وقفة عند بعض السياسات الاقتصادية الكلية

 وقفة عند بعض السياسات الاقتصادية الكلية

تنشر الرافد مقتطفات من البحث الاقتصادي المهم الذي قدمه الدكتور عارف دليلة في عام 2000 بعنوان ” القطاع العام في سورية … من الحماية إلى المنافسة”، ورغم مرور كل تلك السنوات على الدراسة إلا أن ما يوجد فيها لم يتأثر بمرور الزمن، ونحن اليوم نشاهد ما فعلته سياسات نظام الأسد في الدولة السورية ومؤسساتها من تدمير ممنهج لصالح ثراءها الشخصي مما أدى إلى انفجار الثورة السورية.

وقفة عند بعض السياسات الاقتصادية الكلية

الدكتور عارف دليلة

أصولاً، تتحمل الحكومات نتائج سياساتها وأعمالها وفي الظروف العادية، أي في غير ظروف الحرب والكوارث الطبيعية، يعتبر توقف النمو الاقتصادي أو تردي المستوى المعاشي العام أو وقوع عجوزات ضخمة حجة لا تدحض على فساد السياسات والممارسات الاقتصادية المتبعة، هذا الفساد الذي لا يجوز تحميل الشعب تكاليفه مرتين ودون ذنب!

لكن حكوماتنا السابقة استمرت تغطي فجوات سياستها الاقتصادية، بأسهل السبل، عن طريق الاقتراض من المصرف المركزي، أي بالتمويل التضخمي، وهو أسوأ أنواع الضرائب غير المباشرة، لأنه يفيد فئات قليلة جداً ويضر بفئات كبيرة جداً، فتكون الحكومة، بدلاً من الاقتراض بسندات لسد عجوزاتها، مما يجبرها على تحسين سياساتها للوفاء بهذه السندات وفوائدها، بالإضافة إلى خضوعها للمساءلة المستمرة عن أوجه إنفاق الأموال المقترضة، قد أجبرت الشعب على سداد ديونها عنها مع فوائد هذه الديون وذلك عبر التضخم النقدي، ولكن بما أن المطلوب هذه الأيام اتباع سياسات التثبيت والاستقرار النقدي التي تقتضي بتثبيت سعر صرف العملة عند مستوى متدن (في الدول النامية). وخفض معدل التضخم حتى أدنى حد ممكن، وإلغاء العجز في الموازنة الحكومية، فإن البيروقراطية التي لا تقبل الاعتراف بمسؤولياتها وأخطائها، وبالتالي بضرورة تعديل سياساتها، تلجأ إلى أسلوبين قاسيين جداً على الاقتصاد والمجتمع لتحقيق الأهداف الثلاثة أعلاه: وهما تجفيف السيولة من عروق الاقتصاد الوطني، وتخفيض مداخيل العمل الحقيقية دون ضوابط أو معايير وكأنها ليست حقوقاً ثابتة، مثلها مثل حقوق الملكية، وذلك لتستمر في التفاخر بأنها حولت العجز إلى فاض في الميزانية الحكومية، وخفضت معدل التضخم وثبتت سعر الصرف! أما كيف وبأي ثمن اقتصادي واجتماعي تحقق ذلك فليس مهماً طالما أن الحكومة تتمتع بحق الامتناع عن الإجابة عن هذين السؤالين!

فمن يحمي الاقتصاد والمجتمع، وبالأخص أصحاب مداخيل العمل، من هذه الأتاوات الحكومية؟ هذا لم تقتصر السياسة الاقتصادية على استخدام التمويل بالعجز كضريبة غير مباشرة، أو على سحب سيولات القطاع العام والاستزادة باستمرار م الضرائب الأخرى للتعويض عن الموارد المضيعة على رؤوس الأشهاد والتي لا رغبة لها في استردادها، بل استخدمت فوق ذلك كله إيرادات التأمين والمعاشات والتأمينات الاجتماعية وشهادات الاستثمار وفوائض التأمين لدى شركة الضمان السورية وفائض ودائع التوفير (وهي موجودات تقابلها مطاليب جارية ومستقبلية) وذلك لتغذية الموازنة الحكومية، بل وأصرت على مدى عشرات السنوات على مخالفة قانون المؤسسة العامة للتأمين والمعاشات إلى سداد حصة الدولة في الاشراكات والتي ينص عليها القانون، وفوق ذلك قامت بسحب فوائض هذه المؤسسة إلى الميزانية العامة، وبالتالي، تصر وزارة المالية على معاملة هذه المؤسسات الاقتصادية، مثلما تعامل جميع شركات القطاع العام، وكأنها مؤسسات ذات طابع إداري مما كان له آثار سلبية على الوضع الاقتصادي والمالي العام وقد بدأت بالظهور على الميزانية الحكومية، ومن المعلوم أن صناديق التأمين تشكل في الكثير من الدول أهم مصادر الاستثمارات التي تحقق للمستفيدين عوائد إضافية تمكنهم من قضاء بقية حياتهم في كفاية ورفاه أفضل مما تحقق لهم خلال فترة عملهم، على عكس ما هو قائم لدينا، ففي مصر مثلاً، هناك عدد مهم من المشروعات الضخمة الرابحة التي أقيمت بهذه الاستثمارات وتنعكس على أصحاب اشتراكات التأمين وعلى الاقتصاد الوطني بشكل إيجابي، وكان فريق من الخبراء الأكتورايين (خبراء في التأمين) المصريين قد أعدوا قبل سنوات، بناءً على طلب رسمي سوري، دراسة عن أوضاع مؤسساتنا التأمينية، وكشفوا مشكلاتها واقترحوا إصلاحات هامة للسياسات الحكومية بخصوصها، لكن هذه الدراسة، مثلها مثل الدراسة التي أعدها الدكتور جورج قرم، الخبير المالي اللبناني (قبل أن يصبح وزيراً للمالية في لبنان) عن الميزانية الحكومية والسياسة المالية في سورية لصالح وزارة المالية، ومثل جميع الدراسات الأخرى التي تعدها جهات دولية أو محلية حول تطوير أوضاعنا الاقتصادية كالدراسة الهامة التي أعدتها منظمة التنمية الصناعية العربية لصالح المؤسسة العامة للصناعات الهندسية عن صناعة الفارزات، الدراسة الشاملة التي أعدها بعثة خبراء الاتحاد الأوربي حول إصلاح النظام المصرفي في سورية، والتي قال بصدد ذكرها ممثل الاتحاد أثناء محاضرة ألقاها مؤخراً في دمشق بأن الجهات المعنية تعيق تطبيق الإصلاح المصرفي، وغيرها كثير، كل هذه الدراسات تلاقي نفس المصير، وهي الاختفاء في غياهب أدراج المسؤولين الذين تقدم لهم، ثم إخفاء آثارها حتى لا تصل إلى أيدي غيرهم!

فبالنسبة للمعاشات التقاعدية مثلاً، فقد قامت مؤسسة التأمين والمعاشات اللبنانية، بعد انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية، بإجراء عقود تسوية مع المتقاعدين، تعيد بموجبها القيمة الحقيقية لرواتبهم التقاعدية الأصلية، ودون انتظار مراسيم أو قوانين، طالما أن هذا و منطلق الحق والعلم الاقتصادي، بينما لدينا تآكلت جميع الرواتب والأجور والمعاشات لتغطي فجوات الهدر والفساد وسوء الإدارة واستمر الإصرار على قيمتها الاسمية المتناقصة باستمرار، بل وترافق هذا التآكل بإجراءات ترفع وتيرته وتتخذ بقرارات وزارية، مثل حساب التعويضات على أساس الراتب قبل عشرين عاماً، وتسقيف الرواتب والأجور والمعاشات، لتوقيف آلة الزمن عن الدوران!

فهل نبالغ و”نشطح” (حسب قول أحد الزملاء الصحفيين في جريدة الثوؤة) لمجرد ذكرنا للوقائع والممارسات الشاذة ولمجرد الحلم (ربما بغير حق!) برؤية حكومية تضع في اعتبارها أن حقوق الموطنين مصانة بموجب نص الدستور يجب أن تصان على الأرض فعلياً أيضاً، سواء كانت حقوقه الاقتصادية (وقد أتينا في هذه المحاضرة ومحاضراتنا السابقة على الكثير منها، وبالأخص محاضرتنا في ندوة الثلاثاء لعام 997 وعنوانها “التنمية وحقوق المواطن الاقتصادية” أو حقوقه الأخرى، مثل حقه في التقاضي طبقاً لنص الدستور القائل “حق المواطن في التقاضي مصان” بينما دأب مجلس الدولة على رد دعاوى المواطنين في أهم الحقوق، مثل الاعتراض على قرارات الصرف من الخدمة، لسبب ما أو ظلماً وعدواناً، التي اعتبرتها الحكومات السابقة من حقوقها الأساسية “الفطرية” على العاملين في الدولة، وكأنهم عاملون في مشروعات خاصة عند متخذي قرار صرفهم، وليسوا مواطنين متساوين معهم أمام القانون، أيضاً حسبما ينص الدستور، وانطلاقاً من قناعة راسخة لدى البعض بأن الناس فئتان: فئة فوق القانون، وفئة تحت القانون، الأولى مطلقة اليدين في حقوق الأخرى، المشلولة اليدين! وهل نبالغ و “نشطح” إذا قلنا أن الدستور سيد الأحكام ويجب أن يحظى بالاحترام؟

هل كثير علينا أن نحلم أنه لا خيار لنا في التنافس مع بقية العالم على جميع الصعد، وليس فقط على الصعيد الاقتصادي، الذي كنا فيه الأفشل في المباراة، وطوبى للنفط الذي حفظ لنا ماء وجهنا حتى الآن، ويخشى أن “يخذلنا قبل الأوان”!؟

إن ما نحتاجه الآن هو برنامج (حتى لا نستخدم مصطلح “خطة” الذي يتوجس منه البعض خيفة!) إنعاش شامل اقتصادي واجتماعي، مادي ومعنوي، للخروج من حالة الرخاوة والترهل المتفشية والتي من أبرز ظواهرها الإدارة المتخلفة والعطالة المفسدة والبطالة المستفحلة، وتكفي نظرة إلى أعداد ونوعيات المتقدمين للحصول على فرص العمل النادرة جداً هذه الأيام خارج القطر، وحتى داخل القطر، بكل شروطها، وتعويضاتها البائسة، ومع تنازل المتقدمين ذوي المستويات العلمية والثقافية عن جميع الشروط حول نوعية العمل والأجر المتوقع، بنجد أن نسبة المتقدمين إلى عدد الفرص المتاحة تتجاوز عشرة إلى واحد في داخل القطر، وعدد مئات وآلاف إلى واحد خارج القطر، وتفسير ذلك بالإضافة إلى الأجور الحقيقية التي أطيح بها بدون هوادة على مدى العقدين الماضيين، أن عدد الذين انضموا إلى عداد العاملين في الدولة (الإدارة الحكومية الخدمية والجهات الاقتصادية العامة) خلال سبع سنوات (1991-1998) قد ارتفع من 681 ألف مشتغل إلى 8.4 ألف مشتغل، أي بزيادة 123 ألف مشتغل فقط، أي أقل من 18 ألف مشتغل سنوياً بالمتوسط، بينما تقول الموازنات الحكومية أنها توفر سنوياً 85-95 ألف فرصة عمل، وبينما يدخل سوق العمل على الأقل 200 ألف طالب عمل جديد سنوياً! ومن الخطير في الأمر أيضاً أن حوالي 100 ألف جرى تعيينهم، حسب اعتراف الحكومة قبل عامين في مجلس الشعب بوصفة بدل متسرب، أي بدون كفاءة أو التزام، لأنهم تعينوا بالواسطة أو بالرشوة وبخلاف الأصول.

إن أوضاعاً كهذه لا يمكن إحداث أي أثر ملموس فيها بالاستمرار على نهج السياسات الاقتصادية السابقة، اللهم إلا إذا لأردنا ترك الأمور على غاربها لتتفاقم وتتعاظم أخطارها لقد أصبح مطلوباً وبإلحاح، كما يحصل في البلدان الأخرى في مثل هذه الأوضاع، وضع برنامج شامل للتنشيط الاقتصادي والاجتماعي،يبدأ بزيادة حقيقية في تعويضات العمل وفق منهج مختلف نوعياً عما اتبع في الزيادات السابقة (نشير إليه في مكان آخر من هذه المحاضرة) وذلك لبث روح النشاط في السوق والطلب والإنتاج والاستهلاك والادخار والاستثمار والتشييد والتشغيل في جميع جوانب الاقتصاد الوطني والقطاعات والمناطق الجغرافية المختلفة، لتعود الدورة الاقتصادية إلى النشاط من جديد.

ولقد آن الأوان للقطع مع التصورات السائدة في أذهان البعض والتي تعتبر مجرد ذكر الوقائع والحقائق الجارية ووضعها على طاولة البحث “خروجاً على اللياقة والأدب”. بالمفهوم الإقطاعي لـ “اللياقة والأدب”، كما عبر عنه الزميل الصحفي المحترم في مقال له في جريدة “الثورة”. وإننا لنستغرب كيف لا تلفت نظر المتأدبين جداً الخروقات الهائلة للقانون وللمصالح العامة للشعب ولا تثير فيهم أية حمية! وإننا لا نجد تعريفاً لمثل هذا المفهوم للأدب أفضل مما طالعناه قبل أكثر من خمسة عشر عاماً، على ما أذكر، على رسم كاريكاتوري لرسامنا البارز الأستاذ علي فرزات، وموضوعه هو “تطوير” اسم وزارة التربية منذ الاستعمار الفرنسي وحتى اليوم: من “وزارة المعارف” إلى “وزارة التربية والتعليم” إلى “وزارة التربية”، لتصبح أخيراً “وزارة الجلوس بأدب”! وربما نقول ليتها أصبحت كذلك فعلاً! مع الاعتذار من الصديق العزيز الدكتور محمود السيد، الوزير الجديد لهذه الوزارة الهامة، آملين له التوفيق في إعادتها “وزارة المعارف” . وهو خير العارفين، بأننا نعيش عصر المعرفة، وبأن المعرفة الأدب!

  • Social Links:

Leave a Reply