منذ ارتكب عاطف نجيب جريمته بحق أطفال درعا 2011، والنظام يردد مقولته الثابتة عن الإرهاب والمؤامرة التي نجح، بمساعدة حلفائه الإيرانيين، في تخليقها بأكثر من صورة، بدءًا من قادة الفصائل الإسلامية المتطرفة الذين أخلى سبيل معظمهم من سجن صيدنايا العسكري، مرورًا بجبهة النصرة، ووصولًا إلى تنظيم (داعش). وكل ما جرى في سورية لاحقًا هو نتائج لتلك المقدمات، التي تواطأ العالم أجمع على قبولها أو الصمت عنها، بذرائع شتى، أخذت العنوان العريض “أولوية الحرب على الإرهاب”.
إشكالية “الحرب على الإرهاب” لا تكمن في ضرورتها أو عدم أولويتها التي يعترف بها الجميع، بل في تجاهل كل أسباب هذا الإرهاب ومشغليه في المنطقة، حتى غدت (داعش) هي الهاجس الأكبر لكل العالم، فيما اعترف ترامب مؤخرًا بأن إيران هي التي تحرك الإرهاب في العالم، من (القاعدة) إلى (داعش)، لكنه اعتراف لا يملك أثرًا رجعيًا لما صنعته أميركا في المنطقة، باسم محاربة (داعش) أو الإرهاب.
كما بقي هذا الأمر مستعصيًا على فهم الكثير من الدول والمنظمات، وبعض منظري اليسار ممن لم يتجاوزوا المنطق الأرسطي في الرياضيات والفلسفة، وبشكل خاص تلك الفئة التي توزع المنطقة والشعوب إلى طوائف وأديان، وتعتبرها محركة الأحداث وغاية التاريخ لدينا، ولا يتسق مع هذا المنطق الأرسطي أن تقوم إيران بدعم ورعاية المنظمات الإرهابية، بما فيها (القاعدة) و(داعش)، بسبب اختلاف الطوائف فقط، ولا يتسق وفق هذا المنطق أن يقوم نظام البعث بالغدر بشعاراته وأهدافه؛ لأن منظري اليسار في المنطقة تحديدًا، وأغلبهم ممن ينتمون إلى جيل الحرب الباردة، ما زالوا مؤمنين بالثنائية القطبية، والعالم كله إما أبيض أو أسود وفق منظارهم الكليل، لدرجة أنهم لم يروا في ديماغوجيا الإمام روح الله الخميني إلا انتصارًا للثورة ضد الإمبريالية الأميركية، وسرعان ما تمّت ترجمة هذه الرؤية في منطقتنا، عبر قيام حلف الممانعة والتصدي، الذي وجد فيه حافظ الأسد ملاذه الآمن، تحديدًا بعد سقوط المعسكر الاشتراكي.
مع أن أي مبتدئ في السياسة يُدرك أن (داعش) لم تكن أكثر من بيادق يتم تحريكها على خرائط المنطقة، من العراق إلى السورية، وامتدادًا في سيناء وشمال إفريقيا، لكن تحركات (داعش) في سورية كانت واضحة من حيث ارتباطها بانتصارات الأسد، فحيثما توجهت (داعش)؛ كانت تُشكّل مؤشرًا ومبررًا لضرب هذه المنطقة، من قبل النظام ومعه الميليشيات الإيرانية، بغطاء جوي روسي كثيف النيران، رأينا ذلك في ريف دمشق، وفي درعا، وفي مخيم اليرموك، وأخيرًا في السويداء، حيث تم ضرب المدنيين وقتلهم من قبل (داعش)، ولاحقًا من قبل النظام والميليشيات الموالية له، بذريعة القضاء على الإرهاب الداعشي، وهي كذبة كبرى، إذ لم تُضرب (داعش) في كل هذه المعارك، بل كان مشغلو (داعش) يتبرعون بنقل مقاتليها -في كل مرة- بباصات مكيفة مع أسلحتهم، بانتظار معارك جديدة وتارات مستمرة للنظام مع كل السوريين.
مجزرة الأربعاء الدامي 25 تموز/ يوليو، في مدينة السويداء وريفها، الخاضعتين لاتفاقية خفض التصعيد في الجنوب، هي نموذج لكل ما جرى في سورية، وهي النموذج الأوضح للتنسيق بين النظام و(داعش)؛ فالنظام قام منذ شهر حزيران/ يونيو الماضي بسحب قواته وعناصر الدفاع الوطني التابعة له من الريف الشرقي والشمالي للمحافظة، ثم قام من بعد ذلك بنقل عناصر (داعش) من مخيم اليرموك والحجر الأسود، حين انتهت مهمتهم هناك، إلى بادية السويداء المتداخلة مع ريفها الشرقي، ثم تسارعت تحضيرات النظام قبل ثلاثة أيام من المجزرة، حين قام بمصادرة حتى السلاح الفردي للسكان المدنيين من أهالي القرى التي تعرضت للاعتداء، وقبل ساعات فقط من تنفيذ المجزرة، قام بقطع الكهرباء عن سبع قرى في الريفين الشرقي والشمالي، ليباشر عناصر التنظيم مجزرتهم، مع أولى ساعات الفجر هناك، ولكي تمضي المجزرة، كما خطط لها النظام، قام التنظيم بالتزامن مع ذلك بخمس تفجيرات كبيرة داخل مدينة السويداء، كي يربك أي عملية إغاثة من أهالي المدينة إلى ريفها المنكوب، فيما لم يظهر أي أثر للنظام إلا لاحقًا من أجل التصوير التلفزيوني، حيث أحضروا معهم بعض الجرحى.
خسر أهلنا في السويداء نحو 250 شهيدًا، حيث اغتيلت عائلات بأكملها، وفي بعض الأحيان تُرك طفل هنا أو هناك، ليخبر عن الوحشية التي أرادها مخططو ومنفذو المجزرة، الذين قاموا أيضًا باختطاف كثير من أهالي تلك القرى ونسائها منذ أسبوعين تقريبًا، وقد بدأ التنظيم بإعدام أحدهم، دون أن يبدي النظام أي حماسة للتفاوض مع (داعش)، لأن المهمة لم تنته وفق حساباته.
لم تكن معركة السويداء ثأرًا من (داعش) ضد المدينة، بل هي ثأر النظام “حامي الأقليات”، ممن لم يستجب لوحشيته وإجرامه في قتل الآخرين، ممن رفع راية الحرية والكرامة، وإن لم يقاتل ضدّه. ومن المعلوم أن محافظة السويداء لم تشارك جديًا في العمل المسلح ضد النظام، وآثر أهلها الحياد، وأفتوا بمنع ذهاب أبنائهم إلى الخدمة العسكرية، كي لا يكونوا قتلة أو ضحايا، غير أن معادلة النظام كانت واضحة منذ البداية: إما أن تكون معنا أو أنت ضدّنا، لا مجال للحياد في هذه المعركة، والأسد غير مهتم بأعداد الضحايا ومنابتهم، ما لم يدافعوا عن كرسيه المهزوز.
لم تسعف السنوات السابقة النظامَ الذي كان يراكم خسائره في محاسبة الأشخاص والجماعات على حيادها، لكنه الآن، بعد أن أمّن الروس له نصرًا داميًا على شعبه، ودعمته “إسرائيل” بالترحيب باستعادته الشريط الحدودي معها، وتفعيل اتفاقية فك الاشتباك الموقعة عام 1974، يبدو مستعدًا لخوض تلك المعارك المؤجلة، ومن يسمع تهديدات الأسد الصغير لذوي (الخوذ البيضاء)، بتصفية كل من يرفض منهم مبدأ المصالحة معه؛ يُدرك أنه ذاهب في كل معاركه إلى الحدود القصوى في تركيع السوريين وإذلالهم، وليس إلى حل سياسي، كما يسوّق المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا وبعض معتوهي المعارضة.
الحل السياسي الذي يقوده بوتين، بتفويض دولي تحت عنوان “استعادة الدولة السورية”، لن يكون أكثر من إعادة تتويج لسلطة السلالة الأسدية على دماء السوريين ودمارهم. ومهما تحدثوا عن دستور جديد، وعن جيش وطني، ولو أشرك في ذلك بعضٌ من بقايا معارضين، فالمؤسستان العسكرية والأمنية اللتان أوغلتا في دماء الشعب لن تكونا مؤسسات وطنية، وسيبقى جيشنا العقائدي أداة للقمع، لا جيشًا لحماية الوطن والمواطنين.
نحن -السوريين- نعترف أن معارضتنا العسكرية هُزمتْ لارتهانها لشروط الممولين والداعمين، وكذلك هزمت معارضتنا السياسية، التي لم تستطع بكل مسمياتها أن ترقى إلى مستوى متطلبات اللحظة الثورية، هُزمنا في القصير وفي حمص وبعدهما في حلب، كما هزمنا في داريّا وفي ريف دمشق، وهزمنا أيضًا في درعا وفي السويداء. هزمتنا معارضاتنا البائسة، وهزمتنا ضحالة السياسات الدولية، حين تنكرت أمم وشعوب لكل قيم الحرية والعدالة وحقوق الإنسان، مقابل تصفية حسابتها بحروب قذرة في بلادنا وبدمائنا، لكن من الغباء أن نغمض أعيننا عن الحقائق، ونعيش كالنعامة دافني رؤوسنا في وحل الحل السياسي الذي يبحث لنا عن دستور لشرعنة موتنا المستمر.
ومهما حصل، فلن يكون الأسد الصغير منتصرًا، فالحياة مستمرة، وفي كل يوم ستشرق الشمس من جديد.
Social Links: