القصة عن المخبر لؤي حسين كتبها بسام يوسف:
سأعترف أنني ترددت كثيرا قبل كتابة هذه القصة التي حدثت قبل 34 عاما، قلت لنفسي أن كثيرين سيسألون ما الفائدة منها، ولماذا الآن.. وإلخ…؟
ما أريد قوله إنه عندما تمر بلاد بظروف كالتي تمر فيها سوريا اليوم، فإن أكثر ما تحتاجه هو إحساس مواطنيها الصادق بالمسؤولية، وقناعتهم أن الصدق، والأخلاق، والشفافية، هي أكثر أهمية بكثير من حرتقات السياسة، وألاعيبها، والتذاكي فيها، ويمكننا أن نقرأ تاريخ البلاد التي دُمرت نتيجة الحروب سواء الخارجية، أو الداخلية، لنخلص إلى أن البلاد التي نهضت من كوارث كالتي تعيشها سوريا الآن، إنما نهضت بفضل أخلاق مواطنيها، وصدقهم، وإخلاصهم لوطنهم، ولهويتهم الوطنية، وبفضل تفانيهم بهدف قيامة أوطانهم.
في مثل هذا اليوم 17-8-1984.
كانت الساعة قد قاربت الخامسة بعد الظهر عندما عاد مروان، وزياد، ومنصور، وخلدون، وفؤاد، وآخرون من قرية “أم الزيتون” التي تتبع لمحافظة السويداء، بعد أن قاموا بواجب العزاء بوفاة والد صديقهم “هناد مراد”.
في كراجات السويداء بدمشق ترجل حشد المعزين من الحافلة التي أقلتهم، ثم توجهوا الى موقف لباصات النقل الداخلي قريب من الكراجات واسمه موقف “المؤسسة ” (منطقة باب “مصلّى” لمن يعرف دمشق) ومنه سيتوجهون الى “جرمانا”.
على موقف الباص وقف “زياد” و”منصور” جانبا مكملين حديثهما الذي كانوا يتحدثون به على الطريق بين دمشق والسويداء، فجأة ينتبه “منصور” الى سيارة ” تعبر الشارع من الجهة الأخرى، فهمس لزياد:
– هل رأيت سيارة المخابرات التي عبرت …
هزِّ زياد رأسه بالإيجاب، وتعمدا أن يبعدا نظرهما عنها، فليس من الحكمة أبدا أن تنظر مباشرة إلى السيارة التي تعبر الشارع متمهلة وبداخلها من لا يحتاجون لأي مبرر كي يعتقلوك، وهناك في أقبيتهم سيجدون لك ألف تهمة.
في تلك الفترة من تاريخ سوريا “العظيم” كان منظر سيارات المخابرات بعناصرها المتجهمين، ونظراتهم المستعلية، وبنادقهم الظاهرة بوضوح، حدثا مألوفا، ويتكرر يوميا مرات عديدة، كان منظر هذه السيارات يثير الرعب في نفوس السوريين، وكانوا يحاذرون النظر إلى وجوه من بداخلها.
ابتعدت السيارة فواصل زياد ومنصور حديثهما، وبعد قليل وصل الباص الأخضر (لم يكن اللون الأخضر قد اكتسب شهرته الحالية) فصعد الجميع الى الباص، لكن لم يكد الباص يقلع حتى حدث أمر غريب.
السيارة التي قال عنها منصور أنها سيارة مخابرات، وبعد أن تمكنت من عكس اتجاهها عادت باتجاه الباص بأقصى سرعة ممكنة، مطلقة “زمورها” عاليا، وتسرع لتلحق بالباص بينما قام أحد ركابها بإطلاق الرصاص في الهواء من البندقية “الروسية” التي يحملها بعدما اخرجها من نافذة السيارة.
لم تتمكن السيارة من تجاوز الباص، فالشارع مزدحم، والسيارات تعبره باتجاهين، لكن صراخ من بداخلها والذي يأمر سائق الباص بالتوقف يملأ الشارع، يتوقف الباص فتقف السيارة خلفه، ليهبط منها ثلاثة عناصر اتجه اثنان منهما بسرعة إلى بابي الباص، بينما راح الثالث يتفحص من خلال النوافذ المفتوحة وجوه من بداخل الباص.
فتح السائق المرعوب باب الباص، فاندفع الثلاثة الى داخله، صرخ أحدهم وهو يشهر بندقيته مهددا بالموت لأي شخص يتحرك، وقف عنصر عند الباب الأمامي وآخر عند الباب الخلفي بعد أن أمرا سائق الباص بإغلاقهما، وسارع الثالث إلى إغلاق النوافذ المفتوحة فالطقس حار -إنه شهر آب- ونوافذ الباص كلها مفتوحة، ولهذا كان عليه أن ينتقل مسرعا من جهة الى أخرى كي يغلق النوافذ بأقصر وقت ممكن فقد يغامر أحد ما بالقفز من النافذة محاولا الهرب.
في تلك الفترة كانت شعبة “المخابرات العسكرية” تشن حملة اعتقالات ضد “حزب العمل الشيوعي”، ولأن حزب العمل كان حزبا سريا، وأعضاؤه يحملون أسماء حركية، فقد واجهت أجهزة المخابرات مشكلة معرفة الشخص الحقيقي الحامل للاسم الحركي.
تفتق عقل أحد ضباط المخابرات عن فكرة تتلخص بإرغام المعتقل حديثا على الصعود في سيارة مخابرات تتجول في الشوارع، وخصوصا في المناطق التي كانت مناطق مواعيد حزبية، ويقوم المعتقل بالبحث في وجوه العابرين وفي حال تعرّفه على شخص ما فإنه يدل عناصر الدورية عليه ليتم اعتقاله.
أرغم عدد من المعتقلين على الصعود بالسيارات، لكن قلة منهم أسفرت مرافقتهم للدورية عن اعتقال أحد ما.
في إحدى حوادث ارغام المعتقلين على مرافقة الدوريات، نسي المعتقل لماذا هو في سيارة المخابرات، كان ينظر الى الشوارع والناس بحنين ولهفة، كان فرحا بالشوارع والبشر والحياة عندما لمح أمامه فجأة أحد رفاقه في الحزب، فانتفض فجأة، وكاد يصرخ به لو أنه تذكر فجأة أين هو، انتبه عنصر الدورية للانفعال المفاجئ على وجه المعتقل، وأدرك أنه رأى هدفا لهم، فضربه بقسوة طالبا منه أن يدلّ على الشخص قبل أن يختفي بين الحشد، كانت عينا المعتقل تدمع.. وعندما ابتعدت السيارة وضاع الهدف سأله عنصر الدورية:
– ليش بكيت ولااا؟
نظر اليه ثم قال له:
– الحمد لله لايزال حرا.
لن أقول لكم كيف عذبوه … لكنهم بالتأكيد توقفوا عن ارغامه على الصعود بسياراتهم.
بالعودة إلى قصتنا، وفي تلك المداهمة “البطولية” لباص النقل الداخلي، الذي حدث هو أن سيارة المخابرات التي لمحها “منصور” و”زياد” تعبر الشارع، كان بداخلها اثنان من المعتقلين، أحدهما مقيدا ومرغما على مرافقة الدورية، والآخر كان متعاونا بصدق مع المخابرات، كان المعتقل المرغم منهارا، فأخبر الدورية أنه تعرف من بين من يقفون على موقف الباص إلى اثنين، هم من أعضاء حزب العمل، لكن ولأن السيارة كانت قد ابتعدت قليلا عن الباص، ولم يكن بإمكانها الاستدارة في مكانها بسبب ازدحام الشارع فقد احتاج سائقها الى بعض الوقت كي يتمكن من الالتفاف والعودة للحاق بالباص.
وعندما لحقت السيارة بالباص لم يغادر المعتقل الذي وشى برفيقيه السيارة (لن أذكر اسمه لأنني أحترم من يعترف أنه مرّ بلحظة ضعف تحت ضغط تعذيب وحشي، واعتزل العمل السياسي كله بعد خروجه من السجن) ظل مقيدا في السيارة، لكن المفاجأة أن المعتقل الآخر، والذي يرافق الدورية بدون قيد، كان أحد الثلاثة الذين اندفعوا لاقتحام الباص، وهو الذي مر بجانب الباص متفحصا وجوه من فيه، واندفع بحماس لإغلاق النوافذ كي لا يهرب أحد منها … إنه “المعارض” البارز، ورئيس “تيار بناء الدولة”، والذي أعلن عن “ضمانته ” لمن يريد العودة من اللاجئين السوريين بموجب “ضمانة” مقدمة له من المحتل الروسي… إنه لؤي حسين.
في تلك الواقعة اعتقل “منصور المنصور” و”مروان العلي”.
هذا الحدث مرّ عليه أربعة وثلاثون عاما، قد لا يكون للأمر أي أهمية أو معنى لو أنه أصبح للذكرى فقط، أو أنه كان للحديث عن لحظة ضعف قد نمر بها جميعا، لكنه يصبح مهما عندما تصبح النرجسية، وهوس الزعامة، هي الشغل الشاغل لشخص لا يهمه إن كان ثمن هذه الزعامة أشلاء الآخرين، ولا يهمه إن جاءت عبر ضابط مخابرات قذر، أو عبر محتل أكثر قذارة.
Social Links: