يعي الأكراد حراجة الموقف الأوروبي (الفرنسي – البريطاني) المتخوّف من موجات هجرة واسعة، وإمكانية تجدّد تنظيم الدولة الإسلامية الذي يبدو، وإن كان في الهزيع الأخير، أنه يجاهد لأجل البقاء، والتقاط أنفاسه مجدّداً، بيد أن مخاوف الأفرقاء الأوروبيين لا يمكن تبديدها في ظل انكفاء الولايات المتحدة وخروجها المبرم من سورية. وبالتالي، لا يمكن للأكراد الوثوق بما تبقّى من قوّات التحالف، ولا التعويل على قدراتها في مواجهة روسيا وتركيا، القوتين اللتين تتحينان الفرصة للحلول محل الولايات المتحدة.
في إزاء المخاوف الكردية المتّصلة بإمكانية تنفيذ الحكومة التركية تهديداتها، وفي ظل انفصام عرى التحالف الغربي، تذهب الترجيحات إلى إمكانية إبرام اتفاق بين قوات سورية الديمقراطية (قسد) وروسيا، فمن شأن تحالف مفترض كهذا أن يسرّع بسط السيطرة الروسية على التراب السوري في منطقةٍ غنيةٍ بالموارد، وقطع الطريق على تدخل تركي مخيف للأكراد، ومؤثر على العملية السياسية برمتها، إذ لا يبدي الروس استعداداً لتكرار تجربة إدلب.
قد تتسارع الأحداث المحتمل أن تسفر عن اتفاق روسي كردي، من شأنه قطع الطريق على تركيا التي أعلن رئيسها أردوغان عن تريّث بلاده في ما خصّ تنفيذ عملية عسكرية داخل مناطق شرقي الفرات. ولعل مردّ التريث يمكن أن يفسر بثلاثة أسباب: الأوّل أن تركيا غير مستعدّة لاستفزاز الولايات المتحدة التي هي في طور الخروج، وأن تدخّلاً عسكرياً تركياً، في هذه الأثناء، قد يقوّي من مركز الفريق الأميركي الرافض للانسحاب بذرائع “الموقف الأخلاقي”، وأن شركاء الولايات المتحدة (الأكراد) سيُتركون لمصير مجهول. وبالتالي، من شأن التريّث التركي منح موقف الرئيس ترامب مزيدا من الرسوخ والقوّة، وعدم تحميله تبعات مباشرة عن الانسحاب. ويمكن ربط السبب الثاني برغبة حزب العدالة والتنمية (الحاكم) في أن تكون العملية العسكرية الحاسمة على مقربةٍ من الانتخابات المحلّية التركية في مارس/ آذار المقبل، ما من شأنه تقوية مركز الحزب دعائياً. وقد يكمن السبب الثالث للإرجاء التركي في حذر أنقرة من ردّ فعل روسي، يهدم ما تمّ بناؤه بين الدولتين طوال الفترة الماضية. وبالتالي، لا بد من الوصول إلى توافق جديد بشأن سياسة ملء الفراغ الأميركي، ويبدو هذا الأمر أهم الأسباب، وأكثرها تعقيداً.
وعليه، قد يكون للأجل الأميركي المحدّد للانسحاب، وفترة التريّث التركي، الأثر المهم على مستقبل المنطقة، إذ قد تكون هذه المدّة، على قصرها، كافية لحزب الاتحاد الديمقراطي للخوض في سياسات وتحالفات جديدة، تمكّنه من تدوير بعض الزوايا، كالتقرّب مع نظام دمشق، والأهم إبرام اتفاق مع موسكو التي يبدو أن الفراغ الأميركي سيصبّ في مصلحتها المباشرة.
في مطلق الأحوال، قد تفرض موسكو شروطاً قاسية على حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي)، من شأنها تقوية حضور النظام السوري، إلّا أن تحقّق سيناريو التقارب هذا قد يحصل بالنظر إلى المخاطر التي يعيها الحزب، والذي قد يُقدم على تنازلات محدودة، تجنّبه الخطر التركي. وعليه، إذا كان على “الاتحاد الديمقراطي” أن يمنح أحدهم نصراً، في هذه الظروف الحرجة، فليكن النصر حليف موسكو، بدل أن يؤول لأنقرة، هذا على الأقل ما يمكن أن يستشفّ من الخيارات الكردية الضيّقة.
Social Links: