربي. وبالتالي سيقوم سالفاتوري من خلال عمله في سوسيولوجيا الإسلام بزيادة تعقيد الإشكالية الفوكولية (نسبة لميشيل فوكو) حول تشابكات المعرفة والسلطة، فهو لا يراها كإدوارد سعيد أحادية الاتجاه: سلطة مشكلة للخطاب الاستشراقي، وإنما بوجود مصفوفات تُشكّل السلطة والمعرفة. فمثلا يرى سالفاتوري بأنّ المعرفة ذات المركزية الدينية تعرّف السلطة التي تنتج بدورها المعرفة المعطية للشرعية، والتي تحمل في طيّاتها مواطن الخلاف.
ولكي يتمكن كتاب سوسيولوجيا الإسلام من استثمار الديناميكيات التاريخية للمعمورة الإسلامية، تمّت الاستعانة بمفهوم المدنية (civility) بدل مفهوم المجتمع المدني لسبب سيتمّ تفصيله لاحقًا. والمدنية عاملٌ لخلق التماسك الاجتماعي. وقد يبدو مفهوم المدنية ضعيفا للتماسك مقارنة مع مفهوم الوعي الاجتماعي أو التضامن عند إميل دوركهايم، أو مقارنة مع الوعي الطبقي عند كارل ماركس، ولذلك عامل نوعي في تشكل النسيج المجتمعي والتعبئة الشعبية. فهي مركزية في طرح سالفاتوري في علاقتها بالمعرفة والسلطة، اللتين تشكلان إحداثيات المدنية، وناتجة عن شكل من أشكال “الجدلية بين القسر المادي والتماسك الاجتماعي” (16). وصلابة مفهوم المدنية ينبع من كونها عابرة للمحلي ومتعددة المراكز، فقد استمرت المدنية منذ الفترات الوسطى بفضل كيانين كانا يحدّدان تجلياتها، وهما الطرق الصوفية والأوقاف. وسيعتبرهما سالفاتوري أنهما ذاتا شكل ما وراء مؤسساتي (meta-institution). ويصر سالفاتوري على أهمية ما وراء مؤسساتي بدل المؤسسات فقط، وذلك أنّ التصور الغربي للحداثة محصور بالمؤسسات الفاعلة ضمن إطار الدولة الوطنية الويستفيلية Westphalian nation-state frame)).
كان الانتشار المتعدد الأشكال للفروع المحلية والعابرة-للمحلية للطرق الصوفية عاملًا بالغ الأهمية في توسيع نطاق حكم الإسلام. وذلك لقدرتها ليس فقط على استثمار العصبية القبلية في تشكل الدول كما بينه ابن خلدون، ولكن بتجاوز ذلك من خلال تأسيس لمدنية قاعدية (سلطة من أسفل إلى أعلى) عبر نظام الفُتوّات. ولم يكن انتقال المعرفة الإسلامية عند المتصوفة هرميًا على الشكل الذي قامت به طبقة علماء المسلمين، وإنّما كان خلال طبقات اجتماعية متنوعة أهمها طبقة التجار. أمّا في ما يتعلق بالوقف، فقد تم تصميمه لحماية الملكية العائلية من تدخل الدولة الذي من شأنه أن يؤدّي إلى تشكيل نظام إقطاعي. وقد أصبح الوقف تباعًا مصدر التمويل الأساسي لمجموعة متنوعة من الأنشطة الاجتماعية والتعليمية والخيرية، كما ساهمت الأوقاف في خلق فهمٍ إسلاميٍ مرنٍ وشموليٍ للمدنية، من خلال تجليات متنوعة في الخدمات والمؤسسات كالمدارس والنوافير والمستشفيات والمدافن، بالإضافة إلى تشكيلات متنوعة من المساحات الحَضَريّة كالأسواق والمساجد الكبيرة والساحات العامة. وبعكس نظرة فيبر للوقف على أنّه أعاق ظهور الرأسمالية، يرى سالفاتوري أنّ الوقف “قد شكّل عقدا (nodes) في الشبكات التي عزّزت التجارة بعيدة المسافات، والتي كانت شرطًا لا غنى عنه لتراكم رأس المال” في فضاء المعمورة الإسلامية” (121).
المعيارية الإسلامية
يصر سالفاتوري على أهمية المعرفة المتداولة في الإسلام من خلال المعيارية الإسلامية المنصوصة في الشريعة والتي تُؤكّد من خلال حديث النبي (ص)، ونشأت منافسة وتكامل بين الفقهاء وسادة الصوفية من خلال المدارس والطرق في تعريف المعيارية الإسلامية. أصبحت المدرسة بطبيعة الحال موقع ومؤسسة التعليم، ولكنها لم تقتصر على العلوم الدينية، بل امتدت لتدريس جميع أنواع المعارف. أشار سالفاتوري إلى أنّ هذا يختلف عن أوروبا حيث كانت المؤسسات الرهبانية (الفرانسيسكان، الدومينيكان ..) “تغذي سلطة جديدة تقوم على المعرفة، والتي هي الجامعة، وكانت السلطة الثالثة التي تتوسط السلطة الزمنية والروحية” (142) وقد انتهى الأمر بالحداثة الغربية إلى توفير التدريس العلماني داخل الجامعة. إن الاستعمار الذي حصل في العديد من بلدان المعمورة الإسلامية دفع باتجاه فصل التعليم العالي في الجامعة العلمانية عن المؤسسة الدينية (الحوزة، والمدارس القرآنية). وكان لهذا عواقب وخيمة من تشكيل قطيعة بين العلوم الدينية والعلوم الأخرى وتعزيز الاختلاف في تكوين نخب لا تتحدث مع بعضها بعضا. وإذا ما اتفق المرء مع سالفاتوري في أنّ الشريعة والأدب كانا العاملان الأساسيان في تكون المدنية وأنّ الأدب كان مسؤولا عن إنتاج “معرفة كيفية نشر وتبني القيم والمبادئ المطلوبة من قبل المجددين/الإداريين/المفكرين” (221)، فإنّه من المشكل أن يتمّ الفصل بين المدارس التي تدرّس الشريعة والمدارس التي تدرّس الأدب، ولعلّ هذا من فوائد كتاب سالفاتوري، الذي يدفعنا إلى أنماط متعددة لمفهوم المدنية والتي تتطلب أشكال مرنة النظر في المأسسة (ما وراء مؤسساتي). وفي نفس السياق يقوم سالفاتوري بعقد مقارنات في الفصل الرابع ليست بالخفيفة (كالمقارنة بين الأحداث) ولا بالثقيلة (التي تخاطر بخلق تصنيفات فائقة الصلابة)، حيث لا تهدف هذه المقاربة إلى تصحيح قراءة التاريخ الإسلامي فحسب، وإنما إلى إلقاء الضوء على البقع العمياء في القراءة السوسيولوجية السائدة حاليًا.
إن انتقال المعيارية الإسلامية عبر الزمان والمكان يتطلب أشكالًا مرنة من المؤسسات والمأسسة، وتطلب قدرة على استيعاب الوقائع المختلفة ضمن المعمورة الإسلامية، ويشير سالفاتوري إلى عالم الأندلس وفقيهها الإمام أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي (1320 – 1388) الذي يقدم تصورا “مبنيًا على منطق التواصل المتسم بعدم ثباته، وعلى كيفية توليد الفعل للمعيارية من خلال وسائل المعرفة والثقافة والتواصل. “لم تعد المصلحة بالتالي أحد مصادر المعيارية فحسب، بل صارت إطارًا يتم من خلاله ترشيد المعيارية. وهذا ما سيُنشئ الفقه المرتبط بحاجات المشاكل المعاصرة. وفي هذا الصدد ينتقد سالفاتوري فيبر: “إنّ تفريق فيبر الحاد بين العقلانية القيمية التقليدية والعقلانية الهادفة الحديثة لا ينطبق هنا على عملية تمدّن شملت نصف الكرة الأرضية. وبناءً على ذلك، فإن التشعب في نوعي العقلانية هو فقط أحد النتائج المحتملة لهذه العملية، وليست بالتحديد نتيجةً تساهم في خلق الدمج والتوافق”. (158)
عملية التمدّن والعولمة
في الفصل الخامس، يتناول كتاب سوسيولوجيا الإسلام مفاهيم الحداثة الإسلامية والمدنية باستخدام أعمال نوربرت إلياس حول عملية التحضّر (civilizing process) ذات الطبيعة الديناميكية والذاتية المشتركة (intersubjective). كان ترويض المحاربين أمرًا بالغ الأهمية بنظر إلياس، خاصة مع بداية الحقبة الحديثة فيما كان جزءًا من فن السلطة؛ وقد كانت هذه الفكرة موجودة عند ابن تيمية الذي رأى خطر قيام الجنود بنهب ثروة الفلاحين في أزمنة الحرب والسلام. ويرى سالفاتوري أنّ الطرق الصوفية لعبت دورًا رئيسيًا في عملية الترويض هذه، وبقيت مركزية في الإطار الحضري، ومن خلال التبادل العابر للحضارات تعدّدت أنماط الترويض في المجال المدني.
تكمن قوة الكتاب في أنه لا يفترض ثنائيات متضادة كالشرق والغرب، وينبني على أنّ المهم بالنسبة لسالفاتوري ليس تحديد الأنماط المتشابهة والمتباينة بين المدنيات، ولكن المهم هو تحديد التبادلات والصراعات الحضارية التي تضع الغرب على طريقه الخاص والمهيمن نحو الحداثة. وفي حين أن سالفاتوري ينتقد بشدة برنارد لويس على فكره الثنائي، فإنه يمدح نهج هودجسون في معالجة التوتر الحاصل بين تجلٍ أوليٍ للحداثة الإسلامية وخضوع الإسلام للهيمنة الغربية. وبالنسبة لسالفاتور، لم تقم الحداثة الغربية على تعاضد خطي بسيط بين الإصلاح والتنوير والثورات التجارية والصناعية في أوروبا الغربية، ولكنها قامت صيرورة حوار مع الحضارات الأخرى من خلال ديناميكيات تدويرية ضمن وبين الحضارات، ساهمت فيها المعالجات الإسلامية الحديثة المبكرة لمعادلة المعرفة والسلطة. وقد ازدادت الهيمنة الغربية على المدنية عالميًا من خلال العملية الاستعمارية التي أثرت بشكل دراماتيكي على أنماط المدنية الموروثة في المعمورة الإسلامية، وذلك من خلال تغليف تلك الأنماط بعملية التحضر الكونية، ولكن دون القدرة على القضاء على هذه الأنماط. إن المجتمع المدني كما يتم تصوره في الغرب هو مجموعة من المؤسسات (منظمات غير الحكومية بشكل أساسي) التي تعتنق المدنية الغربية. ويدعم المجتمع الدولي المؤسسات المشابهة لتلك الغربية ممّا يدفع نحو تشابه بُنى المؤسسات في المجتمعات الأخرى مع مؤسسات المجتمع الغربي وينكر وجود أنماطٍ مختلفة من المدنية.
ينتقد سلفاتور في الفصل الأخير أيّ مبالغةٍ في تقدير دور العولمة في تشكيل الحياة اليومية والثقافة، معتبرا أنّ التحضر العالمي يحل محل التقاليد، ويقوم بذلك من خلال تشبيه مجازي يتناول الكوانتم (quantum) في مجال علوم الفيزياء، ويأخذ منه مبدأ عدم اليقين في حركة البروتون ومثلها عدم اليقين في مدى استقلالية الأفعال بالنسبة لعامل الثقافة. فبدلًا من ملاحظة المجالات الكوانتية التي تتداخل فيها الثقافة المحلية والعولمة في عالم متسارع، يتجاهل العديد من العلماء التقاليد باستخدام مفهوم نيوتني للفضاء المتجانس والقوانين الموحدة: وهي في هذه الحالة قوانين نظام “ويستفاليا”. وهذا ما يؤكده سلفاتور: “إن المزيج المديد زمنيا بين ميول التجانس والتعددية على المستوى المعياري يكمن في التفاعل المتبادل بين أنماط تقليد القيم النبوية (عن طريق الحديث) ومحاولات تكييف وبناء موازين القوى الاجتماعية المعترف بها محليًا (من خلال ممارسات مستوحاة من المصلحة والدور الذي يؤديه القانون العرفي)”. (265)
إن المنهج المقارن الذي تبناه مشروع سالفاتوري لسوسيولوجيا الإسلام والذي تم تقديمه في هذا الكتاب يقدّم نظرة إلى التشابكات العابرة للحضارات التي من شأنها أن تحصننا ضد التشوهات التي تحدثها المركزية الأوروبية الصلبة وتسهم في بناء نظرة تحليلية أكثر ثراءً. وليس سالفاتوري ضد فكرة الاستثنائية الغربية فقط، بل هو كذلك ضد فكرة الاستثنائية الإسلامية كذلك، ويرى أنّ: “المنظور البديل ليس سبيلًا لاستبدال الذات الغربية بالآخر الإسلامي بل هو تحولٌ أكثر جذرية من الكون الأحادي إلى الكون المتعدد، من مجال التجانس المحوري إلى قفزات كوانتية تحددها خريطة حضارية مرنة ومفتوحة كتلك التي يتميز بها المشروع الإسلامي الواسع عبر مختلف العصور.” (275) وقد تبع سالفاتوري هودجسون في رؤية أن” الإسلام أنضَجَ مركّباً طويل-الأمد بين نزعتي المساواة والكسموبوليتية التي نبتت في ظل الحضارة الإيرانية-السامية” (33)، ولكن هذا لا ينبغي أن يؤدي إلى إهمالنا لأهمية التراث اليوناني والهيلنستي في تطور هذه الحضارة. وهكذا يوفر سيلفاتوري التماسك في الطرح ما-بعد-الاستشراقي الجديد للدراسات التاريخية والمعاصرة حول الإسلام والذي يعتبر أن الدين أصبح مصدرًا لا غنى عنه في أنماط العقلانية الحديثة، ويهزّ بذلك بعض نظريات علم الاجتماع باعتبارها فهماً للذات المستنيرة (أي بدون البعد التاريخي) للمجتمع الحديث.
بعض النقد
أخيرًا، لديّ ثلاث نقاط نقدية بشأن عمل سالفاتوري العظيم. أولاً، إن إعلان سالفاتوري المدهش عن المفاهيم العابرة الحضارات عن المجتمع الحديث، لا يدفعه إلى الاعتراف على نحو كاف بإمكانية وجود أفكار عالمية (universal ideas). فمثلًا يجب أن تكون حقوق الإنسان عالمية لأنها حقوق لكل كائن بشري. ولكن لتكون كذلك يجب أن تتشكل نتيجةً لتوافق الإجماع ما بين الثقافات (overlapping cross-cultural consensus)، وليست تعميمًا للقيم الأورو-أميركية النسبية. (An-Na‘im 2013) وهذا هو السبب الذي دفع سالفاتوري في التشكيك في دوافع وأبعاد الأشكال المختلفة للتدخلات الغربية خلال الانتفاضات العربية. لم يأخذ سالفاتوري بعين الاعتبار أن الانتهاك الكاسح لحقوق الإنسان بما في ذلك التعذيب المنظم الذي تستخدمه العديد من الأنظمة العربية لخصومها قد أثار بعض الغضب في الرأي العام الغربي مما ساهم في تسهيل فكرة التدخل الغربي السياسية أو/والعسكري.
ثانياً، بينما استخدم سالفاتوري على نطاق واسع كتابات العلماء القدامى مثل ابن خلدون، فوجئت تمامًا بأنه لم يشر على الإطلاق إلى الدراسات المعاصرة التي أنتجها العالم العربي، سواء كانت مكتوبة باللغة العربية أو الإنكليزية (على سبيل المثال، كتابات محمد عابد الجابري وهشام جعيط). ولذلك فهو لا يشير إلى الجدل الأكاديمي في العالم العربي. وقد امتنع سالفاتوري عن الاستشهاد بأعمال وائل حلّاق.
ثالثًا، هناك بعض العبثية في اختيار سالفاتوري للشخصيات المؤثرة في المعمورة الإسلامية. فعلى سبيل المثال، يشير سلفاتوري لسبب وجيه إلى أهمية ابن عربي في المجال الصوفي، ذلك لأنه لعب دورا رئيسيا في ربط الصوفية بالفلسفة؛ لكنه لم يذكر مطلقًا شخصيّات أخرى بذات الأهمية كجلال الدين الرومي، وهو الذي وصل التصوف بالشعر، وهذا ممّا يمكن أن يقوّي كلامه عن العلاقة بين الشريعة والأدب.
على الرغم من هذه النواقص وتقعر وطول جمل الكتاب (بما في ذلك الكثير من الصفات بين المزدوجين)، يمثل كتاب سالفاتوري طفرة في سوسيولوجيا الدين، وأنا أتطلع بفارغ الصبر إلى قراءة المجلدين القادمين من الثلاثية المعلنة. إن مجموع مساهمات سالفاتوري، وخاصة مع كتابه الإسلام والخطاب السياسي للحداثة (Salvatore 1997)، لها أهمية فائقة في فهمنا لسوسيولوجيا الإسلام، لذا أدعو المختصين والمهتمين بالتاريخ الإسلامي لقراءتها.
Social Links: