يودع العالم عام 2018 على وقع مشهد احتجاجي بعد أن وصل، بغربه وشرقه، وبدوله النامية والمتقدمة، إلى مرحلة إنهاك لم تعد المؤسسات التقليدية قادرة فيها على إنتاج بدائل وتصورات تحفظ مستقبل الطبقات الوسطى والفقيرة. كل هذه التطورات المنذرة بأن تحولا جذريا سيحصل تعكسها احتجاجات “السترات الصفراء” في أوروبا، كما الاحتجاجات التي تعيش على وقعها دول عربية يبدو أن شعوبها تتأهب للثورة على ثورات الربيع العربي التي زادت من مفاقمة الأوضاع البائسة للطبقات المهمشة.
أثبتت الاحتجاجات التي قادتها حركة السترات الصفراء في فرنسا، أن العالم الذي بدأ يغرق في بحر الأحزاب الشعبوية هو في مرحلة مخاض عسير للبحث عن بدائل ومفاهيم جديدة لإنقاذ عجز وقصور الليبرالية المنهكة التي ثار ضدّها الفرنسيون من الطبقات المتوسطة والفقيرة.
أدى نجاح حركة السترات الصفراء إلى تراجع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خطوات إلى الوراء عبر تقديمه تنازلات باتخاذ إجراءات وصفت بالشعبوية عساها تخفت أصوات الطبقات الضعيفة في فرنسا، إلا أن ذلك لم يمنع من تحول المطالب إلى سياسية هادفة إلى إسقاط النظام وتغيير النظام الليبرالي الذي يقود العالم منذ سقوط المعسكر الشيوعي في عام 1991.
هذا المدّ الاحتجاجي الفرنسي الباحث عن أفكار وتصورات جديدة تنقذ مستقبل الطبقات الوسطى والضعيفة، غذى احتقانا كامنا في بعض الدول العربية المتخبطة في أزمات اقتصادية واجتماعية، بعد أن ثارت متطلعة إلى وضع أحسن فكانت النتيجة وضعا أسوأ، وبقيت شرارة الغضب مشتعلة.
ثورة على الثورة
تحيي بعض الدول العربية الذكرى الثامنة لثورات الربيع العربي، التي انطلقت من تونس في 14 يناير 2011.
وتشهد دول عربية موجة احتجاجات متفاوتة في حدتها، لكن أهدافها ومطالبها موحّدة وفحواها الاحتجاج على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية، لتتطور في بعض الدول، خاصة السودان، إلى مطالب سياسية داعية إلى تغيير النظام.
شملت الاحتجاجات كلا من السودان وتونس وليبيا ولبنان والعراق والأردن والجزائر واستلهمت بعض الاحتجاجات، كما الحال في لبنان وتونس، فكرة حركة “السترات الصفراء” المستمرة في فرنسا منذ 17 نوفمبر الماضي، والتي ضربت موجتها دولا أوروبية عديدة.
ويؤكد تشابه شعارات الاحتجاجات ومطالبها أن العالم دخل في مأزق الموت السريري للرأسمالية التقليدية وخطط مؤسسات الإقراض الدولية، وفكر الإصلاح الذي ينبني على إجبار المواطنين على التضحية.
ورغم ما تسبب فيه هذا الفكر من تعقيدات وأزمات، لم يرافقه تنظير أو اشتغال فكري على ابتكار مفاهيم جديدة تحفظ الأمن الاجتماعي للطبقات الهشة التي أنهكتها سياسات بلدانها التي وصلت إلى أقصى مراحل الرأسمالية مما أفضى إلى تجاوز مقولة “دعه يعمل دعه يمر” للفيلسوف الاسكتلندي آدم سميث، منظر الليبرالية، إلى شعار بديل أكثر توحش هو “دعه يعمل، دعه يموت”.
ورغم أن التحذيرات من تهاوي النظام العالمي الليبرالي وما سيرافق ذلك من انفجارات اجتماعية تهز العالم ليست جديدة وانطلقت بعنف خاصة مع الأزمة المالية في عام 2008، فإن العديد من مراكز الدراسات والبحوث والمنظرين يشددون على أن الليبرالية بشكلها الحالي ستمرض لكنها ستطل بشكل مرحلي جديد لن يكون قادرا سوى على إنتاج مسكنات آنية تمهّد للبحث والتفكير في بدائل أخرى تحل محل الرأسمالية بصفة تامة.
تتطلب هذه الأزمات العالمية، وجوبا، الوقوف عند تاريخية تشكّل النظم وانغماسها في ما هو يومي لكل إنسان في العالم، فكما حدث خلال نهاية النظام الإقطاعي منذ 500 عام، فإن الدول الليبرالية ستحاول التسريع باستبدال الرأسمالية بما بعد الرأسمالية بالاعتماد على مسكنات وصدمات تحاول تشكيل نوع جديد من المفاهيم القادرة على تغيير رؤية الإنسان إلى الأشياء سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.
الشعب يريد إسقاط النظام
كما اليمين الليبرالي، فإن الأحزاب المؤدلجة، على غرار تيار الإسلام السياسي في المنطقة العربية، بجميع تمظهراتها وأشكالها ساهمت في إغراق الدول في مستنقعات تدور رحاها حول جذب وتكديس المزيد من الأموال بطريقة ليست أفضل ممّا تعيش على وقعه الليبرالية الغربية.
هنا، تعتبر احتجاجات السودانيين، ضد النظام الذي يقوده عمر البشير هي الأعنف والأشد، حيث وصل سقف مطالب المحتجين إلى الدعوة إلى إسقاط النظام بعدما شهدت الاحتجاجات سقوط 8 قتلى بحسب السلطات، بينما ترفع المعارضة العدد إلى 22 قتيلا، إضافة إلى عشرات الجرحى.
وزادت تصريحات الرئيس السوداني عمر البشير المستفزة بوصفه المحتجين بالخونة في توتير الأجواء، رغم أن مطالب السودانيين كانت في منطلقها اجتماعية بعد الزيادة في سعر الخبز .
لا يختلف الوضع كثيرا في تونس، حيث تجتاح الاحتجاجات العارمة مناطق عدة ومختلفة بعد أن أحرق المصور التلفزيوني عبدالرزاق الزرقي جسده في محافظة القصرين وسط غرب البلاد.
ويقول حمزة نصري، أحد الأعضاء الناشطين في حملة “باسطا” (يكفي)، التي أطلقتها في تونس مجموعة من الشبان، إن هدف الحملة هو مساندة الاحتجاجات التي عمّت البلاد بسبب فشل منظومة الحكم الحالية وكل الحكومات المتعاقبة منذ ثورة 2011 في تحقيق الاستحقاقات الاجتماعية للتونسيين والمتمثلة أساسا في الخبز والكرامة.
ويضيف حمزة، لـ“العرب”، أن الحملة ترفع شعار “الشعب يريد إسقاط النظام، الشعب يريد إسقاط الرأسمالية”، مؤكّدا أن تونس التي اصطفت وراء المعسكر الليبرالي منذ خمسينات القرن الماضي أنهكت الطبقات الوسطى والفقيرة والمهمشة.
وأشار إلى أن منظومة الحكم الحالية أوصلت البلاد إلى المجهول وسط تفاقم الأوضاع الاجتماعية المتردية للأغلبية الساحقة في تونس.
مسؤولية الحكومات
يحمّل الكثير من التونسيين الحكومات المتعاقبة مسؤولية أزمات البلاد، ويبدو أن هذه الفكرة لا تقتصر على التونسيين فقط، حيث تمتد لتشمل اللبنانيين أيضا، والذين، ولئن اختلف السياق العام لبلادهم عن بقية الدول الغاضبة، فإنهم يحملون بدورهم المنظومة السياسية التقليدية مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وحتى السياسية.
ومؤخرا، اقتبس النشطاء في لبنان فكرة “السترات الصفراء” لإطلاق موجة احتجاجية.
خرجت أول مظاهرة في هذا الإطار الأحد الماضي شهدت أعمال شغب وقطع طرق رئيسية، ما استدعى تدخّل قوة من الجيش. وللمحتجين ثلاثة مطالب: خفض الضرائب على أسعار المحروقات، إيجاد خطة صحية شاملة تشمل البطاقة الصحية، وإعادة الفائدة على سندات الخزينة إلى ما كانت عليه بنسبة 7.5 بالمئة بعدما صارت 10 بالمئة.
أما ليبيا التي تعيش في حالة فوضى شاملة وانعدام أمن منذ سقوط نظام العقيد معمر القذافي في عام 2011، فتشهد بدورها نوعا جديدا من الاحتجاجات قادمة من الجنوب، حيث أقدم محتجون ليبيون، ألّفوا ما عُرف بــ“حراك غضب فزان”، على إغلاق حقل الشرارة النفطي، قرب مدينة أوباري، في 8 ديسمبر الجاري، قبل أن تتوسع الاحتجاجات في 12 منطقة بالجنوب، للمطالبة بتوفير فرص عمل وتنمية المنطقة وتوفير وقود لسكانها.
وبنفس الوتيرة تتسارع الأحداث في العراق الذي يعاني منذ 15 سنة،من توتر أمني وتنامي مظاهر الفساد على وقع احتجاجات تركزت بالأساس في مدن وسط وجنوبي البلاد، للمطالبة بتوفير وظائف وتحسين الخدمات خاصة المياه والكهرباء، إضافة إلى القضاء على الفساد في الجهاز الحكومي.
وتمثّل صورة الاحتجاجات في الأردن الصورة الأدق لنفاد صبر المواطنين من النظام الاقتصادي الذي يحكم البلاد بمنطق إملاءات الصناديق المالية المانحة. وشهد الأردن خلال 2018 احتجاجات على الأوضاع الاقتصادية السيئة وفرض ضرائب جديدة، انتهت باستقالة حكومة هاني الملقي وتشكيل حكومة عمر الرزاز الذي لم ينجح في تهدئة الشارع الذي لا يزال رافعا نفس الشعارات والمطالب.
يختلف الوضع في بعض التفاصيل في الجزائر، التي تبدو اليوم من أكثر دول المنطقة تأزما ومصدرا لقلق إقليمي ودولي. وحالة الغضب في الجزائر مزدوجة، غضب ضد الولاية الخامسة للرئيس المريض عبدالعزيز بوتفليقة، وغضب ضد الوضع العام لبلد عضو في منظمة الأوبك، أغلب شبابه عاطل عن العمل وطبقاته المتوسطة والضعيفة لم تعد قادرة على مجاراة غلاء المعيشة.
وعلى غرار حالة الغليان في تونس التي اندلعت مع انتحار الصحافي التونسي حرقا، يبدو الشارع الجزائري على فوهة بركان منتظرا أي شرارة تفجر غليانه، وهو ما حدث يوم 25 ديسمبر الماضي، حين اندلعت احتجاجات عارمة في محافظة المسيلة جنوب شرق الجزائر، إثر وفاة شاب يدعى عياش محجوبي بعد أن بقي عالقا لستة أيام على عمق 30 مترا في بئر، لتتحول القصة إلى قضية رأي عام رافقتها مظاهرات اعتبرها مراقبون “استعراض عضلات ضد نظام بوتفليقة”.
من المنطقة العربية إلى أوروبا، وغيرهما من بقاع العالم، وإن اختلفت مظاهر الغضب وتفاصيله، فإن هناك نقطة جامعة للكثير من الشعارات والمطالب للطبقات الوسطى والفقيرة، التي أدركت أن حكوماتها، كما معارضتها، تاجرت بأحلامها وباعت لها كوابيس، وهي اليوم ترى نفسها على شفا “نهاية العالم”، مستحضرة قصص أفلام هوليوود عن الطبقات المهمشة التي ستبقى تعيش في العالم السفلي فيما ستنعم طبقة النخبة بالمياه والأكل والبيئة النظيفة وكل مظاهر الحياة الكريمة
Social Links: