ترصد رواية (كائنات الخراب) لكاتبها محمد قبلان رضوان، حالة التصدّع والانهيار المادي والمعنوي للشرائح الوسطى في المجتمع السوري، وتجسّدَ هذا الانهيار في شخصيات روائية متعددة، تدحرجت إلى أسفل القاع المخرّب، لترفد جيش البطالة والتشرد والشقاوات، بدفع من عوامل اجتماعية وأخرى سياسية، أهمها ما تعرضت له تلك الشرائح على يد الأجهزة الأمنية المتشابكة مع أخطبوط الاستبداد والفساد، الذي أداره بمنتهى الحرفية تحالف البرجوازيتين البيروقراطية والطفيلية، في ذروة تحكمهما في لقمة السوريين وسبل عيشهم، لا سيما في ثمانينيات القرن الماضي؛ حيث عمدت براغماتية حافظ الأسد الخبيثة إلى تخريب هذه الفئات، باعتبارها مركز التوازن الثقلي والاستقرار الاجتماعي والخزان البشري المنتج للسياسة والثقافة والمشاركة، وحافظة لمنظومة القيم الوطنية التشاركية والأخلاقية الجامعة. وحيث تشكّلت، من ضحايا هذا القمع السياسي والتفكيك المنهجي للروابط الأسرية، جزر وأرخبيلات عشوائية، يجمعها التشرد والشقاوات، وتلوب في التفتيش عن لقمة ذليلة، ومأوى ليلة في أماكن خربة، أو في الموانئ بين هوام الأرض، مكررة مع الأجهزة الأمنية لعبة عسكر وحرامية على مسرح الحياة الواقعية المتعفنة.
قد يصحّ إدراج (كائنات الخراب) في عداد روايات الشخصية، نظرًا إلى تركيزها على مسار ومصاير شخوصها الافتراضيين، وجعلهم في محور الثبات النسبي، قياسًا إلى مجموعة عناصر العمل الروائي، وحيث يتقاطعون مع أحداث من طبيعة وواقع الصراع الوجودي والدفاع عن حق الحياة، الذي لا يبدّل من طبيعته تتابع الأزمنة ولا تغيّر الأمكنة، وبذا يقترب الكاتب محمد رضوان، خطوة من إحياء مفهوم البطولة الفردية في كلاسيكيات الرواية العربية، والحكم على بطولاتها الفردية بالنقصان والفشل والضياع، في ظلّ غياب التنظيم والتشارك الحقيقي أمام قوة آلة القمع الماحقة، في حين أن تلك الأجهزة التي تلاحق هذه الشقاوات/ الضحايا، هي ذاتها، التي تعلق مصيرهم وحياتهم اليومية في هذا البؤس، وفق ما كشفه الضفدع لحسام بقوله: “إنّ عناصر الأمن التي تطاردهم هي نفسها التي تقوم بحمايتهم. تستخدمهم كيفما تشاء. إنهم شركاء في التخطيط وفي الغنائم” ص99.
هذا الخراب هو مآل الطفل حسام وإخوته، بعد موت والدتهم واعتقال والدهم المعلم المطارد سياسيًا، وهو مصير كل من الزيبق والضفدع ومصير رهام التي فقدت زوجها وحبيبها فراس، بعد أن افتعل الأمن حريقًا في شقته، واستولوا على الكتاب التوثيقي الذي بذل فيه جهد عمره، وهدف من خلاله إلى فضح أسرار خطيرة، كان قد حصل عليها كضابط مسرح، لأنه رفض الانصياع لمطالب رؤساء اللعب بمصاير البشر والبلاد، سياسيًا وعسكريًا وأخلاقيًا.
لقد وزّع الكاتب السرد بين شخصيتين أساسيتين، تعيش كلّ منهما في داخل الحدث، فحين يغيب حسام عن المشهد بعد هربه من بيت خالته؛ تتولى أخته رهام السرد، منذ دخولها جامعة دمشق، وأثناء وبعد تفتيشها عن أخيها حسام، بالإعلان عن مفقود في الجريدة، وهي المناسبة التي عثرت فيها على فراس الحبيب، الذي يعوضها حينًا من الزمن عن فقدان أخيها، قبل أن يختفي هو الآخر بظروف غامضة إثر حادثة الحريق المفتعل.
وينتهي السرد ولا تنتهي الحكاية، بل تظل مفتوحة على أسئلة تشكل ثيمات فارقة متحدية، تترك للقارئ أن يخمن مصاير هذه الكائنات التي باتت تعنيه، لأنها شديدة المشاكلة مع مشاهداته وما عاشه أو تعرّف إليه في سورية، التي أفرغها الاستبداد من طاقة شبابها وألقى بهم إلى الضياع، إما في هوامش الحياة الذليلة البائسة أو ابتلعتهم الهجرة، في رحلة الصراع الوجودي المرير الذي يبدأ بلقمة الخبز والأمن الشخصي، ويطول كرامة الإنسان وحريته وأبسط حقوقه في وطنه.
لقد اعتمد الكاتب أسلوب توزيع المبنى الروائي إلى عناوين دلالية واستشرافية متعددة، وجعلها توطئة واستدراجًا للقارئ، قبل أن يصدمه بالمتن الروائي المفعم والمزدحم بالأحداث الواقعية اللاهثة القاسية، التي تتبدّل وفقًا لخطوطه السردية الخطية المحكمة، والمتنامية صعدًا نحو التقاطع في فضاء الرواية الزمني والمكاني، المشبعين بالقلق والتوتر والتنقل بين دمشق وبيروت واللاذقية والسويداء، وبين السجون والمعتقلات، مجسدًا بذلك حالة وعي، تتنامى عند شخوص الرواية على عالم الظلم المحيط، وعالم القاع البائس الذي خبروه، ابتداء من بيت الخالة سراب ومحيط عملها في الخدمة في البيوت وجرها لعربة النفايات، ودورها المتميز بالحفاظ على ابنة أختها رهام، وتربيتها على الجمع بين العمل في القاع وجرّ العربة والدراسة حتى وصولها إلى الجامعة، في سردية لصورة ذات دلالة مؤثرة، لتفكك الأسر المنهكة من جهة وحميمية تعاضدها من جهة أخرى.
في كائنات الخراب، نجد هذا العبور من المحلي إلى الوطني، ليس لأنّ شخوصها متنقلين ومتوائمين خارج بيئتهم المحلية، بل لأنّ مقولة الرواية تعالج مناخًا سوريًا عامًا، يكشف عن تركات ومخلفات الاستبداد السياسي على المستوى الوطني، ولأنّ كلًا من حسام وأخته رهام وفراس، قد تجاوزوا مكانهم المحلي إلى العاصمة باعتبارها الجامع الوطني من جهة، والمركز الأهم في التعبير عن طابع سلطة القمع والفساد والتخريب من جهة ثانية.
من هنا كان التفريع من العاصمة دمشق والعودة إليها، محل اهتمام الكاتب في روايته الجديدة (كائنات الخراب)، ومن هنا كانت مواءمته بين العناصر السردية وشحنها بالمؤثرات العاطفية والانفعالية، على لسان شخصيات تعيش الحدث بأبعاده كلها، وقد نجح الكاتب بالتخفي خلف الراوي حسام والراوية رهام، وحرص على لغة متوافقة أو مطابقة للحظتها السردية؛ بدءًا باختيار الأسماء المعبرة (سراب وعتاب والزيبق، الفيلسوف، الضفدع.. إلخ). وتتميز لغة الوصف بالدقة والجمالية، سواء في وصف الأماكن أو في المواقف النفسية، كحالات الخوف والقلق والترقب، على حين تأخذ لغة السرد والحوار طابعًا وظيفيًا، فالخالة سراب تخاطب أحد جامعي النفايات الحديثين بتعابير بليغة موقعة، قد تتفوق على لغتها الواقعية، ولكنها شديدة الاتصال بالمهنة، فتقول: “انصهر فقط في الأرصفة والحاويات، وخذ مجدك كإمبراطور على مكب النفايات، وتظاهر بأن جسدك لم يعد موجودًا، كي يندمج في رحاب القمامة، يسبر الأشياء، يعريها ويجعلها ماثلة أمامك كالقطيع”. ص144
وتعتدل هذه اللغة عند فئة، تبيع جهدها العضلي في سوق التدافع على اللقمة الذليلة العسيرة، ويغدو المجاز في سردية حسام، متقاربًا مع لغة الواقع ومستوى وعيه، يقول: “أخذتني قدماي إلى حظائر النوم في الميناء. كانت مفتوحة للصوص والمشردين والقتلة، كما للقطط والجرذان وأسراب القمل والبراغيث، ويقال إنّ أجيالًا من المتسولين والفارين من العدالة، ولدوا هنا كبيوض السلحفاة”. ص30
عمومًا، لقد قام هذا المنجز الروائي على مبدأي التوازن والتكامل بين العناصر الأساسية، وعمل على ربط المؤثرات والانفعالات والتوترات المثيرة للفزع والتوقع، بالشخصيات الافتراضية في عملية مدروسة، تتوخى شدّ انتباه القارئ للمشاركة في المواقف الانفعالية، وفي أبعادها الفكرية والسياسية العميقة.
* رواية (كائنات الخراب) صدرت عن دار هدوء للنشر والطباعة والتوزيع 2018، في 205 صفحات. وللكاتب روايات أخرى هي: المساء الأخير 2003، البراري 2005، أعمدة الغبار 2009، زائر الليل 2014.. وله تحت الطبع: أرض فتية مراوغة، ودموع الالهة.
Social Links: