تنشر الرافد مقتطفات من البحث الاقتصادي المهم الذي قدمه الدكتور عارف دليلة في عام 2000 بعنوان ” القطاع العام في سورية … من الحماية إلى المنافسة”، ورغم مرور كل تلك السنوات على الدراسة إلا أن ما يوجد فيها لم يتأثر بمرور الزمن، ونحن اليوم نشاهد ما فعلته سياسات نظام الأسد في الدولة السورية ومؤسساتها من تدمير ممنهج لصالح ثراءها الشخصي مما أدى إلى انفجار الثورة السورية. ضد التمييز، مع حق “الأولى بالرعاية” للمؤسسات والأفراد:
الدكتور عارف دليلة
نتيجة لاستدامة إحلال الإدارة الاقتصادية الأوامرية البيروقراطية بكل ما تكدس لديها من عيوب محل توجيه الاقتصاد بالسياسات العلمية المبنية على معرفة دقيقة وحيوية بوقائع الحياة الاقتصادية واتجاهات تطورها، وعلى استهداف غايات واضحة ومعلنة ومحددة بشكل عقلاني ومبنية على المشاركة الجماهيرية الواسعة، فقد وصلت بنيتنا الاقتصادية والاجتماعية إلى حال يرثى لها من التقطع والشرذمة والنفي المتبادل والترهل والإحباط، الأمر الذي لم يعد ينفع معه رش الماء على وجه المريض لإيقاظه وإحيائه. وإنما القيام بعمليات جراحية مخططة علمياً لاستئصال الأورام التي تعطل وظائف معظم أعضائه، وإجراء عملية زرع لأنسجة ولأعضاء سليمة محل الأنسجة والأعضاء المهترئة الفاسدة غير القابلة للشفاء. ومن حسن الحظ أننا لا نحتاج إلى طلب استنساخ أنسجة وأعضاء بديلة، ففي بلدنا وشعبنا مخزون لا ينضب من الأعضاء المتفانين والمجاهدين من أجل رفعة الوطن والشعب، وتراكم غير محدود من الكفاءات الرفيعة المستوى في مختلف الاختصاصات وميادين العمل، ولا يحتاجون إلا للثقة بهم واستدعائهم إلى ميادين العمل وفتح باب التنافس الخلاق بينهم على الإنجاز والعطاء. إن الشرط الأول لظهور هؤلاء ونهوضهم إلى المسؤولية هو التخلص من جميع أشكال “التمييز” بين المواطنين، وكذلك بين المؤسسات، والقائم على غير اعتبار الكفاءة في أداء المهام المطلوبة التي ترفع مكانة الوطن وتنقله من حال إلى حال أفضل، وتحقيق التكافؤ والمساواة في الفرص والإمكانيات، وتنظيم ما يضمن ذلك كله في القانون، والمراقبة الصارمة الشفافة للالتزام به ووضعه موضع التطبيق على المستويات كافة، من أعلى المستويات حتى أدناها. إن هذا النوع الواحد من التمييز الذي استثنيناه يكون نتيجة ثبوت الاستحقاق وليس بداءة وشرط مسبقاًـ ويقتصر على توفير شروط الحياة والعمل المثلى للفرد أو للمؤسسة أو المماثلة لما يتوفر لأمثالهم في الدول المتطورة أو الجادة على طريق التقدم ويخضع للمراجعة الدورية ولا يعني بأي حال، كما هو سائد منذ زمن ليس بالقصير، إطلاق اليدين في التصرف بمقدرات وأملاك وحقوق الآخرين، أو المجتمع والدولة والمؤسسة في الصالح الخاص وصالح الشركاء والمقربين. فهذا هو بعينه أكثر أشكال التمييز شراً وضرراَ وفتكاً بروح الأمة وطاقاتها. إننا ننظر من حولنا في كل اتجاه فلا نجد أثراً للتمييز الوحيد الذي نطالب به، ونجد الاقتصاد والمجتمع يعج ويفوز بأشكال التمييز الأخرى التي نطالب بوقفها، والتي استطاعت استغلال بعض الظروف الاستثنائية من وقت لآخر لتخترق أسوار الدستور والقانون وأسس حقوق المواطنين الأساسية لتبني لنفسها أهراماً من الكيانات المتساندة بل وحتى لتكريس هذه الكيانات بمنظومة من ا لقوانين والأنظمة الناشذة التي لا تخدم أحداً غير رجالها المعدودين والمعتدين بمكاسبهم وامتيازاتهم التي دفعت بأغلبية الشعب الساحقة وبالأخص الفئات الوسطى، الفاعلين الأهم في التاريخ، إلى خارج دائرة الفعل الاجتماعي. لتحول هناك إلى هوام ضائع، أو إلى مجرد أجساد متدافعة باحثة عن فرصة ما، تأتي من صدفة ما في الحياة، غير مشمولة في أي خطة كلية لبناء دولة حديثة أو مجتمع جديد متقدم. فإذا كان العنوان الرئيسي لجريدة “الديار اللبنانية” ليوم الأربعاء 19 نيسان عام2000 يقول عن تقرير رسمي لبناني أن 46% من اللبنانيين يقعون تحت خط الفقر المدقع، و67% منهم تحت خط الوسط، فهل هناك جهة ما في سورية اهتمت بدراسة المستقبل، وما هي الخطة الرسمية لمنعها من التزايد ولإنقاصها ضمن برنامج زمني ملزم، وما هي متطلبات تحقيق هذه الخطة، اللهم إلا إذا كان الجميع مقتنعين بما جاء في خطاب الوزير الذي افتتح ندوة نظمتها الأمم المتحدة حول الفقر في الدول العربية وعقدت في دمشق حيث يقول للمؤتمرين العرب أننا رغم عدم معاناة بلدنا من مشكلة الفقر، فقد رحبنا باستضافة هذه الندوة لتدارس أوضاع الفقر في الدول العربية!!. فكيف إذا ما استمر مثل هذا الخطاب الرسم الذي لا يعترف بأي مشكلة في جميع شؤون حياتنا، يمكن أن نتفاءل بالإصلاح وإذا حدث واعترف بمشكلة فلا يعترف بمسؤولية أحد عنها، ليبقى كل المسببين لكل المشاكل على رأس من يتولى مهمات إصلاحها؟!. وإنه لأمر خارق للمنطق ولحقائق التاريخ أن يقتنع الإنسان بأن مرتكب الجريمة هو أفضل قاضٍ للحكم فيها؟! وكم هو الأثر فظيع ومهول جداً على من يقع عليه حكم أمثال هؤلاء القضاة؟ من أجل إلغاء الحماية عن أمثال هؤلاء القضاة، حيثما وجدوا، ومن أجل تفعيل المنافسة الحرة بين المواطنين. وبين جميع أشكال المؤسسات، فإننا ندعو إلى شكل آخر من التحرير يختلف عن أشكال “التحرير” المرسومة والمروج لها على نطاق واسع والتي تحرر فعلياً فقط بضع مئات، أو بضع آلاف من الأفراد من أية ضوابط أو قيود أو التزامات تجاه الاقتصاد والمجتمع والدولة. ندعو إلى تحرير متساوٍ للشعب كله، وللمؤسسات كلها، أولاً، من تكلفة تلك الامتيازات التي يرتبها ذلك “التحرير” الانتقائي، وقد أصبحت باهظة جداً، وفوق الاحتمال بكثير، وثانياً، في تمكن جميع المواطنين من الحصول على فرص تفعيل وإطلاق طاقاتهم المادية والمعنوية، على قدم المساواة، وعلى جميع الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية والفكرية والتنظيمية ليصبح بالإمكان التمييز الموضوعي بالنتائج العملية بين الصالح والطالح، بين الكفاءة والإدعاء، وبين الخطاب والممارسة.
وبخصوص موضوعنا، فإننا نجد أن “التحرير” الذي مورس حتى الآن، والذي كان “يفصل” على قياسات محددة، كانت عوائده، وحتى تلك العوائد الخاصة التي تحققت لمن فصل عليهم، أقل بكثير من تكاليفه (الاجتماعية طبعاً) إن علم الاقتصاد هو علم المقارنة بين العوائد والتكاليف وهناك علمان في الاقتصاد بصدد هذه المقارنة: علم يقارن بين العوائد والتكاليف على المستوى الجزئي، (الفرد، المؤسسة) وعلم يقارن ما بين العوائد والتكاليف على المستوى الكلي (الاقتصاد الوطني والمجتمع والدولة). وإننا نقترح علماً ثالثاً يرى أن الحالة المثلى تكون عندما يتحقق التوافق بين العوائد على المستوى الجزئي والعوائد على المستوى الكلي بحيث تتزايد طرداً ومعاً، وكذلك بين التكاليف على المستوى الجزئي والتكاليف على المستوى الكلي، بحيث تكون أقل ما يمكن بالنسبة للمستويين معاً، لكن ما هو سائد لدينا هو قياس العوائد بالتكاليف على المستوى الجزئي فقط، مع إهمال وتجاهل لدرجة البؤس لعلاقتهما بالمستوى الكلي. وكانت نتيجة هذا الإهمال والتجاهل أن قامت علاقة عكسية صارخة بين المستويين الجزئي والكلي، أي أن العوائد على المستوى الجزئي كانت أكثر ضخامة بمقدار ما كانت التكاليف على المستوى الكلي أكثر ضخامة والأمر الأكثر بؤساً في هذه الحالة هو أن يجري التفاخر بتلك العوائد وتجاهل هذه التكاليف. أم الحالة المعاكسة، أي أن تكون العوائد على المستوى الكلي ضخامة بمقدار ما تكون التكاليف على المستوى الجزئي أكثر ضخامة فلم نجدها إلا في ميدان واحد، وهو “نجاح” الإدارة الحكومية في تحقيق التخمة المالية في الموازنة الحكومية، بطريقة يمكن معها القول إنها “إبداع سوري” في التاريخ الاقتصادي، وعلى حساب ليس فقط زوال الشحم، بل وحتى ترقق العظام في معظم مفاصل الاقتصاد الوطني ومؤسساته ولدى معظم المواطنين. مما يجعلنا نطلق على تلك النتائج المالية المتحققة قول الشاعر العربي الكبير المتنبي: “أتحسب الشحم فيمن شحمه ورم”. فشحم المالية العامة في هذه الحالة هو ورم خبيث ولا يكون شحماً حقيقياً، إلا عندما يوازيه شحم مماثل في جميع خلايا الاقتصاد الوطني والمجتمع ولكن إدارتنا الاقتصادية، على ما يبدو، ملتزمة ببرنامج “لمكافحة الكوليسترول” في نظريتها وممارستها الاقتصادية، بمنع ظهور الشحم في الاقتصاد ومؤسساته ولدى المواطنين ، اللهم باستثناء عند أولئك المختارين “المبشرين بالجنة”، جنتهما المشتركة!!. إننا ندعو إلى إحلال الحالة الطبيعية في كل جوانب العمل والحياة، أي إتاحة الفرصة للجميع للحصول على الإمكانات والتمتع بالحاجات بشكل طبيعي، دون أي معوقات مصطنعة، موضوعية أو ذاتية، لتكون مهمة الدولة بكل جهاتها إزالة هذه المعوقات ومكافحتها حيثما وجدت. مسترشدة بالإشارات التي يصدرها الاقتصاد والمجتمع عن وجود هذه المعوقات، ومتيحة الحرية والقنوات الضرورية. من إعلامية وفكرية لظهور هذه الإشارات. والتعامل مع هذه الإشارات بكامل الاهتمام والشفافية والعلانية، والإيجابية، وأولاً بأول، دون السماح بتراكمها حتى استحالة التعامل معها إيجابياً، مما يفتح الباب عندئذٍ للتعامل السلبي الذي يزيد من المخاطر والتكاليف. أفلا يتطلب ذلك كله عقلاً جديداً، ووعياً جديداً، وكفاءات ومؤهلات وأساليب عمل مختلفة نوعياً؟. إن تحقيق الحالة الطبيعية التي يستطيع فيها جميع الأفراد، وجميع المؤسسات، صغيرة أم كبيرة، عامة أم خاصة، الوصول إلى مستلزمات وضرورات حياتها وعملها، مع إعانة ودعم العاجزين عن هذا الوصول مادياً ومعنوياً إذا اقتضى الأمر (والدعم فقط من أجل التمكين من تكافؤ الفرص هو خلاف الدعم الذي يولد التمايز ويخلق ويكرس التمييز وعدم التكافؤ)، إن تحقيق هذه الحالة الطبيعية يلغي الحاجة والمبرر لأي نوع من الاستثناءات والامتيازات، تلك المبررات التي تنطلق من الواقع المصطنع أصلاً، تجنباً لمواجهة مهمة إصلاح هذا الواقع أو لعدم الرغبة في إصلاحه لارتباط مصالح معينة به، بحيث يجري الالتفاف عليه بإحداث مزيد من التشوهات والاختلالات في البنية الاقتصادية والاجتماعية، تزيد من المخاطر ولا تحقق أية أهداف سامية. وهناك في الاتفاقات الدولية شرط اسمه “الأولى بالرعاية”، ويقضي بأن الدولة الموقعة على الاتفاق في حال قيامها بإعطاء أي ميزة لأي دولة أخرى في المستقبل لا تتوفر في هذا الاتفاق أن تسري هذه الميزة تلقائياً على الأطراف الموقعين على هذا الاتفاق. وعلى نفس المنوال، نطالب بأن يطبق المبدأ نفسه على نطاق الاقتصاد الوطني وعلى النطاق الاجتماعي، بأن أي ميزة أو استثناء، أو إعفاء أو تمييز يعطى لأي مؤسسة أو فرد يجب أن يسري تلقائياً على جميع المؤسسات والأفراد الذين تتوفر فيهم الشروط نفسها، فمثلاً، يحق لشركة الكرنك أو لأي مواطن أن يستفيد من نفس الميزات التي استفاد منها بعض الأفراد أو الشركات الذين تمتعوا بامتيازات استيراد وتشغيل وسائط النقل دون جمارك أو ضرائب.و يحق لصاحب فندق في سورية أن يطالب بنفس الاستثناءات الممنوحة لشركة الشام، مثلاً، أو لغيرها، وأنه لأمر مقبول عقلياً ووطنياً وإنسانياً وأخلاقياً أن يعمل طرفان عملاً واحداً ويحققان وظائف واحدة وأن يخضعا لشروط مختلفة، تحت أية حجة كانت. لقد كانت الحجج المزعومة غطاء لإثراء غير مشروع وأوضاع احتكارية ظالمة وتشوهات فظيعة وامتهانات لكرامة واستنزافات هائلة لأموال الدولة والشعب إلى جيوب أشخاص محددين ثم إلى الخارج، ودون أن تحقق أي فائدة عامة مزعومة. في الدول المتقدمة يجري التنافس بين الدول على تحسين الشروط العامة للحياة وللعمل ومحاربة أية شروط تمييزية، هذا التحسين الذي يكون متاحاً للجميع على قدم المساواة، هو وحده الذي يحقق التقدم الاقتصادي والاجتماعي، وليس الامتيازات التي لا تحقق هذا التقدم، بل لا تتحقق إلا على حساب هذا التقدم. لقد آن الأوان للاحتكام للعقل وللأخلاق معاً!.
Social Links: