كيف يمكن اليوم -على سبيل المثال- قول الوجود الإيراني والروسي والتركي والأميركي في سورية؟ أو ما الذي يعنيه تعبير “الواقعية السياسية”، في مجال “التفاوض” حول الوضع السوري الراهن أو القادم؟ أو أيضًا، ما الذي يعنيه استخدام مفهوم “السلطات السورية الشرعية” من قبل سياسي يزعم انتماءه إلى صفوف “المعارضة”، وكيف يسعنا فهم طبيعة ومصدر “الشرعية” التي يسبغها على النظام الأسدي؟ وما الذي يمكن أن يترتب على، أو يؤدي إليه، أيّ قول في هذا المجال على صعيد الفعل الراهن أو القادم في واقع سورية، ولا سيما إذا صدر مثل هذا القول عن بعض من يتصدون لزعامة ما يسمى “المعارضة” السورية بأطيافها ومنصاتها وهيئاتها ومجالسها؟
لا يمكن لمن يقرأ ما يكتبه بعض هؤلاء حول الحدث السوري إلا أن يتساءل، لا عن مدى ثقافتهم أو خبرتهم في المجال السياسي بل، على الأقل، عن جدّية نظرتهم إلى السياسة أو النضال أو الثورة، هذا إن لم يكن من أجل طرح سؤال آخر ربما ينطوي على نصف الإجابة، حول غايتهم الشخصية من خروجهم إلى الفضاء العام ومحاولتهم ممارسة العمل السياسي، ولا سيما منذ بداية الثورة السورية!
لكن المشكلة أن ألف باء السياسة، الذي يقوم على إدراك أن قوام هذه الأخيرة هو اللغة -كما كان أنطون مقدسي يكرر في توضيحه لمفهومها الإغريقي الذي ورثه الغرب واعتمده- لا يزال كما يبدو مجهولًا لدى معظم من تصدى للعمل في ميدانها. ومن ثم فإن الاستهتار بالمفاهيم الفاعلة في السياسة -وامتدادًا إلى حقول فضائها الأخرى كالدبلوماسية مثلًا- يجعل من يمارسه في أفضل الأحوال هزأة لا في نظر دهاتها فحسب، بل في عيون من هم موضوعها وغايتها: أي عموم الناس. هذه اللغة، سياسة، قمينة بالكشف عن جملة التناقضات التي يقع فيها من يسيء استخدامها أو من يستهتر بفاعليتها.
فحين يستنكر البعض، من موقع “المعارضة” بالطبع، “اعتبار الوجود الروسي احتلالًا، لأنه جاء بناء على دعوة من السلطات السورية الشرعية”، يؤكد من حيث يدري أو لا يدري، الخلل الأساس في الممارسات السياسية لمجمل من تصدوا لتمثيل انتفاضة السوريين قبل سبع سنوات، عندما قبلوا اعتماد هذه التسمية: المعارضة. إذ إن هذا القبول ينطوي، شئنا أم أبينا، على الاعتراف بالطرف الآخر المُقابل: السلطة الحاكمة، التي تصير آنئذ، بفعل هذا الاعتراف الضمني، “السلطة الشرعية”. على هذا النحو، اضطرت مختلف الهيئات التي حملت هذه الصفة منذ البداية إلى الجلوس في مواجهة ممثلي “النظام السوري”، بعد أن تعاملت القوى الدولية والإقليمية معها على هذا الأساس، وحملتها على تبنّي ما بات منذ ذلك الحين يطلق عليه “الحل السياسي” الذي لا يمكن الوصول إليه إلا بتعاون الطرفين: النظام والمعارضة. لكن هذا الاستخدام، وهو يؤكد الخلل، كان أيضًا يكشف لا عن استهتار واستخفاف بأهمية التسمية ومدلولاتها فحسب، بل كذلك عن ضرب من النفاق السياسي الذي طبع سلوك وأفعال معظم “المعارضين”، أفرادًا وهيئات، ممن لم يجرؤوا يومًا على تسمية الأشياء بأسمائها، وصولًا إلى فقدان قدراتهم على النطق، كما نشهد هذه الأيام، منذ سقوط الغوطة الشرقية والجنوب السوري، ووصولًا إلى انتظار ما سيجري في إدلب التي جُمِعَت فيها مختلف الجماعات المسلحة التي أرغِمت على الاستسلام بالقوة تحت وطأة القوة النارية الروسية، كما لو أنه تجميع أريد به أن يكون تمهيدًا ليوم حساب أخير قادم.
لكن توصيف الوجود الروسي بالاحتلال لا ينفي، ولا يجب أن ينفي، الاحتلال الإيراني -وهو أشد خبثًا وسوءًا وخطورة من سواه، لأنه يتمدد كالسرطان في النسيج الاجتماعي السوري- والاحتلال الأميركي الذي يسيطر على أجزاء جغرافية محدودة، بخلاف الاحتلال الروسي الذي باتت في يده مع سماء سورية وأرضها وما يظنه مستقبلها، مفاتيح الحلّ والعقد في سورية السياسية والعسكرية والأمنية، برضا وموافقة الجميع إقليميًا ودوليًا.
لكن، ما الغاية من وراء الدعوة إلى اعتماد توصيف آخر للوجود الروسي يستبدل “الوصاية الروسية” بالاحتلال الروسي، لأن الروس، كما يقول من يفعل ذلك، تجاوزوا مطالب “السلطات السورية الشرعية” التي جاؤوا لدعمها والعمل على بقائها، إلى ممارسة صلاحيات أخرى عسكرية وأمنية وسياسية.
ليست المسألة شكلانية محضة، كما يوحي من استنكر التوصيف بالاحتلال، لا سيما أنه يدعو إلى التوصيف الآخر؛ إذ من الواضح أن مفهوم “الوصاية الروسية” يقتضي قبول “الأمر الواقع” الذي أنشأه التدخل الروسي، والتعامل مع من فرضه، ما دام الواقع السوري يتلخص اليوم في “دولة ومجتمع مفككيْن”، وما دام موقف السوريين من كل القوى التي تحتل أرضهم “ليس مهمًا إطلاقًا”، وإنما المهم هنا، وفي هذا المجال بالذات، هو “الموقف الدولي” الذي ينتهي آخر الأمر “لمصلحة الطرف الروسي”. من المؤكد أن تقريرَ -لكنه، في حقيقة الأمر، افتراض- الغياب الكامل للسوريين، أو نفيَ قدراتهم على التأثير بصورة أو بأخرى على مجرى الأحداث أيًا كانت، لا يمكن أن يؤدي، في هذه الحالة، إلا إلى قبول الاحتلال، وتوصيفه بما يخفف من أثره بجعله وصاية، لم يزعمها حتى المعنيّ بالأمر نفسه! ذلك أن التوصيف بالاحتلال الروسي يقتضي، مبدئيًا وأخلاقيًا وسياسيًا، رفضه على كل الصعد وبكل الوسائل، وهذا يتطلب، بالفعل، التحقق، قبل إلقاء الكلام على عواهنه، من أن السوريين قد كفوا كليًا عن الوجود بصورة أو بأخرى، وأنهم باتوا عاجزين عن أي مبادرة أو ردة فعل، وأن نخبهم استقالت أو أقرت بعجزها هي الأخرى عن الاستجابة لهذا الواقع الساحق! فهل هذا هو واقع السوريين فعلًا؟ وهل يمكن القول، كما يبدو ظن البعض الذين يستعجلون الأمور، “قضي الأمر”، وبات الروس أسياد الرهان والمآل؟
سيلجأ البعض هنا، كالعادة وباستعجال، إلى مفهوم “الواقعية السياسية” الذي يبدو أنه يمكن أن يجد فيه منقذًا من أي تهمة بالعمالة أو الخيانة من جهة، أو بالتطرف أو بالغباء السياسي من جهة أخرى. لكن التاريخ السياسي، تاريخنا وتاريخ الأمم الأخرى، يقدم لنا ما لا يُحصى من الأمثلة على ممارسات هذا المفهوم، ضمن أطر مبدئية وأخلاقية حظيت بالإعجاب والتقدير، أو خارج هذه الأطر كليًا، فوسمت الممارسة بالخيانة التاريخية. أحد أقرب الأمثلة إلينا وأشدها بلاغة انتصار ألمانيا النازية على فرنسا عام 1940، واحتلالها عاصمتها وتقسيمها إلى جزء محتل كليًّا وآخر “تحت قيادة الحكومة التي اعترفت بالهزيمة” والذي اختير له عاصمة أخرى هي فيشي. فهم الجنرال بيتان “الواقعية السياسية” على أنها اعتراف بالأمر الواقع وقبل الاعتراف بالهزيمة والتعاون مع المحتل، رغم ماضيه العسكري المجيد. في حين فهم الجنرال شارل ديغول “الواقعية السياسية” على أنها رفض الاحتلال والتقسيم والعمل على مقارعته بكل الوسائل، مطلقًا نداءه الشهير في 18 حزيران، من إذاعة لندن، لتحرير فرنسا من الاحتلال.
نعلم اليوم مآل الخيار الأول، مثلما نعلم مآل الخيار الثاني على صعيد التقويم التاريخي والواقعي، بمعزل عن كل معيار آخر. فهل ثمة حاجة إلى أمثلة أخرى؟
Social Links: