تنشر الرافد مقتطفات من البحث الاقتصادي المهم الذي قدمه الدكتور عارف دليلة في عام 2000 بعنوان ” القطاع العام في سورية … من الحماية إلى المنافسة”، ورغم مرور كل تلك السنوات على الدراسة إلا أن ما يوجد فيها لم يتأثر بمرور الزمن، ونحن اليوم نشاهد ما فعلته سياسات نظام الأسد في الدولة السورية ومؤسساتها من تدمير ممنهج لصالح ثراءها الشخصي مما أدى إلى انفجار الثورة السورية.
الدكتور عارف دليلة
ما هي العلاقة بين الحماية والمنافسة؟ هل هي علاقة تناقضية على طول الخط كما يقول منظروا “التحرير الاقتصادي”. وهل المنافسة لا تكون إلا بين الإنتاج الوطني والإنتاج الأجنبي؟.
إن المنافسة ولدت في الأصل داخل الاقتصاد الوطني، وبقي هذا الشكل للمنافسة هو الأكثر أهمية حتى فترة قريبة مع قيام الشركات متعددة الجنسيات وعابرة بفتح أسوار الأسواق الوطنية وأخذت التجارة الدولية تنمو بمعدل يقارب الثلاثة أضعاف معدل نمو الناتج الإجمالي العالمي فتصاعد دور المنافسة الدولية والتي تهدد بمحو الطابع الوطني للاقتصاديات الضعيفة.
وبالرغم من تزايد أهمية التصدير كمحرك وحافز للنمو والتحديث الاقتصاديـ إلا أنه يجب عدم الإنجرار إلى ما يروجه خبراء المنظمات الدولية بتوجيه سياسات التنمية واستراتيجيتها نحو الخارج، الأمر الذي يؤدي إلى تجاهل احتياجات السوق المحلية وجماهير الشعب، ويربط مستقبل التنمية بعوامل خارجية يسودها الاضطراب وباقتصادات تسودها، البطالة الركود وتتزايد لديها النزعة الحمائية، والاتجاه نحو التكامل الإقليمي فيما بينها مما يزيد من تهميش البلدان النامية وفقدانها المزايا التفضيلية التي كانت تتمتع بها في السابق، فمن الضروري أن لا يضحى بالتوازنات الاقتصادية والاجتماعية الداخلية في الركض نحو الأسواق الخارجية وتحرير التجارة ليس باستطاعته لوحده توفير عناصر النمو والاستقرار وتحسين الوضع الاقتصادي في البلدان النامية، هذه المهمة التي تفرض على الدولة أن ترتقي بوظائفها الاقتصادية مع تطويرها المستمر تبعاً للظروف المستجدة وكما يقول الاقتصادي البريطاني دون غراي في كتابه “الفجر الكاذب False Dawn” الصادر في لندن عام 1998 “إن حرية الأسواق ليست غاية في ذاتها وإنما هي وسائل وأدوات استخلصتها البشرية من أجل غايات إنسانية. إن الأسواق تصنع لخدمة الإنسان وإن الإنسان لم يوجد لخدمة السوق” ولعل الاحتجاجات المتزايدة على شكل العولمة السائد حالياً، بدءً من سياتل، تفتح العيون على عيوب الفلسفة الاقتصادية التي تعلي حرية التجارة التي تخدم مصالح الدولة الصناعية واحتكاراتها على جميع القيم والمصالح الأخرى.
وقد اضطر الرئيس الأمريكي بيل كلينتون ووزيرة خارجيته أولبرايت ورئيس البنك الدولي أن يعترفوا بعد تعاظم الاحتجاجات التي فاجأتهم من داخل مجتمعاتهم بأن العولمة الجارية وسياسات الدول الصناعية والصندوق النقدي الدولي والبنك الدولي ومنطقة التجارة العالمية إنما تؤدي إلى الإجحاف بحقوق الدول والشعوب والطبقات الفقيرة. ويجب إعادة النظر بها، إلا أن مثل هذه التنازلات اللفظية لن تخدع أحداً، ولن تطمس حقيقة أن الاحتجاجات كانت أكثر جذرية مما يراه سادة الليبرالية المتوحشة، إذ تتعاظم المقاومة للنظام الرأسمالي نفسه باعتباره المؤول عن الكوارث التي تجتاح العالم كله.
إن الصراع التنافسي العالمي يتمحور حول شعار من ثلاث كلمات: “أسرع: أفضل، أقل كلفة”، والذي يفرض نفسه على الجميع، بحيث أن من لا يستطيع تحقيقه يحكم على نفسه بالانتحار البطيء وليس القطاع العام في منحى من العمل بمقتضى هذا الشعار حتى ولو لم يخرج إلى السوق الدولية، ذلك أن السوق الدولية ستقتحم حماة، إما عن طريق القطاع الخاص الذي يزداد تحرراً من القيود الحكومية، أو بشكل غير قانوني، عبر الثغرات المتزايدة الاتساع في جدران الاقتصاد الوطني، هذه الأيام. وانطلاقاً من الوقائع السائدة في اقتصادنا نتساءل وفق أي منطق اقتصادي يجمد تطور المشروعات القائمة في القطاع العام، وتمنع من تحسين تشكيلة منتجاتها، بل وتوقف عن إنتاج المنتجات، أو تقديم الخدمات الرائجة والتي نجحت بتقديمها وذلك على أساس مفهوم غريب للانتقال إلى اقتصاد السوق وهو إقصاء القطاع العام القائم من السوق بطريقة إدارية وإحلال احتكارات خاصة محله أكثر كلفة على الاقتصاد والموطن، وأقل كفاءة من القطاع العام، اللهم باستثناء نوع واحد من الكفاءة وهو جمع الأرباح الخيالية دون استثمار أو مخاطرة بشيء، واعتماداً فقط على الاستثناءات والامتيازات والإعفاءات والأوضاع الاحتكارية التي تؤمنها البيروقراطية الحكومية لهذه المشروعات؟
ولو قمنا بدراسة أوضاع جميع أسواق السلع الرئيسية في سوقنا السورية، بدءاً من الخبز، وحتى المواد الغذائية المستوردة: الرز، الشاي، السكر، الموز، الخيوط والمنسوجات، مستلزمات تصنيع الدواء، الحليب المجفف لصناعة الألبان والأجبان، المشروبات الغازية والعصائر المركزة،. الآليات الزراعية المستعملة، خدمات النقل الجماعي…وغيرها كثير، فسنلاحظ كيف قامت البيروقراطية بتجميد ومحاصرة منشآت القطاع العام المنتجة لهذه السلع والخدمات، وحتى خنقها وحتى وقف إنتاجاتها المنافسة والموثوق بها، مع إخضاع هذه المنشآت لجميع الالتزامات الجمركية والضريبية ولأتاوات إضافية وعقبات لا حدود لها، وذلك لتفريغ الساحة لاحتكارات خاصة تحل محلها فهل هذه هي الشروط المطلوبة للوصول إلى الكفاءة وتفعيل المنافسة باعتبارهما المبرران الرئيسان لرفع يد الدولة عن الاقتصاد والانتقال إلى اقتصاد السوق؟
أما الاحتجاج بأن إدارة القطاع العام لا تستطيع بسبب من طبيعتها الارتقاء إلى المستوى التنافسي، فيشير السؤال التالي: وهل إقامة الاحتكار الخاص بديلاً للاحتكار العام يشكل الأرضية المناسبة لظهور الكفاءات الإدارية في القطاع الخاص والتي تستطيع الخروج إلى السوق الدولية؟
قام خبيران دوليان بإجراء دراسة على عينة من المؤسسات البولونية الحكومية، في مطلع التسعينيات، عندما وجدت هذه المؤسسات نفسها وجهاً لوجه تعمل في اقتصاد سوق مفتوح، فاكتشفا أن إدارة المؤسسات الحكومية الكبرى التي تعمل في الصناعات الثقيلة وصناعات أخرى استطاعت أن تحقق انتعاشاً في مبيعاتها وتحسن من إنتاجيتها وتقلل من كلفة وحدة المنتجات، وتخفض استهلاك الطاقة والموارد بالنسبة لوحدة المنتجات، وتزيد من كفاءة الاقتراض بتقليل القروض وأعباء الفوائد وزادت أرباحها وسددت ضرائبها بشكل عادي، وكان الاستثمار لديها يفوق الاهتلاك وبقيامها بتحسين تشكيلة المنتجات استطاعت زيادة ميبعاتها الداخلية وصادراتها الخارجية، ويقول الباحثان المذكوران أن: “مدراء هذه الشركات المملوكة للدولة قد كذبوا عملياً التصور التقليدي بأن القطاع قطاع خامل، رغم أنهم لا يتمتعون بمصلحة شخصية في الشركة شبيهة بالحوافز الموجودة في اقتصاد السوق : ويضيف الباحثان أن: “هذه النتائج لا تؤيد التصور الشائع عن ترهل الشركات الضخمة المملوكة للدولة في فروع الصناعات الثقيلة، بل إن هذه الشركات أظهرت حيوية خاصة”[9].
فالمشروعات المملوكة للدولة استطاعت أن تجري إعادة هيكلة تلقائية بدون تخصيصها (يسود الاعتقاد أن إعادة الهيكلة تعني حكماً التخصيص!) واستطاعت أن تمسك زمام مستقبلها وتعمل على أساس تجاري في وسط اقتصاد سوق مفتوح.
إن الإصرار على أساس حكم مسبق أن المشروع المملوك للدولة غير قابل للعمل بكفاءة اقتصادية وهذا الإصرار لو تفحصناه قليلاً لوجدناه يترافق دائماً بعمل مكثف لحرمان المشروع الحكومي من الشروط الطبيعية والمواتية للعمل، ويتولى مهمة هذا الحرمان نفس الأطراف الذي يتهمونه بانعدام الكفاءة والربحية، والذين ما يفتأون يوفرون الشروط المثلى للمشروعات الخاصة التي تقف في وجهه ويكلفون بإدارته من سيعجل في أجل هذا المشروع وذلك بتقاسم ما يستطيع من القيم التي ينتجها العاملون فيه مع ذوي الشأن الذي يؤمنون له التغطية الكاملة.
وإننا نقترح أن يتاح لشركات القطاع العام أن ترفع مطالبها بجميع الطرق الممكنة بما في ذلك الدعاوى القضائية، على الجهات الوصائية، أو أي جهة صاحبة قرار في الشأن المعني، مطالبة بالحصول على الشروط نفسها التي حصلت عليها أي شركة خاصة في قطاعها الخاص وفق أي قانون أو قرار كان سواء القانون رقم /10/ لعام 1991، والمرسوم /10/ لعام 1986، أو القرار 186 الصادر عن المجلس السياحي الأعلى الخ… وذلك من منطلق المساواة أمام القانون و”المشروع الأولى بالرعاية”، سواء كان ذلك فيما يخص الجمارك أو الضرائب على اختلاف أنواعها أو إجراءات الاستيراد أو التصدير أو أي شأن آخر وذلك من أجل تفعيل المنافسة في السوق الداخلية، والتي تعتبر الشرط الضروري للتكيف والاستعداد للمنافسة الخارجية.
إن المسؤولين في مؤسسات القطاع العام يجب أن يرفعوا شعار عدم التمييز ضد أي استثناء يعطى لغيرهم مطالبين بتعميمه عليهم بنفس الشروط وبشكل تلقائي وإننا لا نستثني القطاع الخاص من اللجوء إلى إجراء مشابه في الحالة المعاكسة وذلك لتكون السوق الداخلية هي المدرسة التي يتعلم فيها المشروع الاقتصادي المنافسة ليخرج بما تعلمه إلى السوق الدولية.
وإذا كانت العديد من البلدان قد أصدرت قوانين مكافحة الاحتكار وذلك لإزالة احتكارات القطاع العام، بداية، (ولم يبق في اقتصادنا مناطق احتكار للقطاع العام أصلاً) فإنه من الأولى مكافحة احتكار القطاع الخاص، وعلى سبيل المثال، فإن أسواق المواد الغذائية الأساسية المستوردة تحولت إلى أسواق احتكارية خاصة، ذات أرباح عالية جداً.بينما تحولت مؤسسات القطاع العام التي كانت تحتكرها سابقاً إلى مؤسسات عاطلة عن العمل، ويجب إعادتها إلى ميدان العمل على أسس تجارية لتفعيل التنافس تحقيقاً لمصلحة الاقتصاد الوطني والمستهلك.
وكمثال آخر، في الوقت الذي لم يعمل فيه المسؤولون عندما كانت الصناعة النسيجية حكراً على الدولة على إنشاء صناعة للخيوط التركيبية التي تستخدم في العديد من المنسوجات ذات الاستهلاك الواسع ليفتحوا الباب لاحقاً للقطاع الخاص لاستيراد هذه الخيوط والمنسوجات والتي تستخدم في إشباع الطلب الداخلي، مما أدى إلى تراكم مخزونات القطاع العام من الخيوط والمنسوجات القطنية، غير القابلة للتصريف، هكذا وبسياسة وقرارات حكومية جرى إحلال احتكار خاص محل احتكار عام في سوق هامة كسوق الغول والنسيج والألبسة، مما أدى إلى تخسير وتعطيل أكبر قوة إنتاجية في الاقتصاد السوري.
وفي صناعة الأدوية، وصناعة الألبان..، مثلاً جرى توقيف المعامل الحكومية عن تطوير وتحديث خطوط إنتاجها التي تنتج منتجات 1ذات نوعية مفضلة وأسعار أقل، وبالأحرى جرى منعها من تحديث تقاناتها القديمة، وذلك للتمكن لاحتكارات خاصة أن تحتل أسواقها لوحدها.
ويمكن ضرب عشرات الأمثلة على التدخلات الحكومة المتحيزة ضد القطاع العام والمانعة لتوسعه وتطوره وبالأخص في المجالات التي برهن على جدارته وقدرته على المنافسة فيها، وفُرضت عليه شروط تعجيزية مصطنعة لإخراجه من السوق أو تحميله أعباء القروض التي تضعه موضع الإفلاس الحقيقي.
وإننا لا نريد غض الطرف عن الكوارث الحقيقية وأكلافها الباهظة في القطاع العام، مثل معمل الورق على سبيل المثال، إلا أن كارثة الورق كانت مخططة وهناك من اشتركوا بقبض ثمنها البخس، غير آبهين بحجمها الهائل وبقي هؤلاء يرتقون في مواقع المسؤولية بشكل هرمي ليضمنوا بقاء ملفات الجريمة مغلقة وتحت أيديهم، وبعد أن أخفوا آثارها. ويمكن الحديث عن مئات الجرائم الأخرى التي مرت على نفس الطريق مرور الكرام وكأن أموالها المهدورة أموالاً حراماً، وقد انتشر وباء اللامبالاة الذي يعبر عنه بالسؤال: “وما الفائدة” والكل يعرف الحقيقة، من إعادة فتح القضايا والاستمرار في الحديث عنها”، وكأن الذي يدفع ثمن ذلك كله هو بلد آخر وشعب آخر! وكأن ما حدث غير قابل للتكرار!
ومن هنا فإنه لا يجوز الانشغال بحديث أكاديمي في الحماية والمنافسة باعتبارهما قضيتان خارجيتان. وتناسي أنه لا فائدة لا في حال الحماية ولا في حال المنافسة، ما دمت الإدارة الاقتصادية على هذه الدرجة من الاستهتار بأبسط مبادئ وأوصل الإدارة الاقتصادية على مستوى الاقتصاد ككل وعلى مستوى القطاع والمؤسسة والمشروع، وإنني لا أختزل القضية كلها في هذا المقام إلى قضية إدارية بل أرفع القضية الإدارية إلى مستوى القضية السياسية.
أليس من العجب العجاب، مثلاً، أن تكون مؤسسة كمؤسسة حلج الأقطان وهي محتكرة الذهب الأبيض (القطن) الذي يأتي في سورية بعد الذهب الأسود (النفط)، مدينة للمصارف بأكثر من 50 مليار ل.س.، وأن هذا الدين يتكاثر سنوياً ولا يتناقص؟ ترى هل من مسؤول سمع بهذا الرقم، مثلاً، وإذا سمع به، كيف يعقل أن يكون مسؤولاً عاماً ولا يستوقفه هذا الرقم، كيف يعقل أن يكون مسؤولاً حقاً ويستطيع الرقاد قبل أن يدرس أسباب هذا الرقم ويعمل على قطع دابر هذه الأسباب بصورة فورية؟.
ومثل آخر أيضاً، أن مشتريات الدولة والقطاع العام ومبيعاته الداخلية والخارجية ، والتي تجري “أصولاً” إنما تجرري، كما يعلم القاصي والداني، بطرق تجعل الحماية موضع سخرية والمنافسة في النهاية، مستحيلة، وغلى جانب ذلك فإن الدولة وجبهاتها العامة، والتي تقع في اشتباكات عقدية وقانونية ما أنزل الله بها من سلطان مع جهات خارجية وداخلية كثيرة، محرم عليها أن تربح قضية واحدة من بين هذه القضايا. ولا أحد يتساءل أإلى هذه الدرجة بلغ “الغباء القانوني العام”، بحيث تكون الدولة والقطاع العام الخاسران دوماً في أي خلاف قانوني، أم أن وراء الأكمة ما وراءها، وقد ارتفعت أكلافها والمداخيل المتشكلة منها إلى أرقام خيالية؟.
ترى ألا تستحق هذه المسائل وكثير غيرها استقصاءً شاملاً يتناسب مع أهميتها وخطورتها. ومن يجب أن يقوم بهذا الاستقصاء إذا كان المعنيون بهذه القضايا هم غالباً أصحاب المصلحة في إبقائها طي الكتمان؟.
فكيف، والحال هذه، يوضع الشعار المثلث “أسرع، أفضل، أقل كلفة” موضع التطبيق، حماية للقطاع العام من المنافسة وارتقاء إلى المستوى التنافسي؟.
من كل ما سبق نستنتج أنه لا يمكن الحكم على القطاع العام وقدرته التنافسية انطلاقاً من الوقائع القائمة، وإنما بعد تصحيح السياسات الحكومية تجاهه، وإصلاح أوضاعه الإدارية والتنظيمية وإشراك العاملين في الإدارة والرقابة باعتبارهم مالكين جزئيين لرأس المال ونتائج الأعمال.
Social Links: