جهاديات بدويات وملكات جمال كرديات:
مشهد من حياة الأنوثة المُتخيّلة الجديدة في الشرق الأوسط
محمد تركي الربيعو
نشر عددٌ من المواقع والصحف العربية والعالمية في الاسبوع الفائت خبراً حول احتجاز قوات سوريا الديمقراطية لعدد من عائلات وزوجات المقاتلين في تنظيم الدولة الاسلامية داخل مخيمات في ريف الرقة ومناطق أخرى تسيطر عليها.
وأشارت هذه الأخبار إلى أن الكثير من النساء المتواجدات في هذا المعتقل هن من أصول أوروبية؛ كنا قد رحلن أو مارسن حالة من “البداوة الجهادية” وفق تعبير اوليفيه روا عندما انتقلن من عدد من العواصم الاوربية إلى مدن الجهاد والخلافة المتخيّلة الجديدة.
وقد برّرت القوات الكردية احتجازهن في سياق التحقيق معهن لمعرفة أخبار ما تبقى من تنظيم الدولة، أما بعض الدول الأوروبية، وفقاً لعدد من التقارير، مثل فرنسا، فقد اشترطت لإعادة هؤلاء النساء إلى مدنهن التي وُلِدن فيها، تخليهن عن “أشبال الجهاديين”، فهؤلاء الاطفال وفقاً لهذه الصورة ليسوا سوى وحوش صغيرة قد تتحول إلى مخلوقات تهدّد قيم وأمن المجتمع الفرنسي بعد سنوات.
وفي حين أثارت هذه المواقف، وظروف المعتقل الذي تعيش فيه هؤلاء النسوة تعاطفاً وردود فعل مؤسسات مدنية، فإن ما يلفت النظر في هذا المشهد والمكون من ثلاثة عناصر (جهاديات أوروبيات بدويات، وقوات سوريا الديمقراطية المسلحة، وموقف أوروبي سلبي) هو عثورنا على صورة مركّبة لمواقف ومجموعات وقرارات تجمع بين العزل والذكورة والعنف؛ صورة قد لا تعكس ربما حالة فردية أو حدثاً معيناً وإنما تكشف لنا عن واقع ما انتجته سنوات الحرب من تعريفات جديدة للذكورة والأنوثة بين مجموعات إسلامية وكردية وأوروبية، وهي تعريفات تبدو قريبة من بعضها رغم تنافر الأطراف أحياناً.
ولكي أكون أكثر وضوحاً في هذه الزاوية، فإن مشهد اعتقال نساء داعشيات من قبل جنود أوجلان والتغاضي الأوروبي عنه، لا يكشف لنا عن حكاية أمنية أو واقع ما آلت إليه الحرب والتوازنات العسكرية في تلك المناطق، وإنما يكشف بعناصره الثلاثة، في زاوية من زوايا هذه الحكاية، عن ما وصلت إليه صور الأنوثة المُتخيّلة في المنطقة بشكل عام، وهي أنوثة لا تعبّر عن واقع وموروث محلي، بل عن تعريفات ومعاني جديدة أخذ يصنعها العالمي والعنف المحلي على صورة النساء ودورهن مقارنة بالفترة التي كانت سائدة قبل 2010
جهاديات بدويات …انحدار انثربولوجي؟
سنبدأ في حكاية هذه الأنوثة المتخيلة بالعودة إلى رحلة الهجرة التي قامت بها عدد من النساء الاوروبيات إلى أرض الخلافة. وذلك خلافاً لتنظيم القاعدة الذي لم يبدِ فيه بن لادن والظواهري أي اهتمام بدور المرأة في العمل الجهادي ، بل شدّدا على عدم مشاركة المرأة في الاعمال القتالية والحفاظ على دورها التقليدي في حفظ البيت ورعاية الأطفال وتنشئتهم على حب الجهاد
وربما جاء التحولُ، كما رصد كلاً من محمد أبو رمان وحسن أبو هنية في كتابهما المشترك “عاشقات الشهادة”، مع أبو مصعب الزرقاوي في العراق الذي ساهم في ادماج المرأة في الاعمال القتالية وغير القتالية. فقد عرف العراق خلال تلك الفترة حوادثَ اغتصاب عديدة للنساء في سجون الاميركيين، مما دفع بالزرقاوي إلى دعوة المرأة للقتال في ظل تخاذل الرجال كما كان يقول. فأصبح نموذج المرأة الاستشهادية نموذجاً أكثر قبولاً ومشروعاً بعد أن كن مستبعدات من العمل الجهادي.
ومع نشوء “الدولة الاسلامية”، أخذ موضوع جهادية النساء بعداً غير مسبوق؛ فبينما لم يتجاوز عدد النساء الجهاديات الأوروبيات أصابع اليد الواحد قبل بروز داعش، كشف المشهد الجديد عن ظاهرة ارتحال فتيات أوروبيات إلى عاصمة الخلافة. ومما لا شك فيه أن وجود أراض شُيِّدت عليها هذه العاصمة هو عامل حاسم في هذه الجاذبية وإن كانت الدولة رفضت في الغالب مشاركتهن في القتال. لكن ما علاقة هذه الهجرة بحديثنا حول الذكورة المتخيلة؟
يبين كلاً من السوسيولوجيين الايراني فرهارد خسرو والتونسي فتحي بن سلامة في كتابهما المشترك “النساء وداعش” (تُرجِم قبل أيام قليلة للعربية) والذي شمل عينة من الجهاديات الفرنسيات، أن المُلاحظ في هذه التجربة أنه في مقابل المساواة بين الجنسين التي شهدتها مجتمعات ما بعد عام 1968، بدأنا نعيش مع هذه الموجة مرحلة من الانحدار الأنثروبولوجي لمفاهيم الأنوثة، وهو انحدار لا يتعلق هنا بالإسلام أو بتبني بعضهن لمواقف غاضبة من المجتمع العلماني، وإنما قد يعود إلى اختزال صورة ودور النساء في الحركات الإسلامية.
أشارت زينب الغزالي، في مذكراتها حول علاقة النساء بالحرب، إلى أن الجهاد من أجل بناء الدولة الإسلامية بمفهومها آنذاك يتطلب تعديل أنماط السلوك الإسلامي التقليدي لبناء المجتمع المثالي في فترة ما بعد تأسيسها؛ إذ تتطلّب هذه الفترة المؤقتة رؤيةً أخرى لدور النساء وأولوياتهن في الجماعة الإسلامية:
“هل عليها أن تبقى في المطبخ أم أن تخرج إلى ساحة المعركة؟ لن ينتاب المؤمنة الحقّة أي حيرة، فليس أهم من إقامة الدولة الإسلامية”.
وقد اعتبرت مريام كوك، في دراستها لمذكرات الغزالي، أن هذا الموقف بمثابة انقلاب على مفاهيم الذكورة والانوثة الإسلامية التقليدية وتأسيساً لنزعة أكثر جذرية ومساواتيه بين المرأة والرجل. فبعد ثلاثة عقود ومع قدوم تنظيم الإسلام القتالي العابر للحدود مقابل تراجع في دور الإسلامية الموجّهة إلى الدولة، نعثر على أنوثة متخيّلة جديدة وعلى يد فتيات أوروبيات.
إذ لم تهاجر هذه النسوة، وفقاً لخسرو وبن سلامة، بحثاً عن المتعة وعن عوالم التشويق، بل لأنهن لم يعدن على ايمان بالرؤية النسوية الغربية وحراكها الاجتماعي؛ فهن يعتقدن أن الأمومة وتربية الأطفال تبقى أجندات مهملة لدى هذه الحركات بخلافهن.
ورغم وجاهة هذا النقد الذي وجهته البعض لموضوع تأخير سن الانجاب، إلا أن هؤلاء الجهاديات أخذن يختزلن دورهن في الانجاب؛ فنشهد هنا حالة انتكاسة أو “انحدار انثربولوجي”، على حد تعبير خسرو، لصورة المرأة ودورها في الحياة اليومية. كما نشهد حالة من الانحدار في دور المرأة داخل عالم التيارات الاسلامية إذا ما قُورِن بموقف زينب الغزالي ورؤيته لدور الجهاد في تعديل القواعد التقليدية.
باربي الكردية: مقاتلة أم ملكة جمال؟
ويبدو أن الانحدار الأنثروبولوجي في دور المرأة لم يتعلق فحسب بصورة السجينات الداعشيات، بل عاشه أيضاً سجّانو مخيم الاعتقال، وأعني هنا قوات سوريا الديمقراطية.
إذ نجد أن الحزب الكردي المقاتل، والذي لطالما تغنّى بصورة نسائه المقاتلات، يشنُّ قبل أيام من الآن معركةُ ضد الأنوثة المحليّة الكردية في بقعة أخرى من دويلته المتخيّلة.
فكانت بداية هذه المعركة مع حفل أعدّته فعالية نسوية في مدينة القامشلي السورية لانتخاب ملكة جمال المدينة. بيد أن هذا الحفل، كما يبدو، لم يرق لقيادات الحزب؛ وسرعان ما تطوّر هذا الموقف الغاضب من الحفل إلى نقد لاذع للفتيات المشاركات وللجهة المنظمة للحفل، لكونها لا تتوافق مع قيم وأخلاق “الأمة الديمقراطية”.
فلا مكان في حياة المرأة الكردية، وفقاً لهذا الرأي، للهو والمرح أو للتعبير عن جوانب من أنوثتها؛ إذ أن مكانها هو في ساحات المعركة إلى جانب الرجال لبناء الأمة.
قد لا يُعدُّ هذا الموقف جديداً على أيديولوجية الآباء المؤسسين للحزب (حزب العمال الكردستاني) حيال مشاركة المرأة الكردية ودورها في معاركهم مع الجيش التركي. وفي المقاربة الذكية التي قدّمتها الانثربولوجية التركية ايما سنكلير حول “الخدمة العسكرية والرجولة في تركيا”، تبيّن للباحثة من خلال دراستها لتاريخ المؤسسة العسكرية التركية، أن المؤسسات العسكرية (وهي في سياقنا الكردي السوري تتمثل في قوات سوريا الديمقراطية المعترضة على حفلة ملكة الجمال) غالباً ما تنزع إلى صنع مواطن من طراز آخر، محارب، منضبط النزاهة، ووفق تعبير قائد عسكري “نصنع زهرية فاخرة مستمدة من الطيب نفسه في المدارس العسكرية، أما المدارس المدنية فتنتج أباريق ذات نوعية رديئة”. وغالباً ما تُولِّدُ هذه الرؤيا العسكرية لدور المواطن وشكله، وفقاً للباحثة، رؤية جديدة للجندر؛ ففي الوقت الذي يغدو فيه المقاتل هو صانع فخر الأمة، تغيب في هذه المعادلة ثنائية الذكر والانثى أو المساواة بين الرجل والمرأة لصالح ثناية عسكري/مدني رديء؛ كما تختفي صورة المرأة لصالح صورة الكائن المقاتل.
وبالمقارنة بين مقاربة ايما سنكلير لدور المؤسسة العسكرية مع تصريحات القيادي الكردي الدار خليل حول حفل ملكة الجمال، نجد أن الأخير يقترب كثيراً من صورة الرؤية العسكرية التركية وربما من مواقف شمولية عديدة. إذ يشير الدار خليل في أحد تعليقاته إلى أن ما حدث “يتنافى مع أخلاق الأمة الديمقراطية الكردية ومع تضحيات صانعات الأمة الكردية”. فلا دور للفتاة الكردية اليوم وربما غداً إلا دور واحد يتمثّل في الوجود في صحراء الرقة ودير الزور، مرتدية لباساً عسكرياً في سبيل صناعة الأمة الجديدة (للسوسيولوجي الإيراني آصف بيات قراءة مشابهة حول مواقف الخميني من حفلات الغناء، ويصفها بأيديولوجية “الأحزان”)؛ أما أولئك النسوة اللواتي يرتدين ألبسة جميلة وأنيقة فهن لا ينتمين لهذه الأمة وأخلاقها، إذ أن هذه السلوكيات ليست سوى امتداد لقيم الاستهلاك الغربي (إحدى مفارقات الحزب) في حين أن المطلوب منهن رمي هذه الثياب والالتزام بعالم الأحزان والرجولة (أُجبِرت بعض الفتيات المتسابقات لاحقاً على الاعتذار لمشاركتهن في هذه المسابقة). ولا مكان في هذه المعادلة لقيم الأنثى أو مساواة لها مع الرجال، وإنما تصبح جديرة بالاعتراف في حال دخلت عالم الذكورة وتشبّهت بهم في شكلها وكلامها.
ذكورة أوروبية
أما الصورة الثالثة فتتعلق بمواقف بعض الدول الأوروبية، إذ تشير بعض الأخبار إلى أن فرنسا اشترطت لإخراج مواطناتها من هذا المعتقل تخلّي الأمهات عن اولادهن؛ وإلا فهي غير مسؤولة عن اعادتهن أو حتى التفكير بوضعهن في المعتقلات الجماعية التي وُضِعن فيها.
وهي حالة قد لا تختلف كثيراً من حيث المضمون عن الحالات السابقة؛ فربما تخضع النساء هنا أيضاً لتعريفات الدولة للذكورة والأنوثة؛ فالأنثى الفرنسية هي تلك الأنثى التي لا تنجب سوى مواطنين صالحين؛ أما وفي حال تمسكت بأشبالها الصغار (أولاد الجهاديين) فهي بذلك لا تقترب من مخيال الأنوثة الفرنسي.
ولا مجال هنا لجانبها الأنثوي أو الحقوقي، بل هناك نوع من التماهي أو التنصيف بين صورة هذه المرأة مع صورة الجهادي من حيث الخطورة. لا فرق بينهم إذاً؛ تغيب هنا أيضاً صورة المرأة لصالح مخيال أوروبي قاصر لا ينظر لحقوق النساء أو وضعهن في الحروب، تراجع عن قيم الامة والمساواة لصالح رؤية تتجاهل أو تهمّش أي رؤية انثوية لا تتوافق مع قيم الانوثة التي صنعتها الأمة الفرنسية.
مشهدُ اعتقال جهاديات أوروبيات، بحراسة سجّانين أكراد، لا دور للمرأة الكردية في عقولهم خارج حياة القتال، وتعريف فرنسي ضيق للأنوثة…يبدو أننا أمام أنوثة جديدة، أنوثة لم تنتج عن قيم بطريركية محلية، بل عن تفاعل بين العالمي والديني والمحلي وقوى الحرب، إنها أنوثة مُتخيّلة جديدة في الشرق الأوسط…
Social Links: