البنية الاجتماعية والتراث
عبـــــــدالله خلــــــــيفة
يستمر التراث القديم لأن البنية الاجتماعية التي شكلته مستمرة حتى الآن. فالذين يريدون تغيير التراث، أي جعل الموروث المتجدد والمعاد إنتاجه متغيراً وذا صياغة جديدة، عليهم تغيير البنية الاجتماعية.
لقد ورثنا سلطة متسلطة منذ أقدم العصور، وهي التي تتدخل في كل
شيء في حياة المواطن، ومع هذا فإنها لا تعطي إلا الذي يتبعها، وينساق وراء مشروعاتها، التي تكون نهضة أحياناً لأنها تمتلك بعض النقود التي تصرفها علي مشروعات البناء، والتي تكون أحياناً دماراً بانسياقها وراء الحروب.
لكن هذه السلطة هي التي تقرر صرف الثروات وتحديد الأخلاق والواجبات الخ.. السلطة هي التي تحدد تشكيل الجماعات الاجتماعية، من تجعله باذخاً ومن تجعله فقيراً. من تجعله فوق السحاب ومن تجعله تحت الثرى.
ومن هنا فهي سلطة أبوية، متحدة بالجهاز السياسي المطلق، ذكورية، تستند علي العضلات، لأنها تقوم علي التمتع بفوائض الطبيعة وانتاجها القريب، وليس على أساس تصنيعها.
ولهذا شكلت السلطات المتعاقبة علي مر التاريخ، وهي تقوم بنسخ ذواتها وتكرار أنماطها الأساسية، وعياً دينياً تقليدياً، هو هو في شتى المذاهب والديانات، يقوم علي جعل السلطة المطلقة ورمزها أو رموزها، متدخلة في كل شيء في حياة المواطن، فهو مراقب حتي في بيته، أو تحت فراشه، خاضع للثواب إذا تقرب منها، خاضع للعقاب إذا تمرد عليها، وهناك ناموس للتقرب وللتمرد.
الدول المهيمنة على الأرزاق، مهيمنة علي المقادير والأقدار، تحدد أحجام الحياة والموت، أي متى تكثر المواليد إذا استغلت بكثرة وأرادت أن تخوض حروباً، ومتى تتخلص من المواليد إذا دخلتها فعلاً، أو إذا تقلص بيت المال.
بيتُ المال له حاكمٌ مطلق، لا يُسال كم فيه وكم صرف منه، وكم بقي منه، فهو يهب من يشاء أملاكاً، أو يأخذها منه، أو يحدد أحجام الفئات المستفيدة والمتضررة، فكل شيء مرهون بإرادته..
الآداب والفنون والعلوم والفلسفات تدور حول هذا المركز المطلق، فالمستويات الفكرية والاجتماعية من البنية الاجتماعية، مُشكلة حسب تلك المعاني والدلالات، فهي ليست صدىً مباشراً ولكنها متشربة بعروقها الداخلية، يضخُ لها نفس الدم، فتموت العلوم والآداب إذا غضب وليُ النعم، وتزدهر إذا تكرم وأعطى، فُتقاس عهود النهضة بابتساماته، وكرمه، وتقاس عهود التخلف بغيابه وانتشار البخلاء والضعاف والقساة من الحكام.
والشعب ليس شعباً بل قطيعاً مربوطاً بحظيرة الحكم، يعيش طوال عصوره منتظراً طلوع المخلص، أي حاكماً عادلاً أبدياً مطلقاً من خياله الصافي، ولكن المُكّدر بنفس الطين التراثي، فهذا المنتظر العادل المخلص هو فرد ذكر أيضاً، لأنه في الثقافة الاستبدادية الذكورية العريقة لا يمكن أن يكون المخلص امرأة، لأن الإنتاج لا يزال بالعضلات، ولهذا فإن الشعب المربوط عند حظيرة النظام الاجتماعي التاريخي يحلم بفرد آخر، ينجز الانتقال من عصر الظلم إلى عصر العدالة. دون أن يطرأ على الإنتاج تغيرات ما، لأن البنية التقليدية تقوم على اقتصاد زراعي ورعوي وحرفي أو صناعي حكومي، فلا تقوم بتغيير ثوري في العلاقات الاجتماعية، والأبنية الفكرية.
في البنية الاجتماعية العربية الحالية يستمر الحاكم في السيطرة علي موارد الثروة، فيستمر التراث القديم، فرغم غياب الإبل والخيول وتراجع دور الزراعة، إلا ان ولي النعم لا يزال يتعامل بثروة باطن الأرض مثلما تعامل مع ثروة سطح الأرض، فتغير شكل الثروة وليس الإنتاج الذي يتداولها، تبدلت الفواكه والخضراوات، بالماس والفوسفات والزيت.
ومن هنا فإن أشكال الحياة الفكرية والاجتماعية العتيقة تواصل الحياة، ويستمر الموتى في تحديد طرق الحياة لأجيال الأجهزة الكومبيوترية، مثلما عاش قرناؤهم السابقون والعلماء والشعراء تابعين لبيت المال وتتشكل نظرياتهم وقصائدهم في ظلاله.
البنية الاجتماعية القديمة تستمر فتعيد إنتاج حياتها الأولي بتكييف قليل، ولهذا فان تغيير التراث يبدأ من تغيير البنية التي صنعته علي مدى آلاف السنين، وهذه عملية مغايرة وطويلة.

Social Links: