حسان محمود
لم تتغلب ألمانيا على جرحها النرجسي، فقط، بإعادة توحيد نفسها والتحاق شطرها الشرقي مجدداً بها؛ هي لم تكتفي بهذا الإقرار التاريخي الواقعي المتمثل بانهيار الشمولية الشيوعية، التي سبق أن أقر زعيم زعمائها “غورباتشوف” لفظياً بتفوق ألمانيا حين صرح أثناء زيارته ما كان يسمى “ألمانيا الغربية” بأن لديها اشتراكية أكثر مما لدى الاتحاد السوفييتي. النصر على جرحها النرجسي ـ القومي اتخذ أشكالاً يحسن استعراض بعضها، من باب ضرورة التدبر والاعتبار:
أولاً: نشوة انهيار جدار برلين، لم تؤجج السعار القومي، أو لنقل: تمكنت ألمانيا من وضع الحدود أمام تأثيرات هذه النشوة، كي لا ترتكس إلى “الحقبة القومية” وتمثلاتها الفاشية.
ثانياً: ما ذكر في البند (أولاً) ليس سببه، فقط، دروس المرحلة الهتلرية، واستنتاجاتها الحضارية ـ الثقافية، إنما أيضاً، وفوق وقبل كل شيء، تبلور رؤية، خطة، مسنودة بمشروع واقعي هو (قيادة مشروع اتحاد أوربي عابر للقوميات) كانت وما زالت ألمانيا عموده الفقري، اقتصادياً و(فلسفياً) ربما، لأنها استنتجت عقم و لاتاريخية الأسلوب العسكري لتصدير فائض قوتها، فالتفتت إلى أساليب أخرى غير التوسع عبر الاحتلال أو الضم، جوهرها يقوم على المشاركة.
ثالثاً: تقود ألمانيا، عالمياً، ما يسمى “الليبرالية ـ الاجتماعية” (اقتصاد السوق الاجتماعي) مقابل “الليبرالية ـ المتوحشة” التاتشرية ـ الريغانية. لهذا، بعد صعود اليمين الشعبوي وخسارة “الأوبامية” أمام “الترمبية” لم يكن أمام أوباما الخاسر، الحالم بالنموذج الألماني، إلا زيارة ميركل كي يسلمها الراية، ويقول لها (لم يبق لنا إلا أنت). أوباما، الذي كان أكبر إنجاز داخلي له إقرار مشروع ضمان صحي استغرق عقوداً من المداولات في أمريكا، وانقلب عليه ترمب و وعد ناخبيه بإلغائه، يعتبر إنجازه هذا، مقارنة بما لدى الألمان من أنظمة ضمان، مجرد نكتة، أو جنيناً، أو فكرة بدئية تجاوزتها منذ عقود الليبرالية ـ الاجتماعية الألمانية.
رابعاً: هذه “الاستثنائية” الألمانية، المرتكزة إلى فلسفة تقوم على التوازن بين (الحرية) و (العدالة الاجتماعية) تجسد نموذجاً مخالفاً لليبرالية العرجاء، التي تتشدق بالحريات السياسية والاقتصادية وتفتقر إلى منظور للعدالة، كما تجسد نموذجاً مخالفاً للاشتراكية ـ السوفييتية، بـجعل ممارسات العدالة تتجاوز سذاجة التوزيع المتكافئ للدخل على الأفراد، إلى توزيع مدروس للدخل على (القطاعات والأنشطة) وهو ما أتاح لألمانيا امتلاك قدرات تكيفية عالية، وأن تتعامل بمرونة، وكفاءة نادرة، ليس مع الأزمة المالية العالمية عام 2008 فحسب، بل مع أكبر تحديين عرفتهما البشرية في ألفيتها الجديدة: كارثة اللجوء السوري، وكورونا.
خامساً: كان من مقتضيات الوفاء للريادة الألمانية، أن تعلن ميركل عزوفها عن الحياة السياسية، وعدم ترشحها للانتخابات القادمة، وذلك للأسباب التالية:
1 ـ كي لا يسير النظام السياسي الألماني في ذات الدرب الذي سار عليه النظامان في تركيا وأمريكا، لجهة تكريس مركزية دور الشخص، فالأردوغانية غير محبذة في ديناميات الديمقراطية، وتقود إلى نتائج غير ديمقراطية، فها هي أمريكا تصل إلى الترمبية جراء بروز أدوار العائلات (جورج بوش الأب، ثم الابن، ثم ترشح الابن الآخر “جيب بوش” للرئاسة، وكذلك كلينتون، وهيلاري…الخ).
2 ـ محاربة هذا الصعود اليميني على المستوى العالمي هو امتداد لذات المعركة على المستوى المحلي، الألماني، لهذا كان قرارها بالإعلان عن اعتزال الحياة السياسية على خلفية تراجع شعبية حزبها في انتخابات ولاية “هيسن” وكذلك حصة تحالفها في انتخابات “بافاريا”.
سادساً: أما عن تشبيه “ميركل” بالأنبياء، فهو لا يستمد مبرراته مما سبق فحسب، إنما أيضاً من تكرار إشهار ثباتها على قرارها الاعتزال، على الرغم من مناشدات طالبتها بالتراجع عن هذا القرار، بعد عودة ارتفاع شعبية حزبها، بسبب قيادتها الناجحة لأزمة التعامل مع كارثة كورونا.
خدمةً لمصالح “النظام” ولدوره العالمي في قيادة الليبرالية ـ الاجتماعية، لم توظف ميركل انتصارها الأخير، كما يفعل مستبدو العرب، الذين بسبب افتقارهم للإنجازات، يضطرون، في سبيل تأبــيد سلطتهم، إلى تحويل الهزائم إلى انتصارات وهمية.
Social Links: