من أوراق قديمة نسبيّاً 1-3

 من أوراق قديمة نسبيّاً 1-3

حازم صاغية – نقلا عن صفحته الشخصية على فيسبوك:

… عن “النهار” وآل تويني

في الستينات والنصف الأوّل من السبعينات باتت قراءة «النهار» واجباً على اللبنانيّ الذي يقرأ، بل امتحاناً للبنانيّته. فهو إن لم يفعل، كان كمَن لا يحبّ أغاني فيروز أو أدب جبران خليل جبران. لكنْ لئن أمكن لحياة الأفراد اليوميّة أن تستغني عن ذاك الأدب وتلك الأغاني، فالاستغناء عن «النهار» كان يرسم لصاحبه وجه المغفَّل والمُفوَّت.

الجرائد التي شابهتها سياسيّاً، كـ «الجريدة» و«الصفاء»، كانت تذوي في عالمها الحِرَفيّ القديم. «الحياة» كانت عربيّة جدّاً. «الأنوار» ناصريّة جدّاً. «لسان الحال» تصدر ظهراً. «السفير» لم تكن قد وُلدت بعد.

لقد بدت هي الجريدة بألف ولام التعريف. قد يكرهها البعض لكنّه يقرأها، إمّا لاضطرار وظيفيّ أو للتظاهر بالإلمام أو ربّما لمتعة مازوشيّة.

«النهار» خرجت من حرب 1958 الأهليّة لتواكب، ولو بالمعارضة، المشروع الشهابيّ. ففي موازاة إنشاء الإدارة والمدارس وشبكات الكهرباء والطرق التي تقرّب المناطق واحدتها من الأخرى، غدت جزءاً من هذا المركز البيروتيّ الواحد، منه يطير ديكها الأزرق إلى الأطراف التي «فتحتها» الشهابيّة أمام الدولة. إنّها، إذاً، اللبننة التي اقتصرت قبلاً على جبل لبنان.

المهمّة كانت وطنيّة، بمعنى غير فولكلوريّ، وكانت جدّيّة، بل جليلة، بالنظر إلى العلاقات التي شدّت تاريخيّاً الأطراف تلك إلى سوريّة وفلسطين. وكان ما ضاعف الإلحاح على إنجازها أنّ مواجهة 1958 الأهليّة أضعفت الصلة ببيروت عند الطرابلسيّين والعكّاريّين والبقاعيّين ممّن لم يكن حنينهم إلى دمشق وحمص قد خبا أصلاً. هكذا بدت إعادة ربطهم بالمركز البيروتيّ شرطاً لجعل الوطن وطناً، و«النهار» كانت قطعة من الحبل الرابط.

والتجديد كان سمة العصر، عصرذاك: هكذا غرفت «النهار» من الجامعة اللبنانيّة الحديثة الولادة بعض كوادرها، واعتمدت مراسلين في المناطق النائية التي كان أبناؤها يعيشون أو يموتون بلا صدى، قبل أن تعتمد مندوبين في العالم العربيّ، ثمّ في كبريات عواصم العالم. ومع كلّ تقدّم في الستينات كانت «النهار» تتقدّم: أنشأت صفحة رأي كتب فيها الروائيّ اللاحق أمين معلوف والناشر اللاحق رياض نجيب الريّس وسمير عطا الله ووفيق رمضان وفؤاد مطر وابراهيم سلامة ورفيق معلوف وعبدالكريم أبو النصر والياس الديري وعلي هاشم وآخرون. وهؤلاء جمعوا بين كونهم كتّاباً معلّقين وكونهم محرّرين أو مراسلين في الخارج، فانكسر معهم ذاك الفاصل القديم والبائد بين الكاتب الذي يعمل بعقله والمهنيّ الذي يعمل بيده. ثمّ أنشأت صفحة ثقافيّة كاملة كانت، كصفحة الرأي، الأولى في الصحافة اللبنانيّة، عمل فيها الشاعر شوقي أبي شقرا والمسرحيّ عصام محفوظ والناقد نزيه خاطر وسواهم. وعبرها، ومن خلال سمير نصري، المصريّ المقيم في بيروت، تعرّفتْ أجيال من اللبنانيّين إلى السينما وأحبّتها. أمّا لوحة بيار صادق اليوميّة، الممتدّة على عرض صفحتها الأخيرة، فلم تكن أوّل الكاريكاتير في لبنان، ولا في مصر طبعاً، لكنّها جعلت الرسم للمرّة الأولى ينافس الحرف أو يفوقه أهميّةً وتداولاً. وحين كان يَجدّ حدث كبير، محليّاً أو عربيّاً أو دوليّاً، كانت تخصّص له ملفّاً، هو كرّاس منفصل عنها وإن حمل اسمها. وبين 1964، حين أُسّس ملحق أسبوعيّ شهير رأس تحريره الشاعر أنسي الحاج، أحد شبّان مجلّة «شعر»، و1967، حين انبثقت من الجريدة دار نشر تولاّها الشاعر يوسف الخال، أبرز وجوه «شعر» يومذاك، غدت «النهار» القابض الأبرز على الحياة الثقافيّة في لبنان. وهذا مجتمِعاً كان تقدّميّاً بقدر ما كان إمبراطوريّاً.

ويوميّاً على الصفحة الأولى كان ميشال أبو جودة ينشر عموده الذي تقول إحدى الروايات إنّ قراءته كانت من أوّل ما يفعله جمال عبدالناصر في الصباح. أمّا خليفته أنور السادات فذهب أبعد، إذ قرأ مقاطع من أحد أعمدة أبو جودة أمام مجلس الشعب فيما كان يستعدّ لزيارة القدس.

وأبو جودة بدأ نجمه يسطع لبنانيّاً بعد تعرّضه لضربة موسى تركت أثراً واضحاً على خدّه، وذلك لكتابته مقالاً عنونَه «في حمى الأمير»، تعليقاً على اغتيال النائب الشمعونيّ نعيم مغبغب، عام 1959، إبّان احتفال كمال جنبلاط برئيس الجمهوريّة الجديد «الأمير» فؤاد شهاب.

لكنّ أبو جودة وسّع الأفق النهاريّ فضمّ إليه اهتمامات عربيّة، صاغها بلغة بسيطة، موجزة ومكثّفة. فهو تنبّه مبكراً إلى أنّ بيروت مقصد عرب كثيرين هاربين من انقلاباتهم، حاملين إليها حرّيّاتهم التي يمارسونها بصوت مرتفع في مقاهيها، وحاملين رساميلهم التي أودعوها مصارفها، وأنّ في بيروت فلسطينيّين يحلمون بالعودة إلى فلسطين ويخطّطون، فوق الأرض وتحتها، لذلك. وهذا فضلاً عن الجامعة الأميركيّة بأساتذتها ذوي البلدان واللغات والسحنات الكثيرة. والبيئات المذكورة كنوز للخبر والرأي والمعلومة، لكنّها أيضاً طرق أخرى في النظر إلى المسائل، طرقٌ تُغني الطريقة الواحدة الموروثة والمألوفة لدى اللبنانيّين. وأغلب الظنّ أنّ اغتيال كامل مروّة في 1966 وأثره السلبيّ على “الحياة” أناطا بـ «النهار» الأدوار العربيّة التي كانت تؤدّيها جريدة مروّة وفقاً لتقسيم عمل ضمنيّ بين الصديقين مروّة وتويني: لكم الأولويّة في الشأن العربيّ ولنا الأولويّة في الشأن اللبنانيّ.

هكذا بدا لبنان، مع «النهار»، بلداً جدّيّاً، يصنع نفسه ولا يطيق التعيير بأنّه «صنيعة الاستعمار»، تتلاقى مناطقه في عاصمته كما تصبّ فيها البلدان المجاورة التي استولى عليها العسكر. فوق ذلك، وفيما الفئات الوسطى تتوسّع ويتوسّع معها البيع والشراء والاستيراد والاستهلاك، لاح البلد سوقاً شبه مكتفية بذاتها وبدورتها التجاريّة وعائدها الإعلانيّ.

الولادة الاسميّة تعود إلى 1933. حينذاك، في ظلّ الانتداب الفرنسيّ، كان الطلب كبيراً على الصحف والأحزاب والنقابات، تلك الأدوات التي علّمها الاستعمار لمُستَعْمَريه فغدت أدواتهم في الاستقلال عنه. وكان الطلب كبيراً أيضاً على الطوائف، مِللنا ونِحلنا التي تحدّثت وترسلمت وصارت، بعد قدوم الاستعمار، مؤسّسات و«طوائف».

والمسيحيّون من الروم الأرثوذكس لم يتلكّأوا: ففي الثلاثينات والأربعينات عصف بهم حراك هاجسه الحدّ من وطأة الثنائيّة المارونيّة – السنّيّة، والمشاركة في تأثيث البيت اللبنانيّ الجديد: في 1932، أنشأ أنطون سعادة الحزب السوريّ القوميّ بعمود فقريّ أرثوذكسيّ وقاعدة أرثوذكسيّة غالبة. في 1933، كانت «النهار». في 1939، أسّس ناصيف مجدلاني «منظّمة الغساسنة» التي أحياها قريبه نسيم مجدلاني. في 1944، أطلق جورج خضر وألبير لحّام «حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة». شيوعيّو ستالين كانوا هناك أيضاً، في المزرعة ببيروت والمينا بطرابلس وفي الكورة شمالاً. أمّا التقاطع والازدواج فوُجدا كذلك: جبران تويني، مثلاً، انضمّ إلى «الغساسنة». جورج خضر انتسب إلى السوريّ القوميّ… الأيديولوجيّات القوميّة، العروبيّ منها والسوريّ واللبنانيّ، وكذلك اليمينيّ واليساريّ، لم تكن هي الموضوع إلاّ استطراداً. الموضوع، مُدرَكاً أم غير مُدرَك، كان الطائفة وتعزيز حضورها وزيادة حصّتها في الدولة والإدارة.

لكنّ ولادة «النهار» الفعليّة حصلت مع حصول لبنان وتبلوره شهابيّاً. والحال أنّ البلد، كما صيغ بعد 1958، كانت تلك الجريدة مرآته الأدقّ، وهي ظلّت لعقود هكذا: مدوَّنة صعوده، قبل أن تنقلب ورقة نعيه.

غسّان تويني، نجل المؤسّس جبران والعائد خرّيجاً من هارفرد، كان رمز المشروع وبطله. حبّه للتجديد وللمغامرة وديناميّته ويقظته الحادّة على الحدث والطارىء كانت تدفعه في الاتّجاه هذا.

بيد أنّ العوامل التي تكبح مشروعه وتمتصّ مضمونه، أو تخفّفه، كانت لا تقلّ قوّةً.

ذاك أنّ تويني لم يُخفِ عزمه المبكر على الانضمام إلى نادي السياسيّين التقليديّين. كان يرى أنّ النجوميّة الإعلاميّة لا تكتمل بغير النجوميّة السياسيّة، وكان يتوهّم، بقدر بادٍ من الاعتداد الذي يصنعه الوهم، أنّ في وسعه تحديث سياسة التقليديّين بصيرورته هو نفسه تقليديّاً. أمّا تجاربه في الحكم، وفي السعي إليه، فحوّلته إلى التقليديّ الذي أراد أن يكونه من دون أن تُنتج تحديثاً يُذكر.

في 1951 صار نائباً، وكذلك في 1953، وفي 1957 غدا نائباً لرئيس المجلس. وهو وُزّر في 1970 ثمّ وُزّر في 1975، وبين التاريخين خاض انتخابات 1972 عن عاليه. وأخيراً، وبعد طول انقطاع، عاد، عام 2006، إلى البرلمان ليحتلّ المقعد الذي شغر باغتيال نجله جبران. وإلى النيابة، عمل في 1967 سفيراً في الولايات المتّحدة، ثمّ، بين 1977 و1982، مندوباً في الأمم المتّحدة.

هوس السياسيّ قاده إلى دماثة مبالغ فيها حيال «الأقطاب» السياسيّين، لا سيّما الموارنة منهم، الذين يصدر عنهم رئيس الجمهوريّة، ثمّ السنّة الذين يأتي من صفوفهم رئيس الحكومة. فمعارضة من عارضهم، كبشارة الخوري أو فؤاد شهاب أو رشيد كرامي أو سليمان فرنجيّة، تستدعي بالضرورة الاتّكاء على كميل شمعون أو ريمون إدّه أو صائب سلام، ومعهم لاحقاً موسى الصدر. هؤلاء وحدهم حجارة البيت، من دونهم ينهار على رؤوسنا جميعاً.

والسلوك هذا عبّر عن الطور الجديد للحساسيّة الأقلّيّة والأرثوذكسيّة، طورِ ما بعد الاستقلال والاستقرار النسبيّ في علاقات الطوائف وترسيم حصصها، وتالياً الإقرار بهذا الترسيم. فالرجل الأوّل مارونيّ حكماً، والثاني سنّيّ، والآخرون سادس وسابع… أمّا الأرثوذكسيّ البارع والعارف فمن ينجح في تسليك أرثوذكسيّته وحساسيّاتها وسط تلك الأدغال، بحيث يغدو ضرورةً قصوى للمارونيّ الأوّل أو للسنّيّ الثاني.

وتويني لم يُنكر مرّةً الحساسيّة هذه. فهو حين تحدّث عن الثلاثة الأشدّ تأثيراً فيه، ذكر والده جبران وأنطون سعادة وشارل مالك ممّن لا يجمع بينهم إلاّ مذهبهم الأرثوذكسيّ. كامل مروّة (غير الأرثوذكسيّ)، الذي كان يكبره بـ11 عاماً، لم يُذكر في هذا السياق، مع أنّ تأثيره عليه كان حاسماً كما يجزم عارفو الاثنين.

الاشتغال في العمل النيابيّ، الطائفيّ تعريفاً، لم يفعل سوى توطيد هذا الارتباط. هكذا كان لا بدّ من صلات وثيقة بـ «سيّدنا المطران» وبـ «مفاتيح» الطائفة التي أهداها تويني أسهماً في «النهار»، وإن احتفظ لنفسه وعائلته بقرار هذه الأسهم والتصويت عنها.

وفضلاً عن مصاهرة لاحقة بين «عائلتين سياسيّتين أرثوذكسيتيّن»، مثّلها زواج نجل غسّان تويني وكريمة ميشال المرّ، احتلّ تويني مواقع أساسيّة في مؤسّسات «النظام» الطائفيّ الموازي. ففي 1988 ترأّس لجنة متحف سرسق، كما ترأّس، بين 1990 و1993، جامعة البلمند. وظلّت الافتتاحيّة الأسبوعيّة لمطران جبل لبنان الأرثوذكسيّ، جورج خضر، من معالم الجريدة وثوابتها.

وإذ استوطنت الطائفيّةُ الهواءَ اللبنانيّ، فوُجد مسيحيّون يأخذون على أبناء طوائفهم العروبيّين أنّهم صاروا «مثل المسلمين»، وُجد مسلمون يرون في «النهار» مصنعاً قد يدخله القلائل من أبناء طوائفهم لكنّهم يخرجون منه مسيحيّين. أمّا الأوصاف هذه فكانت تستهدف السلوك والمظهر الخارجيّ ومدى استدخال الكلمات الأجنبيّة في الكلام، فضلاً عن القناعات السياسيّة طبعاً.

لكنّ الحدثين الصارخين في هذا السجلّ، وهما يتجاوزان التكهّن، فشهد عليهما العام 1972: فقد انضمّ تويني إلى قادة الطائفة ورموزها في اعتراضهم على انتخاب نجاح واكيم نائباً عن أرثوذكس الدائرة الثالثة في بيروت. ذاك أنّ واكيم ناصريّ آتٍ من خارج النادي المغلق الذي ينبغي أن يبقى مغلقاً وحصريّاً للأرثوذكس الأقحاح! لكنّ تويني خاض عامذاك معركة عاليه في لائحة واجهت لائحة القطبين الدرزيّين كمال جنبلاط ومجيد إرسلان، معبودَي طائفتهما. شبّان حملته وشابّاتها لبسوا قمصاناً مصنوعة خصّيصاً للمناسبة، كما وزّعوا أغنية عن «ترشّح غسّان/ عمحافظتك يا لبنان». وهذه كانت تقنيّات في الحملات الانتخابيّة غير مألوفة يومذاك، فبدوا بسببها «حديثين» و «عصريّين»، كما يحبّهم تويني، يهاجمون «الإقطاع» و «التقليديّين». لكنّ المعركة أحدثت استقطاباً مسيحيّاً – درزيّاً بالغ الحدّة، رآه البعض لاحقاً مصدراً بعيداً من مصادر حرب الجبل في الثمانينات: أكثريّة الدروز الساحقة اعتبرت أنّ اللائحة التي ضمّت صاحب «النهار» مسيحيّةٌ جدّاً لا تمثّل الدروز. أمّا السؤال الذي لم يُسأل فكان التالي: لماذا ينبغي أن يحظى أرثوذكس بيروت بتمثيل يختارونه هم، وأن يُكتب لدروز عاليه تمثيل يختاره سواهم؟

وكان من المستحيل، ومن غير المرغوب فيه أصلاً، ألاّ ينعكس على «النهار» هذا القران بين الأرثوذكسيّة العميقة والضعف حيال الزعامة السياسيّة، بشروطها المتدنّية المعروفة في لبنان. المظهر الأبرز لذاك القران كان المحافظة الشديدة. ذاك أنّ «السياسة»، كما درّجتها «النهار»، هي، بالضبط، السياسة اللبنانيّة المعمول بها. إنّها المعيار الذي تُقاس عليه المعايير، والممارسة التي لا ممارسة سياسيّة غيرها. حتّى ألقاب الزعماء، الرسميّة منها (فخامة، معالي…) والأهليّة (بيك، أفندي، شيخ إلخ…)، والمبالغة في احترام المراتب وتوزيع الشهادات الميّتة عن «الكبار» و»القامات» و»العمالقة»، هي ممّا طبّقته مقالات «النهار» تطبيق طالب لكتاب تعاليم. صحيح أنّ الطائفيّة ظلّت «داءً» يُندّد به، ويُدعى إلى تجاوزه، في المقالات وفي محاضرات «الندوة اللبنانيّة» التي شارك فيها تويني، إلاّ أنّ رموز الطوائف، الزمنيّين والروحيّين، أحيطوا بالاحترام والتنزيه. إذاً كان الشعار الضمنيّ: كلّ اللعنة على الطائفيّة وكلّ الاحترام للطائفيّين.

أمّا «الفضائح» التي كانت تكشفها الجريدة، في بلد يُعَدّ سياسيّوه البطن الأخصب لفضائحه، فلم يكن يرتكبها أحد. لقد ظلّ القدر أنشط مَن يرتكب الفضيحة، لا تنافسه في ذلك إلاّ الصدفة…

وفي هذا التسليم بمنطق السياسة اللبنانيّة، والعجز عن تطعيمها بمعانٍ أرقى، أو اتّساعها لفئات ونُخب جديدة، مارست «النهار» تسحيراً للسياسة لا ينزّهها عن العقل التآمريّ المتفشّي في عموم المنطقة. ففضلاً عن «المصادر العليمة» و «الأسرار» و «أسرار الآلهة»، هناك الوليمة التي يولمها سياسيّ لسياسيّ فتصير حدثاً وخبراً، وهناك «الصالونان» النهاريّان لتويني وأبو جودة، حيث يخضع الشأن العامّ لتداول السياسيّين الكبار، و«تُطبخ» بعض السياسات والمواقف بعيداً من «العامّة».

وهذا ما بدأ يعرّض اللبنانيّة النهاريّة، المقدودة بالتمام على قدّ لبنان الصيغة والميثاق، لاهتزازٍ ما لبثت السنوات التالية أن فاقمته. فالحرب حين وقعت كانت، وفقاً لتسمية غسّان تويني، «حرب الآخرين على أرضنا». ذاك أنّ بلد الصيغة والميثاق منسجم انسجام الجنّة، قد يستهلك التناقض إلاّ أنّه لا ينتجه، وقد يستورده من الخارج لكنّه لا يصدّر لهذا الخارج إلاّ «ما يُدهش العالم».

لبنان البسيط والمبسّط هذا، والذي شرع يتداعى في الرواية الرحبانيّة عن القرية، هو نفسه ما راح يتداعى في «النهار». بدأ ذلك مع انطلاق القذيفة الأولى في 1975.

  • Social Links:

Leave a Reply