مرصد إسطنبول وصاحبه الدمشقي: هل أدى الإرث السيوطي إلى تراجع العلوم الإسلامية؟ –  محمد تركي الربيعو

مرصد إسطنبول وصاحبه الدمشقي: هل أدى الإرث السيوطي إلى تراجع العلوم الإسلامية؟ –  محمد تركي الربيعو

مرصد إسطنبول وصاحبه الدمشقي: هل أدى الإرث السيوطي إلى تراجع العلوم الإسلامية؟

 محمد تركي الربيعو

في بداية عام 1580، حدثت في مدينة اسطنبول حادثة غريبة وهي هدم مرصدها الفكري الحديث البناء، وإزالة جميع مبانيه وآلات الرصد فيه. ولا تكمن غرابة هذه الحادثة في فكرة هدم مؤسسة علمية عريقة، بل تكمن أيضاً في كون السلطان مراد الثالث (1575ـ 1595) الذي أمر بهدم المرصد هو نفسه الذي كان قد أمر ببنائه، بعدما تبنى فكرة المرصد من البداية.
كان المسؤول عن المرصد عالماً لامعاً، يُعتقد أنه من مواليد دمشق، وهو تقي الدين بن معروف (1525ـ 1585) المكنّى بالدمشقي وبالراصد. وقد ربطت بعض الأخبار والقراءات، التي كتبها عدد من علماء تلك الفترة، هذه الحادثة بالتطورات السياسية والعسكرية وقتئذ، إذ تشير المصادر التاريخية إلى أن العثمانيين كانوا في تلك الفترة يدرسون فكرة تحريك الجبهة الشرقية لشن حرب على الصفويين. وكانت جماعة من بطانة السلطان المتحمسين للفكرة تحرّض عليها، بيد أن السلطان مراد كان متردداً، خوفاً من استغلال الأوروبيين انشغالهم بتلك الحرب للقيام بتحرك استراتيجي لفتح الجبهة الغربية، في وقت لا يمكنهم فيه القتال على جبهتين. وبحسب قصيدة معاصرة لتقي الدين كتبها علاء الدين المنصور وضمنها في كتاب له «ملك الملوك» رصد تقي الدين في عام 1977 شهاباً مذنباً كبيراً في السماء، وتنبأ في إثر ذلك للسلطان بأن هذه الظاهرة الفلكية الفريدة دلالة خير، وأن النصر سيكون حليفهم في الحرب. وبناء على هذه البشارة أمر السلطان بتحريك الجيش وشن الحرب، إلا أن الهجمات التي شنتها القوات الصفوية بالمقابل أدت إلى تراجع العثمانيين وإلى سقوط كثير من القتلى في تلك الحرب الطويلة. كما انتشر الطاعون في تلك الفترة في إسطنبول، فتضافرت هذه الحوادث كلها لتعطي إحساساً سلبياً تجاه المرصد وما يمثله في علاقته بعلم أحكام النجوم. في هذا السياق، كان عالم العثمانيات الراحل خليل أينالجيك قد أفرد في كتابه «تاريخ الدولة العثمانية من النشوء إلى الانحدار» فصلاً خاصاً سمّاه «انتصار التعصب»، أشار فيه إلى أن الانفتاح العلمي الذي عرفته الدولة بدأ يتحول في اتجاه التعصب الديني الذي أخذ يتنامى في القرون اللاحقة.
ويعزو أينالجيك ظهور هذا التعصب لعدة عوامل منها، ازدياد الوعي بالهوية الإسلامية للدولة العثمانية، بعد سيطرتها على العالم العربي الإسلامي، وتبنّي السلطان لقب الخليفة، وتنامي الإحساس بأن الدولة العثمانية هي ممثّلة قيم الخلافة الإسلامية ومبادئها، إذ قام السلطان سليمان بدراسة الفقه الإسلامي وكلّف القاضي والمفتي وشيخ الإسلام الشهير أبو السعود (ت1574) بإعادة صوغ قوانين السلطنة وجعلها متوافقة مع الشريعة الإسلامية.

الإرث السيوطي: رؤية مغايرة

في موازاة هذه القراءة، حاول المؤرخ وأستاذ العمارة السوري سامر عكاش، جامعة أديلايد الأسترالية، إعادة النظر في تفسير أينالجيك السابق حول هدم مرصد إسطنبول، إذ يرى في كتابه الصادر حديثاً «مرصد إسطنبول: تطوّر ثقافة العلوم في الإسلام بعد كوبرنيكوس» أنه رغم تبلور أشكال من العقلانية الأصوليّة المتشدّدة في الأوساط الدينية، وتنامي تأثيرها في المجتمعات العثمانية، إلا أن نظرية أيناليجك لانتصار التعصّب تعاني إشكالاً رئيسيا؛ً ألا وهو تعميم تلك التوجهات الأصوليّة لشريحة معينة من العلماء، وتصويرها على أنها نزعة تعصّبية عمّت المجتمعات العثمانية، وانتصرت في النهاية على النزعات الفكرية والدينية المنفتحة وكانت السبب في تراجـــع العثمانيين وانحطاط دولهم.
وبالعودة إلى الأدبيات التي كُتِبت حول علم الهيئة (الفلك) التي ألفّها عدد من العلماء أمثال السيوطي، يرى عكاش أن الأخير استطاع من خلال كتاباته الفقهية في هذا الجانب التأسيس لإرث سيكون له تأثير كبير على رؤية العلماء لعلم الفلك، ولن يتوقف هذا التأثير على فترة العثمانيين، بل سيشمل علماء كبارا مثل النابلسي في القرن الثامن عشر مروراً بابن باز في السعودية خلال القرن العشرين.

ولكن ما هو هذا الإرث السيوطي؟

في نهايات القرن الخامس عشر، صنّف السيوطي كتاباً صغيراً في علم الهيئة كان له، وفقاً لعكاش، وقع خطر على المسيرة العلمية في العالمين العربي والعثماني، هو «الهيئة السَنية في الهيئة السُنية» ويمكن مقارنة هذا الكتاب بكتاب كوبرنيكوس في دوران الأفلاك السماوية، الذي تزامن العمل فيه مع كتاب السيوطي، إذ بحث الكتابان في علم الهيئة، إلا أنهما تناولا الموضوع من منظورين مختلفين تماماً من دون أي تواصل تاريخي بين تجربتيهما أو تواصل معرفي بين النصين.
يفسّر عكاش صدفةَ التزامن بانتشار الأفكار والتصورات الجديدة عن الكون، التي بدأت تشكّك في التصورات الفلكية القديمة. ويختلف كتاب الهيئة السنية عن كتاب كوبرنيكوس، في كونه كتاباً في علوم الدين لا في علوم الطبيعة، فهو كتاب في الحديث موضوعه علم الهيئة وليس في علم الهيئة على نهج الفلكيين الرياضيين، نحّى فيه السيوطي رغبته في الدفاع عن صدقية الدين وتعزيز المنهج التقليدي لعــلوم الكون، في مواجهة أفكار وتصورات كونية جديدة، كحركة الأرض وغيرها. هذا النهج سيكون المنهج الذي يتبعه لاحقاً معظم العلماء المسلمين إلى يومنا هذا حول علم الهيئة والكونيات.

وقد شارك الشيخ عبد الغني النابلسي الدمشقي (1641ـ1731) في نقد التوجهات الأصولية السلفية، عبر تأكيده على حتمية التجديد في المجتمع الإسلامي، مع ذلك نجده في رسالته «اللؤلؤ المكنون في حكم الأخبار عما سيكون» يناقش الالتباس الواقع بين الناس، بخصوص موضوع علم الهيئة. إذ يرى النابلسي أن استناد تلك العلوم إلى العلوم الغيبية، وإلى الظن والتكهّن يكفي لتوضيح الخلل في منهجيتها، وللتشكيك في جدواها وصدقيتها. من هذا المنطلق، لا يشجع النابلسي على الاشتغال بتلك العلوم والممارسات بيد أنه لا ينفي في الوقت نفسه مشروعيتها لأنه قد «رخص أصحابنا من علم النجوم ما يعلم به من مواقيت الصلاة، والصوم والقبلة. وأجازوا الاعتماد على أقوال المنجمين المسلمين في رؤية هلال رمضان. ومنعوا ما سوى ذلك» فيشير هذا الموقف، وفقاً لسامر عكا، إلى الفارق بين مشروعية علم الهيئة والعلوم الفلكية الحسابية بدافع المنفعة في أمور الدين، ولا مشروعية علوم أحكام النجوم بسبب ارتكازها على الظن والتكهّن والاعتقاد بضررها على الفرد والجماعة.
في مقابل استمرار الإرث السيوطي، شهد الغرب، في فترة كوبرنيكوس وما بعده، أفكاراً ستقود إلى فوضى معرفية وعقائدية، قبل أن يتلوها أعمق تحوّل في مسيرة الفكر الفلسفي والعلمي والديني في تاريخ البشرية. فحين ظهر عمل كوبرنيكوس حول مركزية الشمس، هاجمه علماء الدين البروتستانت على أساس أنه مخالف للإنجيل، ويقود إلى الاعتقاد أن الإنسان جزء من العالم الطبيعي كغيره من الموجودات، وأنه لا يتميز عن غيره من المخلوقات بمركزيته الكونية وسيادته على الطبيعة، وتمحور الوجود حوله. وعلى الرغم من خطورة التصوّر الجديد فإن نظرية كوبرنيكوس لم تثر اهتمام علماء الطبيعة والفلك في العشرين سنة التالية لنشرها، ولم تحدث أثراً مباشراً ربما بسبب خلفية مؤلفها الكهنوتية، وربما لكونه لم يضع نظاماً شمسياً حقيقياً، وإنما وضع تصوراً جامداً له. وقد بقيت أفكاره مغمورة عقوداً حتى مجيء علماء القرنين السابع عشر والثامن عشر، غاليليو ونيوتن، وتبنيهم لرؤيته ليُحسم الصراع لمصلحة علماء الطبيعة والتأسيس لعلم كونيات آخر، في حين ظل الإرث السيوطي والديني الإسلامي يهيمن على علم الكونيات في العالم العثماني/العربي الإسلامي، ولم يظهر أي اهتمام جدي ومنهجي بها حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
انطلاقاً من الرؤية السابقة، يرى عكاش أن هدم مرصد إسطنبول لم يكن هو السبب في تراجع دور المسلمين على صعيد إنتاج المعرفة والعلم، وإنما كان بداية رمزية له، تمثّلت في عدم الاكتراث بالنهج العلمي الجديد الذي سلكه الغربيون في القرنين السابع عشر والثامن عشر، إذ ثابر العثمانيون والعرب في مسيرتهم العلمية على نهجهم التقليدي القديم، على الرغم من مساعي التواصل العلمي والمعرفي مع أوروبا، كما حدث لاحقاً مع رفاعة الطهطاوي، زعيم المتنورين العرب؛ فبعد سنوات من التحصيل العلمي في باريس اطّلع فيها على علم الفلك الحديث، بقي الأخير متردداً في الحديث عن كروية الأرض ودورانها حين عودته إلى القاهرة، ولم يتجرأ في النهاية إلا على الإتيان بإشارة خجولة في كتاب رحلته الباريسية خوفاً من غضب مشايخ الأزهر، عاد بعدها في آخر حياته ورفض الأفكار الجديدة، وتمسك بمبادئ الهيئة القديمة.

  • Social Links:

Leave a Reply