حازم صاغية – نقلا عن صفحته الشخصية على فيسبوك:
نتابع في الرافد نشر الجزء الثالث من مقال الأستاذ حازم صاغية المهم حول صحيفة النهار اللبنانية وتاريخ عائلة تويني والصحافة الحرة في لبنان للاطلاع على تجربة غنية في محتواها وكانت مدرسة تخرج منه الكثير من الكتاب الكبار الذين نراهم اليوم
... عن “النهار” وآل تويني
أمّا وراثة جبران تويني التدريجيّة لأبيه فلم تكن مجرّد حدث بيولوجيّ. الأمر انطوى على امتداد بقدر ما انطوى على انقلاب يُستحسن البحث في التاريخ السياسيّ عن أسبابه.
فالشابّ، المولود في 1957، المتأثّر ببشير الجميل، ثم بميشال عون، لم يعرف السنوات البرلمانيّة التي عرفها أبوه، ولم يعرف السياسة البرلمانيّة بالتالي.
غسان، مثلاً، كره بشير الجميل وكره ميشال عون، وغضب على نجله لميله إليهما، ما أضاف إلى علاقتهما الشخصيّة المأزومة بُعداً آخر. وهو كان يعتدل ويُحجم حين تقترب نُذر الحرب الأهليّة: هكذا، وعلى رغم ولائه العميق لشمعون، شارك يوسف سالم وشارل حلو وبهيج تقي الدين وآخرين تأسيسهم «القوّة الثالثة» في 1958. وفي حرب السنتين، رفض نقل جريدته إلى بيروت الشرقيّة، معتبراً أنّ انتقالها، كانتقال الجامعة الأميركيّة، معناه التقسيم.
جبران، في المقابل، كان يُقدم: هكذا أحلّ المسيحيّة النضاليّة محلّ مسيحيّة أبيه الميثاقيّة، وفي هذا شيء من سيرة بشير الجميّل نفسه المكمّل لأبيه بيار والمنقلب عليه في آن. وفي وقت لاحق أقام جبران مكتبه في المنطقة الشرقيّة.
لكنّ النجل صدر أيضاً عن الإحباط المزدوج للوالد بزعامتين مسلمتين «معتدلتين» حالت الحرب دون «اعتدالهما»، كما حالت دون كلّ «اعتدال» آخر.
أولاهما كانت زعامة صائب سلام الذي جمعته بغسّان تويني بيروتيّة ذات ذاكرة ومراجع مشتركة، وولع بالاستشهاد بمقالات نُشرت في «نيويورك تايمز» أو مجلّة «تايم». وسلام حين نفض عنه ثياب «ثورة 58»، تحوّل، بعد مودّة عابرة لفؤاد شهاب وحكومة واحدة في ظلّه، إلى معارض شرس له ومعارض مداوِر للناصريّة. لقد صار السنّي «الناعم» الذي يواجه في بيروت «فتوّات» الأحياء المدعومين من السفارة المصريّة و«المكتب الثاني» الشهابيّ. وعلى مدى الستينات، بقي معارضاً للشهابيّة إلى أن تمكّن من إسقاطها، بمعونة «الحلف الثلاثيّ» التي تكتّم عليها الطرفان.
في عهد سليمان فرنجيّة، شكّل صائب سلام «حكومة الشباب» التي ضمّت صاحب «النهار»، لكن اغتيال القادة الفلسطينيّين الثلاثة في فردان، في نيسان (أبريل) 1973، فجّر النزاع بين الرئيسين. كلٌّ منهما اعتصم بطائفته وصار فجأة من متطرّفيها. «النهار» لم تستطع أن تندرج في المعارضة السلاميّة المحكومة باعتبارات لا تستسيغها، خصوصاً أنّ حرباً مصغّرة بين الجيش اللبنانيّ والمقاومة الفلسطينيّة ما لبثت أن نشبت في أيّار (مايو). و«النهار» عانت ما عانته من فرنجية الذي اعتُقل تويني في عهده، لكنّ هذا شيء والمعارضة السلاميّة – الإسلاميّة – الفلسطينيّة يومذاك شيء آخر.
بعد الاجتياح الإسرائيليّ في 1982، تعاون سلام وتويني لدعم الشرعيّة الممثّلة آنذاك بأمين الجميّل. لكن كلّ شيء ما لبث أن انهار. بيروت صارت في قبضة «أمل» و«الاشتراكي». الجيش والأمن السوريّان عادا إليها. صائب سلام، المُسنّ والمحبط، غادر إلى جنيف، وفي 2000 رحل عن دنيانا.
الثانية كانت زعامة موسى الصدر. فالإمام الآتي من إيران، وعلى عكس الروايات اللاحقة، بدا في لبنان وزناً يضاف إلى الوزن المسيحيّ في مقابل الوزن السنّي. «المجلس الإسلاميّ الشيعيّ الأعلى» الذي ناضل لإنشائه كان حسماً من حصة دار الفتوى ومن نفوذها. وفي السياسات الإقليميّة، بدا الصدر أقرب إلى التوجّهات غير الراديكاليّة التي لم تهضم الناصريّة، ولا هضمت بعدها الثورة الفلسطينيّة. قوّته، منذ البدايات الأولى، كانت توحي بمركز قوة يناظر المركز الفلسطينيّ الناشئ ويناهضه. سلوكه الشخصيّ المنفتح استهوى المسيحيّين، واستهوى «النهار». «الندوة اللبنانيّة» لميشال أسمر، معمل النخبة الميثاقيّة ومرآتها، أعطته منبرها. «النهار» أعطته صفحاتها. الأصدقاء المشتركون كانوا كثيرين، أبرزهم حسين الحسيني.
لكنّ المسلم المرغوب الذي كانه الصدر لم يعمّر طويلاً بصفته هذه. فالتزمّت الذي واجهه به عهد فرنجيّة دفعه إلى راديكاليّة متزايدة. أمّا «فتح» والنظام السوريّ اللذان لا يبخلان بالتسليح والتدريب، فكانا ينتظران إشارة منه كي يسلّحاه ويدرّبا شبّانه. وقبل أن تنتهي السبعينات، وفيما الإمام يتخبط بتناقضاته، خُطف في ليبيا.
بشير الجميل كان يصعد آنذاك. لأسباب كثيرة، منها العاطفة والحساسيّة والتجربة والسنّ، كان يستحيل على غسّان أن يلتحق بالشابّ بشير الجميل. كان هذا سهلاً على نجله جبران، ابن العشرين.
في هذه الغضون، جاءت الحروب، ابتداء بحرب السنتين، قاسية على «النهار»، مثلها في ذلك مثل لبنان كله. ففضلاً عن صعوبات الصدور لأسباب أمنيّة وعن تقلّص عدد الصفحات وإغلاق «الملحق»، بدأت الجريدة تنزف كوادر أساسيّة آثرت الهجرة واحتلّت مواقع بارزة في صحف البلدان التي هاجرت إليها. الموجة الأولى في السبعينات ضمّت رياض الريس وسمير عطا الله ورفيق معلوف وعبدالكريم أبو النصر وفؤاد مطر وسواهم، والموجة الثانية في الثمانينات شملت جورج سمعان وغسان شربل وعبد الوهاب بدرخان وخير الله خير الله وبشارة شربل وآخرين. بهؤلاء شابهت «النهار» أيضاً لبنان بوصفه، حتّى في أزمنة المحن، بلداً وسيطاً ومصدراً للكفاءات.
الجيش السوري احتلّ مكاتبها في الحمرا، وطرد المحرّرين والموظّفين منها. الوضع الأمنيّ والسياسيّ صار يضغط على الصحف عموماً و«النهار» خصوصاً. في 1977، أنشئت في باريس، كاحتياط وكاستدراك، مجلّة «النهار العربيّ والدوليّ»، وكانت سبقتها إلى لندن «الحوادث» لسليم اللوزي، كما ظهرت في فرنسا «المستقبل» لنبيل خوري. آنذاك، في النصف الثاني من السبعينات، وفيما أسعار النفط تشهد صعودها الصاروخيّ، هاجر المال العربيّ إلى أوروبا. الإعلام اللبنانيّ كان لا بدّ إذاً أن يهاجر.
الياس الديري ومروان حمادة أسّسا «العربيّ والدوليّ» ثم تولاّها جبران الذي كان يدرس الحقوق في باريس. المجلّة لم تكن فاشلة، وهي اتّسعت لنطاق من الأسماء، عربيّ ولبنانيّ، أوسع من البيئة التقليديّة لـ «النهار». إلا أنّها تعثّرت تحت ضغط أكلافها المادّيّة، وانتصاف تحريرها بين لبنان وفرنسا. هكذا انتقلت إلى بيروت أواخر 1981، ثم أقفلت عام 1990. جبران، الذي جعلته «العربيّ والدوليّ» اسماً عامّاً، غادر إلى باريس، حاملاً جرحين: المجلّة أقفلت، وميشال عون انهزم.
والتسعينات كانت عقداً مزدحماً بالأحداث الكبرى التي كتبت الصحافةَ أكثر مما كتبتها الصحافة. اتّفاق الطائف افتتح عالماً جديداً: فهمُ لبنان تبعاً لمعايير الصيغة والميثاق، ولمركزيّة متصرفيّة جبل لبنان، أصبح تجهيلاً محضاً بلبنان. المسيحيّون مهزومون. ثنائيّة رفيق الحريري و«حزب الله»، أي التحرير والتعمير، تحكم البلد مكلّلةً برعاية سوريّة.
«النهار» وغسّان تويني تحديداً أتاحا المجال لأصوات عدّة، الأمر الذي ربّما عاد، في ذاك الزمن الملتبس، إلى رغبة في اختبار ما لم تعرفه «النهار» قبلاً. الصوت الأقوى، كما بلوره خلط القديم بالجديد، كان ذاك المُعارض الذي تسكنه المرارة المسيحيّة، وفي جوارها مرارة أصغر لأفراد يساريّين أرّقهم صعود الدور الماليّ والسياسيّ للحريري، بعد الهزيمة التي أنزلها السوريّون، عبر أتباعهم اللبنانيّين، بالفلسطينيّين وأتباعهم اللبنانيّين. فآثار حرب المخيّمات واغتيال الشيوعيّين كانت تغذّي النقمة على تركيبة ما بعد الطائف وتمنح الوجاهة للتشكيك بـ «عروبة لبنان» السوريّة.
أسماء غير نهاريّة تقليديّاً استقبلتها «النهار». في 1992، أعاد غسّان تويني إصدار «الملحق» الذي تسلّم رئاسة تحريره الروائيّ الياس خوري، الآتي من «السفير» ومن العمل في مؤسّسات إعلاميّة وثقافيّة فلسطينيّة. خوري، الذي ساعده في التحرير منذ 1997 الشاعر عقل العويط، فتح أبواب «الملحق» لأسماء هي الأخرى غير نهاريّة: للشاعرين عبّاس بيضون وبسام حجّار وللروائيّ محمد أبي سمرا والسينمائيّ محمّد سويد والكاتب بلال خبيز والناقد والفنّان محمود زيباوي وسواهم، ولكتّاب سوريين وعرب لم تربطهم من قبل أيّة إلفة مع الجريدة البيروتيّة.
هذه التجربة الجديدة، التي قدّمت عبر الكتّاب المذكورين إضافات ملحوظة، حافظت على الغضب الإنشائيّ القديم لأنسي الحاج، لكنّها جعلته أقلّ ميتافيزيقيّة وأشدّ تعييناً للمغضوب عليهم: الحريري والنظام السوريّ وطبعاً إسرائيل.
في أواسط التسعينات بدأ سمير قصير، الجامعيّ اليساري المعارض للوصاية السوريّة، والمقيم سابقاً في باريس، يكتب في «النهار». مقالاته الشجاعة مثّلت انعطافاً عن الميل النهاريّ القديم إلى التمويه والتعمية.
هذه الوجهة، التي لم تُثر ترحيب النهاريّين الأقحاح، وعلى رأسهم جبران، ذهبت خطوة أبعد في 1997، مع انتقال الكاتب السياسيّ جهاد الزين من «السفير» إلى «النهار»، مسبغاً على مقالاتها جرعة أعلى من التحليل والتدقيق.
يومذاك بدت «النهار» أشبه بفرقة موسيقيّة كلّ عازف فيها يعزف أغنيته.
لكنّ رفيق الحريري كان أيضاً يقترب من «النهار» التي تقترب، بدورها، منه. فببطء وتدرّج، ومن وراء ظهر الوصاية السوريّة، نسج رئيس الحكومة الراحل علاقة خاصّة بالبطريرك المارونيّ نصر الله صفير، محاولاً أن يتفاهم مع الإحباط المسيحيّ وأن يتفهّمه، وفي منتصف التسعينات اشترى حصّة وازنة في جريدة آل تويني.
الموضوع النهاريّ الطاغي لم يعد نقداً مسيحيّاً – يساريّاً لتعمير الحريري. لقد صار نقداً مسيحيّاً – حريريّاً لثنائيّ النظام السوريّ و«حزب الله».
والتطوّرات ما لبثت أن تلاحقت معزّزةً التقارب بين المسيحيّين والحريري، ما أثمر لاحقاً حركة 14 آذار. في 1998، انتُخب إميل لحّود، خصم الطرفين، رئيساً للجمهورية. في 2000، كان الانسحاب الإسرائيليّ الذي لم يعقبه انسحاب سوريّ ولا تسريح لـ «حزب الله». ثم في 2001، وكان قد رحل حافظ الأسد، انعقد لقاء قرنة شهوان…
التقارب الحريريّ – المسيحيّ صار أكثر فأكثر إزعاجاً لبشار الذي حلّ، في 2000، محلّ أبيه. كان من تعابير انزعاجه، ومن علامات المطابقة بين لبنان القديم و«النهار»، أنّه شخصيّاً طالب الحريري بفضّ الشراكة مع آل تويني.
لكنْ، فضلاً عن السياسة المناهضة للوصاية، كان يجمع بين الحريريّة والنهاريّة هوى اجتماعيّ وأيديولوجيّ، يقفز فوق التباين الطائفيّ، هوىً تعبّر عنه الكوادر العليا في المؤسّستين اللتين تعجّان بالطامحين إلى الترقّي الاجتماعيّ. هؤلاء وأولئك استهواهم «السيكت» الذي يعيش في «مجتمع مضادّ» يوحّد بين أطرافه المطعم والفندق ومخزن الألبسة، كما يميّزه عن سواه. لقد بدت عقيدة الاستهلاك واستعراض الاستهلاك جسراً آخر يجمع النهاريّة إلى الحريريّة.
في هذه الغضون التسعينية، كان جبران يتقدّم. في موازاة عمله في «نهار الشباب»، إبّان 1993 و1994، راح يقترب من رئاسة التحرير التي تولاّها مع نهاية العقد.
زخم «نهار الشباب» طفا على الصفحة الأولى، لكنّ الشبّان المسيحيّين كانت الهجرة تقلّل عددهم يوماً بيوم. التحميس الجبرانيّ، إذاً، بدا في بحث دائم عمّن يتحمّس.
وجبران كان يملك من المواصفات الشكليّة للزعامة أكثر ممّا امتلك أبوه. فالأخير ظلّ أقرب إلى الأستاذ الجامعيّ الذي مارسه بشيء من التقطّع في الجامعة الأميركيّة ببيروت. أمّا نجله فكان مهيب الطلّة ومؤثّراً، وهو بثيابه الداكنة وتصفيف شعره وشاربيه، شابهَ الأعيان المحافظين في أوروبا الجنوبيّة في الثلاثينات. وقد تحلّى بديناميّة فائضة تذكّر بديناميّة أبيه، وبحبّ للتحديث في حدود استخدام الكومبيوتر ونشر الصور الملوّنة بأحجام كبيرة على الصفحة الأولى. لكنّه كان بادي الاستعجال، بحيويّة قد تفوق حيويّة والده وبكفاءة تقلّ عن كفاءته. أحد النقّاد تراءى له أنّ تويني الشابّ هو الكاتب الوحيد في تاريخ الكتابة الذي يكتب مقالته وهو يمشي مسرعاً.
إنجاز جبران الأكبر كان الانتقال، عام 2004، من الحمرا إلى المبنى الجديد في البرج. لكنّ 2004 كان في حصيلته عاماً مشؤوماً. فيه نشبت معركة التمديد للحّود التي أعقبها اغتيال الحريري في 14 شباط (فبراير) 2005. انتخابات ذاك العام أتت بجبران تويني نائباً، وقد غدا أحد أقطاب حركة 14 آذار وصاحب «قَسَمها». لكنّ الإجرام كان قادراً على أن يقلب عرس الانتصار مأتماً: فالاغتيالات التي كرّت ما لبثت أن حصدته، بعدما حصدت سمير قصير وصوته الشجاع.
تلك الفاجعة التي نزلت بغسّان تويني، المعذّب بالكثير من الفواجع الشخصيّة والعائليّة، استحضرت أكثر وجوهه نبلاً: دعا إلى الصفح والتسامح، كما نُقل عنه قوله المؤثر: لم يتركوا لي منه قطعة متماسكة أستطيع تقبيلها. لكنّ الوالد المنكوب والمُسن استجمع ما بقي له من قدرات وإصرار وحلّ في المقعد النيابيّ لنجله الفقيد.
لقد رافق غسان تويني «نهار» الصيغة والميثاق صعوداً وهبوطاً، في موازاة صعود لبنان الصيغة والميثاق وهبوطه. أمّا جبران فكان شهادة على أمل الخلاص بـ14 آذار ثمّ انقلاب الأمل وهماً مكلفاً. رحلته كانت قصيرة ودمويّة. لكنْ بعدها لم يعد هناك سوى اليباب.
العدوى الوراثية ضربت مجدّداً واشتغلت على خطّين: نايلة، كريمة جبران، حلّت في رئاسة التحرير ورئاسة مجلس الإدارة، لكنّها حلّت أيضاً في المقعد النيابيّ ببيروت. أختها ميشيل باتت تشاركها كتابة افتتاحيات الجريدة.
الكاتبتان تجهدان في استعارة أعمار وتجارب ليست لهما. تُطلاّن من علٍ بكثير من الوعظ والخطابة. لكنّ عمريهما يظلان أقوى من أن يُموَّها. وأغلب الظنّ أنّ القيادة الحاليّة لـ «النهار» بذلت جهوداً واجتهدت، لكنّ ما بات ينبغي الركض للّحاق به صار كثيراً جداً، يستدعي همة أكبر وساقاً أطول.
المال السياسيّ تقلّص. المال المقيم حصصاً في المؤسّسة تبخّر. الإعلان انكمش. القرّاء ضمروا، وفي حالة «النهار»، انتصفت القاعدة المسيحيّة التي استندت إليها الجريدة تقليديّاً ما بين ميشال عون و14 آذار. في المقابل، لم يتغيّر الإنفاق الباذخ للمعنيّين بالأمر، ولا فُكّر في الاهتمامات والمقاربات الجديدة للصحافة، ولا نشأت، بعد 14 آذار وتراخي حركتها، قضيّة عامّة يمكن التعويل عليها.
جريدة «النهار» اليوم، بصفحاتها المتضائلة ومحرّريها المسرّحين، أشبه ببيت تنقطع الكهرباء كلّ يوم عن واحدة من غرفه. لا نزال نستطيع أن نقرأ نصّاً مشغولاً ودقيقاً في السينما لهوفيك حبشيان، أو إحاطة مضيئة لسمير عطا الله، أو رأياً إشكاليّاً لجهاد الزين، أو رسالة مفيدة من واشنطن لهشام ملحم، أو تعريفاً بالحياة السياسيّة الإسرائيليّة لرندة حيدر. ونلمس، لدى رموز الأجيال المتعاقبة على الجريدة، كيف استمرّ الجهد والمعنى يكافحان القالب المحكَم، ولو من داخله: يصحّ هذا في متابعة إميل خوري أو سركيس نعّوم، كما يصحّ مع نبيل وروزانا بو منصف وموناليزا فريحة وسواهم.
لكنّ الانقطاع عن العالم الثقافيّ والمعولم للشبّان والشابّات الأكثر تقدّماً، والرهان على «المنوّعات» والإثارة مصدراً للخلاص الماليّ، وشبهة عنصريّة السنوات الأخيرة، لا سيما حيال اللاجئين السوريّين، وقضم التعويضات المستحقّة لزملاء مصروفين، بعضهم قضى عشرات السنوات بين مكاتب «النهار» ومطابعها…، حصيلةٌ تشكّل، في عمومها، مصيراً محزناً جدّاً، ومؤلماً جدّاً، لا «النهار» تستحقّـه، ولا لبـنان، ولا روايتنا عن أنفسنا من خلال «النهار»، ولا الحرية.
Social Links: