تنشر الرافد مقتطفات من البحث الاقتصادي المهم الذي قدمه الدكتور عارف دليلة في عام 2000 بعنوان ” القطاع العام في سورية … من الحماية إلى المنافسة”، ورغم مرور كل تلك السنوات على الدراسة إلا أن ما يوجد فيها لم يتأثر بمرور الزمن، ونحن اليوم نشاهد ما فعلته سياسات نظام الأسد في الدولة السورية ومؤسساتها من تدمير ممنهج لصالح ثراءها الشخصي مما أدى إلى انفجار الثورة السورية.
الدكتور عارف دليلة
تأسيساً على المنهجية التي نهجت عليها في دراساتي السابقة عن القطاع العام، أؤكد وجوب عدم الخلط بين “القطاع العام” و”الاشتراكية” ، فالاشتراكية نظام اجتماعي اقتصادي كامل. له أساسه الاقتصادي وبنيانه الفوقي الخاص به. أما القطاع العام فهو ظاهرة اجتماعية اقتصادية، جزئية، موضوعية. ولدت مع ولادة الدولة وتستمر معها. بغض النظر عن طبيعة النظام الاجتماعي-الاقتصادي القائم فالدولة ظاهرة اجتماعية معقدة. نشأت مع ظهور التمايز الاجتماعي، وبالتالي الصراع الاجتماعي القبلي أو القومي أو الطبقي. حاملة في ذاتها منذ ولادتها طابعاً تناقضياً مزدوجاً: فهي، من جهة، مؤسسة اجتماعية ذات وظائف عمومية، تؤديها لصالح مجتمعها بشكل عام. ومن جهة أخرى هي جهاز طبقي تهيمن عليه الطبقة المهيمنة اقتصادياً. المالكة الرئيسة لوسائل الإنتاج، سواء في الشكل الخاص للملكية. أو في الشكل الجماعي للملكية (ملكية مجموع الطبقة المهيمنة)، مع بقاء غالبية المجتمع المالكة، أو المالكة لملكيات صغيرة أو متوسطة مبعثرة، أكثرية خاضعة ومستغلة من قبل الطبقة المهيمنة، والدولة بصفتها الطبقية هذه، على اختلاف درجة حدة هذا الطابع الطبقي من نموذج إلى آخر، تقوم بوظائف خاصة لتكريس مصالح الطبقة الضيقة التي تمثلها وتتماهى بها. على حساب وظائفها العمومية المفترضة تجاه المجتمع ككل.
وإضافة إلى التمييز بين القطاع العام والاشتراكية يجب التمييز بين مصطلحي “القطاع الحكومي” و”القطاع العام” من حيث المضمون فمصطلح “القطاع الحكومي” يشير إلى شكل الملكية دون أن يفيدنا في شيء في معرفة مضمون هذه الملكية، أي نوع المصلحة التي تتحقق من خلالها. هي مصلحة الحكومة، أو السلطة الحاكمة، كأشخاص طبيعيين، أو كبنية طبقية، أم مصلحة المجتمع بشكل عام حاكمين ومحكومين؟ أما مصطلح “القطاع العام” فإنما يشير إلى الارتباط بالوظائف العمومية التي تؤديها الدولة. كشخصية اعتبارية. في خدمة المجتمع. ومصطلح “القطاع العام” يكشف عن الانحراف عندما تقوم السلطة العامة بتسخير هذا القطاع لتلبية مصالحها وحاجاتها الخاصة. بما يتناقض مع طبيعة العمومية. وبما يتناقض مع ما تتطلبه الوظائف العمومية المناطة بالدولة تاه المجتمع.
وعلى أساس هذا التمييز طرحنا منذ محاضرتنا في ندوة الثلاثاء عام 1996 مقولة “الخاص في العام والعام في الخاص” لنعبر بـ “الخاص في العام” عن الحالة التي يكون فيها الشكل الحقوقي العام للملكية مظهراً لمضمون مناقض، خاص أي عندما تستخدم الملكية الحكومية لخدمة أشخاص السلطة وشركائهم فحسب. وفي هذه الحالة يظهر القطاع الحكومي عاماً في شكله الحقوقي فقط. لكنه خاص في مضمونه الاقتصادي الاجتماعي. وتظهر الدولة كجهاز طبقي مجرد، كسلطة خاصة منشقة إلى درجة التضاد عن قاعدتها الاجتماعية. أما “العام في الخاص” فقد قصدنا به أن يعتمد الخواص في نشوئهم وشروط وجودهم واستمرارهم وتعاظمهم اعتماداً أساسياً على استغلالهم للدولة، أو على قيام السلطة بتسخير المصالح الحكومية. مستخدمة قوى الدولة الاقتصادية والسياسية وغيرها لخدمة الخواص وتأمين نمائهم عن طريق الامتيازات والإعفاءات والاستثناءات والتجاوزات التي تتيحها لهم، وفي الحالتين نكون أمام حالة “خصخصة الدولة” ، أي غياب طابعها العمومي وطغيان الطابع الخاص عليها، سواء منظوراً للسلطة كأشخاص طبيعيين أو كمؤسسة اعتبارية. وكدور ووظائف فالقطاع الخاص في هذه الحالة يكون خاصاً في شكله الحقوقي فقط، بينما يكون عاماً في أصله ومصدر حياته ونمائه، أي في مضمونه الاجتماعي-الاقتصادي.
ولا يفوتنا أن نحذر هنا، كما حذرنا في محاضرتنا السابقة، من استخدام لمصطلح “القطاع الخاص” لجمع جميع الفاعلين الخواص في سلة واحدة مستغلاً أولئك الذين ينشأون ويعملون ويتطورون بالجهد والإنتاج وحسن الإدارة، الذين نطالب دائماً بتوفير شروط العمل الطبيعية لهم وتخليصهم من العقبات الموضوعية أو المفتعلة التي تعيق عملهم، وذلك للتغطية على أولئك “الشطار” الذين لم يتعودوا الاستثمار والمخاطرة والإنتاج الجاد وإنما اقتصروا دائماً على التكسب بالوسائل الملتوية واستغلال العلاقات الزبائنية مع البيروقراطيين الفاسدين لتناهب المصالح العامة وتفصيل القرارات والامتيازات والاستثناءات والإعفاءات على مقاساتهم المشتركة، ليحققوا ثروات خيالية بأسهل مما تستطيع المافيات وتجار المخدرات تحقيقه، وذلك على حساب تقدم الاقتصاد الوطني وحقوق جميع المواطنين، وفي كثير من الأحيان نهب القطاع العام.
إن الموقف العلمي من القطاع العام هو الموقف الذي لا يرى في القطاع العام غير ما يمثله حقيقة، وهو قيام الدولة بوظائفها التي تقوم فيها، مع توسيع هذه الوظائف لتشمل النشاط الاقتصادي أحياناً أو تركها للخواص أحياناً أخرى، ولذلك بتأثير من عوامل داخلية وخارجية مختلفة.
هذا المفهوم العلمي للقطاع العام يخلو من عبادة الأشكال، كتقديس الشكل العام للملكية بحد ذاته أو معاداة الشكل الخاص للملكية بحد ذاته، وينطبق بدلاً من مضموم الملكية أي من قدرة هذا الشكل أو ذاك على تحقيق الصالح العام، كما يخلو من المبالغة في إضفاء صفات على القطاع العام ليست من صلبه، بالضرورة، مثل اعتباره صفواً للاشتراكية أو الدفاع عنه، أو محاربته، بصفته هو الاشتراكية ذاتها، في الوقت الذي يجري فيه تجاهل السمات الأخرى الجوهرية للنظام الاشتراكي، مثل سيطرة المنتجين على وسائل إنتاجهم بدلاً من أن يكونوا، كما في الإقطاعية أو الرأسمالية، قطعة لحمية ملحقة لها، ومثل إقامة الديمقراطية السياسية لمجموع الشعب، الديمقراطية الحقيقية لا الشكلية وحسب، وبشكل عام إقامة الشروط المادية والمعنوية للتفتح الحر للشخصية الإنسانية.
إن هذا المفهوم العلمي للقطاع العام يحدد ليس فقط ذلك الموقف من القطاع العام الذي يرى أن وظيفة هذا القطاع لا تتحقق بمجرد الشكل العام للملكية بل بمقدار ما يتحقق من هذه الملكية من صالح عام لمجموع شعب. وإنما يحدد أيضاً الموقف من المواقف الأخرى من القطاع العام والمصالح الكامنة لأصحاب هذه المواقف حيث يكشف مقدار الخداع والتضليل في الكثير من مواقف التمسك بالقطاع العام والدفاع عنه باعتباره فقط شكلاً حقوقياً عاماً للملكية هذا في الوقت الذي يمارس فيه أصحاب هذه المواقف من انتهازيين تحريفيين أو أعداء عضويين للقطاع العام والتي تقلب مضمونه رأساً على عقب، إذ تحوله من مصدر استقرار وسعادة ورفاه للعاملين فيه، أولاً، وللمجتمع على العموم إلى عبء ثقيل يدفع العاملون فيه، أولاً والمجتمع من بعدهم، ثمناً باهظاً لبقائه واستمراره بينما تذهب القيمة المضافة المنتجة فيه إلى حسابات وجيوب الطغمة التي تكون قد توزعته إقطاعات فيما بينها، تتناهبه بكل ما تبتدع من وسائل مجربة أو مستجدة بدءاً من لحظة إنشائه وحتى تزويده بمستلزمات الإنتاج من آلات ومواد وكل ذلك يكلف أكبر من القيمة الحقيقية، وكذلك استجرار منتجاته واقتسامها بدون قيم أو بقيم يحددون طرق سدادها وفق أهوائهم، وحتى تسليط من هم غير أهل للمسؤولية على إدارة شؤونه أو العمل فيه. دون اعتبار لشروط الخبرة والكفاءة، أو الالتزام بجودة الأداء أو تقويم أو محاسبة على نتائج الأعمال، وهكذا إلى تساقط أشجار النخيل، تباعاً أو دفعة واحد.
فمن هم أنصار القطاع العام الحقيقيون. وما هي المواقف المخلصة الصادقة في دعم القطاع العام تمكيناً له من أن يكون اسماً على مسمى. وأن يؤدي الوظائف العمومية التي تخدم مصالح الشعب. وتحقق التقدم الاقتصادي؟
بدايةً، نؤكد أن القطاع العام ليسوا، بالضرورة، فقط من الاشتراكيين أو الذي يعتبرون موقفهم في التمسك بالقطاع العام وتطويره تمسكاً بالنظام الاشتراكي، فقد يكونون كذلك، وقد لا يكونون، وذلك بقدر ما يعتبر القطاع العام. حسب مفهومنا أعلاه، تعبيراً عن الطابع العمومي الكامن في الدولة أي دولة، فقد يكون الطابع العمومي للدولة طاغياً على وظائفها لدرجة تغيب عندها هذه الوظائف خدمة المصالح الشخصية الخاصة لأفراد معينين أو لفئة من الناس على حساب المجتمع. وقد يكون الطابع العمومي أقل من ذلك إلى هذه الدرجة أو تلك، ولكن قد يصل الأمر إلى غياب الطابع العمومي للدولة بصورة شبه كلية، كما أشرنا سابقاً، وتظهر الدولة عندها كمؤسسة خاصة، في الجوهر، وعندها تكون عملية خصخصة الدولة وقطاعها العام قد أنجزت وبدون إعلان!.
إن الأنصار الحقيقيين للقطاع العام، هم فقط أولئك الذين يدافعون عن المصلحة العامة المتحققة في القطاع العام. والمتمثلة بما يؤديه من فوائد للعاملين فيه أولاً، وللمجتمع والدولة ككل ثانياً، أو العاملين فيه وللمجتمع والدولة معاً. ودون أن تكون خدمة المجتمع والدولة على حساب العاملين في القطاع العام، وبالأحرى دون أن يسخر القطاع العام لتحقيق مصالح خاصة معينة على حساب مصالح العاملين فيه ومصالح المجتمع والدولة معاً.
إن أسوأ أشكال الدفاع عن القطاع العام هو الخطاب السياسي الذي يتمسك بشكله الحقوقي فقط فليس شكل القطاع العام غاية بذاته، بل وسيلة لتحقيق غايات أخرى، والسؤال الرئيس هو هل يمكن الارتقاء بالقطاع العام من شكل تكريس أو تعميق عبودية الناس للشروط العادية لوجودهم. وهو الدور الذي يؤديه في ظروف الجمود والتخلف والركود، إلى وسيلة لتحقيق الشروط افضل للانتقال من مملكة الضرورة إلى مملكة الحرية، والتخلص من الاستلاب الاقتصادي والسياسي؟
إن الهدف الأول لخصوم القطاع العام الظاهرين والمستترين هو إيصاله إلى حال التردي يقلب موقف العاملين فيه، قبل غيرهم، من التمسك به باعتباره موئل رزقهم وأمانهم إلى العمل مع أعدائه في التعجل بانهياره باعتباره أصبح وسيلة لاستعبادهم واستغلالهم. وذلك عندما يجدون أن الملكية العامة قد تحولت إلى قاعدة لنظام عقيم فاسد وطفيلي عاجز عن تبريز وجوده بتحقيق التقدم الاقتصادي والرفاه الاجتماعي للطبقات الكادحة ولمجموع الشعب.
إن الشعب، والعاملين في القطاع العام، لا يقومون بمهمة حماية القطاع العام انطلاقاً من موقف إيديولوجي يقدس الشكل العام للملكية، أو التزاماً بشكل سياسي أو بتوجيه سياسي محدد، وإنما بالاقتناع المدعم بالحقائق المادية الملموسة بأن القطاع العام ضرورة ووسيلة لتحقيق الرفاه والأمان لهم ولأبنائهم من بعدهم كما لا يمكن أن يتحقق لهم في غيابه.
ولكي تنشأ بيئة اجتماعية وحريصة على القطاع العام لا بد من إحداث تغيير نزعي في طبيعة شخصية العاملين في القطاع العام، بتحويلهم من مجرد “قوة عاملة إلى ذوات حرة” من موضوع الاستغلال إلى سلطة حقيقية تمثل موقفاً إيجابياً فاعلاً يمارس اتخاذ القرار فيما يخص نوعية حياتها، إنها دمقرطة الإدارة على مستوى المؤسسة وعلى مستوى المجتمع، وذلك بجعلها نابعة من القاعدة ومسؤولة أمامها.
إن التغير النوعي في موقف العاملين من عملية العمل بشكل خاص، وفي علاقتهم بمصير مؤسساتهم بشكل عام لا يتحقق إلا بإشراكهم في ملكية وسائل الإنتاج ونتائج أعمالهم، وتحمل مسؤولياتهم ثواباً أو عقاباً، ومن هنا فإن “الإدارة بالأهداف” التي لا تمس إلا البنية الفوقية لن تحقق أي أثر يذكر سوى إضاعة الزمن وإعطاء قوى العطالة والفساد فرصة سماح إضافية لتعطيل الإصلاح الحقيقي وزيادة تكاليفه، فالتغيير الإيجابي يحتاج إلى قلب شخصية العاملين من شخصية سلبية إلى شخصية إيجابية ذات مسؤولية ومصلحة في التطوير، ولا تحتاج إلى سلطة لإكراهها على القيام بمسؤولياتها على الوجه الأفضل، فالإصلاح يحتاج إلى تغيير نوعي في طريقة ارتباط المنتجين بوسائل إنتاجهم وبالمؤسسة التي ينتمون إليها. ولقد أدرك الرأسماليون هذا أكثر من الاشتراكيين البيروقراطيين الذين اعتمدوا على نظام العمل السلطوي الأحادي الاتجاه، ولقد استوعب الصينيون والفيتناميون الدرس ففتحوا في السنوات الأخيرة باب المشاركة في ملكية المشروعات الحكومية أمام العاملين في المشروع وحتى أمام الشعب، وكنت قد اقترحت إشراك العاملين في الملكية وتوزيع نسبة بسيطة من أسهم الشركة عليهم دون مقابل في البداية ثم زيادة هذه الملكية تدريجياً عن طريق مراكمة الأرباح السنوية. وبالتالي تحويل العاملين إلى جمعية عمومية للمساهمين يشاركون، حسب نسبة ملكيتهم، في اختيار عدد أعضاء مجلس الإدارة يتناسب مع نسبة ملكيتهم في رأس المال ومحاسبتهم ووضع خطط العمل ومتابعتها، وذلك في “مشروع النقاط الخمس لإصلاح القطاع العام” من خلال محاضرتي في ندوة الثلاثاء عام 1992 بعنوان: “القطاع العام ودوره في التنمية” بل وتقدمت بمقال إلى “البعث الاقتصادي” (استجابة لنداءاتها حين صدروها للاقتصاديين للكتابة فيها) أقترح فيه شكلاً قانونياً جديداً للشركات المساهمة الرأسمالية يحقق دمقرطة الإدارة الرأسمالية، ويعطي الاعتبار لجميع فئات المساهمين مهما بلغت مساهمتهم ويمكنهم من إيصال ممثليهم إلى مجلس الإدارة، وذلك كتعديل جوهري للشكل الحالي الذي يمكن عدداً محدوداً فقط من المساهمين من احتكار الإدارة والتصرف برؤوس أموال عشرات آلاف المساهمين المستبعدين قانوناً من إمكانية المشاركة في الإدارة وقد أسميت هذا النظام “الرأسمالية العربية”.
Social Links: