يُعرّف المعجم العربي كلمة (حر) بقوله: الحرّ عكس العبد واﻷسير. وإذا كان العبد هو الخاضع للسيد، وشيء من أشياء السيد، واﻷسير عكس الطليق، فإن الحر هو الذات وقد تحررت من كل ما يُخضعها ويأسرها، ولا يمكن اجتماع الحرية والعبودية في ذات واحدة.
عبد السلطة لا يمكن أن يكون حرًا، وعبد القصر لا يمكن أن يكون طليقًا، إذًا هو عكس الحر: فتخيل أن يكون حاكمك عبدًا أو أسيرًا! الخطورة تكمن في سعادته بعبوديته وأسره ظنًا منه أنه سيّد، فيسعى للحفاظ على الحال التي هو عليها في عداء مطلق للحرية والأحرار، ففي الوقت الذي يستخدم فيه عنف العبد تجاه الأحرار قتلًا وتعذيبًا خضوعًا للسلطة والقصر، يُظهر عبودية الخضوع والأسر أمام الأقوياء القادرين على إنهائه من الوجود، أو من عبوديته التي أدمن عليها. إن الخنوع والذل أمام الأقوياء لا يُفسّر إلا بالبنية النفسية للعبد، وهنا تبرز إلى الوجود قيَمه الحقيقية، حيث لا وجود لأثر الكرامة الوطنية فيها.
الحق أن داء السلطة، إذا ما تمكن من العبد، هو داء عضال لا شفاء منه، داء أهم أعراضه الخنوع، ولا يمكن الخلاص من فيروسات هذا الداء إﻻ بوعي حر يُلقّح المجتمع بلقاح مضاد لكل أشكال العبودية.
لا يمكن النظر إلى التاريخ بوصفه حركة عفوية فحسب، إنه ثمرة أفكار في الرأس أيضًا، أفكار تطرح ما يجب أن يكون عليه العالم، وتبرز التراجيديا التاريخية حين يكون هناك أفكار في الرأس تلعب دور المشنقة لأعناق الإمكانات، وللحيلولة دون ولادتها في الواقع، أو حين تكون أفكار رأسٍ خالٍ من جدل الإمكانية والواقع والإرادة. ولكن هناك فرق بين تراجيديا تاريخية تحقق في الواقع ما كان في رحم التاريخ، وهي التراجيديا الحقيقية، وتراجيديا الحمل الكاذب الذي تكون ضحيته الإرادة.
يُضاف إلى هذين النمطين من التراجيديا، وهم الإرادة الحمقاء التي تعتقد بأنها قد تكون سدًا أبديًا أمام مجرى التاريخ، وبخاصة حين يكون المجرى في حال الطوفان. إن الخراب الذي تولده الإرادة الحمقاء قد يفضي إلى نمط من الانحطاط الكلي، إذا ما كانت تمتلك فضلات قوة متبقية من إرث عنفها الطويل في قتل أجنة التاريخ.
لقد واجهت ثقافة السلطة الدكتاتورية الثقافةَ الشعبية التي لا تعرف التعصب الديني أو التعصب القومي أو التعصب الأيديولوجي، فالتعصب بكل أشكاله وصياغاته الزائفة ثمرةُ أوهام مثقفين، وتعميم التعصب بوصفه ثقافة أيديولوجية هو من أكبر جرائم المرضى من المثقفين، والتحررُ من التعصب -أيًا كانت أشكاله- لا يتحقق عن طريق الخطاب فقط بل عن طريق الممارسة لتحقيق الحد الأدنى، على الأقل، من دولة المواطنة، والإتيان على أي مركزية باستثناء مركزية الإنسان المواطن الحر، ولا شك في أن ذلك الهدف يحتاج إلى زمن طويل وشروط تاريخية غير متوفرة الآن بشكل كافٍ، مع أن ملامحه راحت تظهر في بعض الدول العربية، لكن لا بد من الاستمرار بطرح الدعوة إلى ولادة الإنسان المواطن وثقافة الاختلاف والاعتراف والتسامح.
الإرادة الحمقاء، مهما كان حجمها، سواء كانت حاكمة أو غير حاكمة، نمط من الاغتراب التخريبي، الاغتراب الذي يُزيّن لهذه الإرادة تجميد الواقع عبر القوة، أو استعادة واقع مضى ولن يعود أبدًا عبر العنف، في الوقت الذي لا تكون مهمة هذه الإرادة العمياء، في حقيقة الأمر، سوى تأخير مسار الحياة، وخلق آلام مجتمعية وجراحات يصعب اندمالها بزمن قصير.
Social Links: