عيد الميلاد ودرس الكوكاكول
لا حرج، من حيث حرّية التفكير على الأقلّ، أن تلحّ على الغرباء ــ زائري عشرات الحواضر العالمية شرقاً وغرباً، في هذه الأيام بالذات ــ سلسلة أسئلة مشروعة، مبعثها بحار الأضواء والزينات التي تغرق فيها المدن والبلدات والقرى احتفالاً بعيد الميلاد: أهذه، حقاً، مراكز عمران «علمانية» فصلت الدين عن الدولة، تماماً؟ وكيف يحدث أنّ هذه الحواضر ذاتها لا تُفرد للأعياد الوطنية، وما أكثرها، عُشر ما تتسابق عليه من أضواء وزينات في عيد الميلاد؟ وإذا شاء المرء أن يستعين أكثر بعلوم الأناسة، ألا يعود الأمر إلى جذور أخرى أبعد من الدين أو التقليد أو المناسبة بصفة عامة؟ وفي نهاية المطاف، هل هذا عيد ديني، كما يقول تعريفه الرسمي، أم انقلب إلى تقليد شعبي وباتت روابطه بالأصل الديني واهية أو شبه منعدمة؟
لست أساجل ضدّ صبغة «أممية» يمكن أن تتخذها الأعياد الدينية عند ارتباطها بأنساق الاحتفال الإنساني ومظاهر الفرح البشري (في جوانبه الفطرية والطفولية، جوهرياً)؛ أكثر من اقترانها بشعائر المسجد والكنيسة والكنيس والمعبد، وما ينجم عن ذلك الاقتران من طقوس تكميلية، إذا جاز توصيفها هكذا. ولكنني، في المقابل، لا أصادر الحقّ في إثارة أسئلة مشروعة، خاصة إذا تواشجت مع توظيفات اجتماعية وثقافية، ثمّ دينية وسياسية أيضاً؛ ليست هذه المرّة منفصلة عن سياقات العصر وقضاياه، الإشكالية منها والملتهبة بصفة خاصة. ولأنّ الميلاد هو أكثر الأعياد ألمانيةً كما يُقال، فقد كانت النازية، ممثلة في «الحزب القومي الاجتماعي»، أبرع مَنْ جيّر ميلاد يسوع لصالح ظهور الفوهرر المنقذ؛ وتمّ ذلك التجيير على نحو فاق جهود اليعاقبة الفرنسيين، والبلاشفة الروس، في «تثوير» الأعياد الدينية التقليدية.
وهنا يتوجب أن تؤخذ بعين الاعتبار حقيقة أنّ يوم 25 كانون الأول (ديسمبر) ليس التاريخ الدقيق لولادة يسوع، لأنّ أياً من الأناجيل لا يذكر يوماً محدداً في هذا الصدد. في الماضي كان البعض يحتفل يوم 18 نيسان (أبريل)، والبعض الآخر في 25 آذار (مارس)، وفئة ثالثة اختارت 6 كانون الثاني (يناير)، كما يشير جان ــ لوي بوكارنو في كتابه «هكذا عاش أسلافنا»؛ حتى العام 350، حين قرر البابا يوليوس الأول أنّ يوم 25 كانون الأول هو تاريخ الميلاد الرسمي الذي تعترف به الكنيسة. وهنا أيضاً، كان الاختيار يصادف عيداً وثنياً، شعبياً ومركزياً، مكرّساً للانقلاب الشتوي الذي يُدعى «ميلاد الشمس»، وتعود أصوله إلى شعائر شرقية شعبية حول الخصب والتجدد؛ وكان مفهوماً بالتالي أن يختار البابا هذا العيد تحديداً، للاحتفاء بميلاد «يسوع نور العالم».
السجال يسري أيضاً على اثنين من أبرز أيقونات الميلاد، أي البابا نويل والشجرة؛ إذْ، على نقيض ما يخال الكثيرون، ليس ثمة إجماع على مضامينهما، من جهة أولى؛ أو حتى على صلة كلّ منهما بالميلاد، وبشخصية يسوع، من جهة ثانية. أليس لافتاً أنّ الشجرة لم تُعرف في بريطانيا العظمى إلا سنة 1840، حين جلبها الأمير الألماني ألبرت هدية إلى بلاط سانت جيمس، ومن هناك انتقلت إلى الأوساط الأرستقراطية والثرية وحدها، قبل عقود طويلة من انتشارها في بيوت الطبقة الوسطى، ثمّ الطبقات الأكثر تواضعاً؟ ثمة، في المقابل، حقائق ثقافية وتاريخية وأنثروبولوجية عديدة تقول إنّ تقليد نصب الشجرة له جذوره الوثنية أو الرومانية، ولم يكن دائماً محطّ إجماع في النصوص المقدّسة. ففي «العهد القديم» يعيب إرميا، الإصحاح 01: 2ـ4، الاقتداء بـ «فرائض» الأمم الأخرى، وبينها تزيين الشجرة: «لأنّ فرائض الأمم باطلة. لأنها شجرة يقطعونها من الوعر. صنعة يدَيْ نجّار بالقدّوم. بالفضة والذهب يزينونها وبالمسامير والمطارق يشدّدونها فلا تتحرّك. هي كاللعين في مقثاة فلا تتكلّم…».
البابا نويل، من جانبه، اختراع دنيوي، والشخصية، في ملامحها القياسية التي صارت اليوم علامة كونية، ليست تطويراً غربياً أو شرقياً لنظائر وثنية من أيّ نوع، بل هي ببساطة… اختراع أمريكي! في سنة 1881 كان رسام الكاريكاتير الأمريكي الشهير توماس ناست (صاحب الالتقاط الكاريكاتوري الأشهر للشخصية الأمريكية، أي العمّ سام) هو صاحب التوقيع على الرسم الأوّل للبابا نويل. هذه الصورة، التي ستنتشر سريعاً وتثبّتها في الذاكرة البصرية العالمية آلاف الرسوم والصور والأفلام، هي التي سوف تنقضّ عليها شركة المشروبات الغازية العملاقة كوكا كولا؛ فتستولي على الشخصية والرمز في آن معاً، وتنقلب ألوان ثياب البابا نويل إلى الأبيض والأحمر، ألوان الزجاجة دون سواها. وثمة ذلك الإعلان الأشهر الذي يصوّر سانتا كلوز وقد خلع قبعته، رافعاً كوباً من الكوكا كولا، ولسان حاله يردّد: «أرفع قبّعتي لاستراحة منعشة»!
وبالطبع، كلّ هذه السجالات لا تلغي درس الأنثروبولوجي الفرنسي الكبير كلود ليفي ــ ستروس: «صحيح أنّ الإيمان بالبابا نويل أمر مبهج، ولا ضرر فيه لأحد، ويمكن للأطفال أن يستمدّوا من شخصيته الكثير من السعادة والذكريات الجميلة التي سترافقهم حتى سنّ النضج». ولكننا بهذا «نهرب من السؤال، في الحقيقة، بدل أن نطرحه، لأنّ المطلوب ليس تسويغ الأسباب التي تجعل البابا نويل محبوباً من الأطفال، وإنما تلك الأسباب التي دفعت الكبار إلى اختراعه».
Social Links: