نظرة إلى الخلف خطوة إلى الأمام

نظرة إلى الخلف خطوة إلى الأمام

حازم نهار

الموقف والتحليل في السياسة

يُقال في معرض الحديث عن السياسة والأداء السياسي: إن السياسي الحق هو الذي يفهم ويحدِّد أولًا مسار الواقع والتاريخ كي لا يرتطم رأسه به. أي، يحدِّد المعطيات؛ ليستطيع تعيين الممكنات، فمعرفة الضرورات والشروط وقوانين الواقع أساسية في تحديد مساحات العمل المتاحة واتجاهاته.

يقودنا تحليل الواقع في بعض المحطات إلى نظرة تشاؤمية، يجب أخذها في الحسبان، على الرغم من إيلامها، في بلورة نوع الأداء السياسي المطلوب. لكن هذا لا يعفي المثقف أو السياسي من ضرورة إشهار موقفه السياسي؛ استنادًا إلى البوصلة الوطنية والإنسانية والحقيقة.

بمعنى آخر، قد يكون تحليلي السياسي لمسار الحوادث في سورية متشائمًا، لكن يفترض بهذا التحليل ألاّ يصبّ في خانة اتخاذ موقف سياسي إلى جانب القاتل، مثلما حصل لدى كثير من المثقفين السوريين؛ بل لا بدّ من اتخاذ موقف حاسم وجذري من الظلم، إلى جانب التحليل السياسي المتشائم، وغير المتوافق مع رغبة أغلبية المظلومين.

بهذه المعاني، كان رأيي مركبًا تجاه ما حصل في سورية منذ آذار/ مارس 2011. فمن جهة، كان موقفي السياسي إلى جانب الثورة السورية، ومنحازًا إليها ضد نظام القتل والإجرام، ومن جهة أخرى، كنت متشائمًا في استشراف المسارات المستقبلية؛ حتى في أوج اللحظات الجميلة للثورة، ومعارضًا -أيضًا- للأداء السياسي المعارض في كلّيته. حتى أن بعض الارتجاليين أطلق عليّ لقب “البومة”. وبعضهم الآخر لقب “السلحفاة”؛ انطلاقًا من بطئي في التعاطي مع طروحات المعارضة وتشكيلاتها، وابتعادي منها منذ أكثر من خمس سنوات.

منذ انطلاق الثورة السورية في آذار/ مارس 2011، انهمك سوريون كثر يفكرون في مواقعهم (أو مناصبهم)، قبل -وبعد- “سقوط النظام السوري”، أكثر كثيرًا من الانشغال بالقراءة الجدية للواقع ومسار الحوادث، من

جهة، ومن إعادة النظر في مؤهلاتهم وقدراتهم وتفكيرهم، والشغل لتطويرها، على الرغم من الفقر المعرفي والتصحر الرؤيوي الواضحين جدًا، فكرًا وممارسة وتنظيمًا، ويلفّان معظم من حصّل فرصة الظهور الإعلامي خلال السنوات الست الماضية.

في كل حال، نظرت إلى هذا الانشغال بوصفه طبيعيًا في ظل الشخصية السورية المهدورة، قيمةً وكرامةً، طوال نصف قرن، والتواقة -في الوقت ذاته- إلى أداء دور ما، لكن المشكلة أن المهمات المعقّدة المطلوبة، كانت أكبر من مؤهلات وقدرات معظم من تنطّعوا لها، من قوًى وشخصيات.

شروط حَكمت الوضع السوري

في اختصار، انطلق تحليلي السياسي لمسار الحوادث من قناعتي بأنْ لا قاع لسلوك النظام السوري الإجرامي، ولا وجود في بِنيته ما يجعلنا نتوقع أنه قد يضع حدًّا أو خطًّا أحمر لبعض هذا الإجرام، في الأقل، وأن العالم لن يقدم شيئًا مفيدًا، أو ذا قيمة، للسوريين، ولن يتدخل بجدية لمصلحتهم ضد النظام السوري، انطلاقًا من تحليلي للدور الأميركي في المنطقة الذي يُعدّ دورًا مفصليًا. وكان النظام السوري متيقنًا ومطمئنًا إلى إحجام أميركا عن التدخل. وهذا هو السبب الرئيس لإمعانه في العنف والجرائم ضد الشعب السوري.

كذلك، كنت مقتنعًا بأن الثورة غير قادرة على تشكيل وضع سياسي مركزي متماسك؛ بحكم عوامل عديدة. أما المعارضة السورية، فقد كانت قواها مهشّمة لحظة انطلاق الثورة، داخل سورية وخارجها؛ إذ تتكون من قوى هشة، منقطعة عن ممارسة السياسة منذ زمن بعيد، وليس لها امتداد في المجتمع السوري، ومنقسمة على نفسها لحسابات شخصية أكثر منها سياسية، ولا حوارًا حقيقيًا بين أركانها، وتتمترس خلف شعارات بالية. خصوصًا مع مشاهدتي -خلال الأشهر الأولى من الثورة- كيف استمرت آليات عمل المعارضة مثلما عهدناها قبل الثورة. فكانت بائسة وتقليدية، وكأن شيئًا لم يتغير في سورية.

كانت المقدمات السابقة واضحة خلال الأشهر الأولى من الثورة، واستمرارها كان يعني منطقيًا أنه سينمو تدرُّجًا دور القوى الإسلامية المتطرّفة. ولهذا النموّ تبعاته في مستوى الداخل السوري، وفي مستوى دول العالم؛ من حيث موقفها من الوضع في سورية؛ ما عنى لي أن مجتمع الثورة سيأخذ في التفسخ شيئًا فشيئًا، بالتزامن مع تفسخ النظام السوري وانحلاله. وأن الثورة ستُختزل إلى صراع عسكري مع النظام السوري. وفي هذا الإطار يمكن القول، بحسابات منطقية بسيطة، تأخذ في الحسبان الشرط الموضوعي (المصالح الإقليمية

والدولية): إن طريق إسقاط النظام السوري عسكريًا مغلق، بل إن الصراع العسكري سيمدّ في عمر النظام، وسيسهم في استشراء ظاهرة التفسخ.

في ظل الأحوال والمعطيات السابقة، ستسود وتسيطر -منطقيًا- أفكار وآليات هدامة على العقول؛ منها -مثلًا- مقولة “اقتراب سقوط النظام”؛ استنادًا إلى معطيات رغبوية أو جزئية؛ مقولة “تمثيل الشعب السوري”، في لحظة سياسية لا يمكن اكتشاف صدقية أو جدية أي تمثيل؛ مقولة “المناطق المحررة” على أرضية رملية غير مستقرة، من القوى العسكرية والعلاقات الإقليمية المتغيرة؛ مقولة “معارضة داخلية ومعارضة خارجية” في التنافس السلبي تحت ضغط الواقع؛ الفهم السلبي لمعنى الحرية. وهي التي تمخضت عن عدائية عجيبة بين السوريين، وتغطى زورًا بعبارات حرية الرأي التي لم تكن سوى “حرية الشتم والتشهير”، وهي نمط من الحرية، يغيب عنها الوعي والضمير معًا؛ مقولة “ليس الآن”. فكل محاولة لتصحيح المسار تواجَه بعاصفة من الاستهجان الرافض لها بذريعة “حشد الجهد لإسقاط النظام”؛ فضلًا عن أمراض الخطاب السياسي الإعلامي الذي كان إما شعبويًا ورخيصًا وانتهازيًا، أو أيديولوجيًا وعصبويًا وتقليديًا.

أما بالنسبة إلى مسار المفاوضات السياسية، فهو -أيضًا- سيكون مغلقًا بحكم معطيات عديدة، منها -أساسًا- البنية المغلقة للنظام غير المنفتحة على تسويات، وتعدد أطراف التسوية، داخليًا وإقليميًا ودوليًا. لكن هذا لا يعني الانسحاب منها، أو تصدير خطاب سياسي مضاد لها. بل يعني عدم وضع البيض كله في سلة المفاوضات الجارية.

إن المعطيات الواقعية السابقة جميعها، تلك المتعلقة بالنظام السوري، وطبيعة المعارضة السورية، وشبكة المصالح الإقليمية والدولية، وموقع سورية في معادلات الصراع الكبرى، ومستوى خبرة المجتمع السوري طوال نصف قرن في ظل حكم النظام السوري؛ تجعلنا نقول: إن اللحظة الراهنة نتيجة طبيعية ومنطقية ومتوقّعة، بل إن مزيدًا من الخراب والتفسخ ينتظران سورية والسوريين. لكن هذا الرأي لا يمنعنا -بالضرورة- من القول بوجود قوى وشخصيات “معارضة” أسهمت بهذا القدر أو ذاك في إنتاج الكارثة. إلا أنه يُفترض أخذ ذلك في سياق اللوحة العامة، والتحليل الموضوعي للمعطيات الواقعية والتاريخية الكبرى.

سؤال الذات والمستقبل: أين أنا؟

قبل نحو خمس سنوات، دفعتني قراءتي السياسية السابقة إلى إدارة الظهر -فعليًا- للمعارضة السياسية السورية بتشكيلاتها وتوجهاتها كافة، والاعتذار من جميع القنوات الإعلامية، والابتعاد من اللقاءات بالدبلوماسيين العرب والأجانب، خصوصًا في ظل الفهم المبتذل السائد للعمل السياسي الذي اختُزل إلى لقاءات إعلامية، ولهاث وراء السفارات.

في ظل اللحظة الراهنة، هل هناك ما يمكن فعله لمصلحة سورية والسوريين؟ هل يمكن إيقاف مسار التفسخ؟ هل بقي لنا دور نحن -السوريين- أصلًا؟. إذا حوّلت هذه الأسئلة إلى سؤال خاصٍّ؛ من أجل تحديد أكثر: أين أنا؟، وما دوري؟، وهل أستطيع أن أصنع فرقًا؟. صحيح أنه سؤال ذاتي، لكنه سؤال أطمح أن تكون إجابته مهمة للجميع، أو -في الأحرى- أرغب أن تتحول إجابتي الشخصية عنه إلى إجابة عامة. وهذا حق طبيعي لكل فرد.

في اختصار، وبكلمات واضحة ودقيقة؛ أجدني في المعارضة الجديدة الآخذة في التشكّل، أو التي ستتشكل في المستقبل بالضرورة، في مواجهة “النظام السوري الجديد” الآخذ في التشكل، أو الذي سيتشكل قريبًا، على أيدي القوى الدولية والإقليمية، وبقايا “النظام السوري” القديم، والفصائل والجماعات المسلحة، من كل لون.

هذا التحديد ليس جديدًا بالنسبة إليّ؛ فدلائله موجودة، على المستوى الشخصي، منذ أكثر من خمس سنوات لمن يفتح عينيه. لكنني أرغب في تعميم هذا التحديد. فإن حصل ذلك، أرجّح أننا سنكون أمام حال سورية مغايرة نسبيًا، يمكن أن تسهم جزئيًا في تخفيف كوارث أخرى مقبلة، متوقعة.

أهدف من هذا الكلام إلى القول: منطقيًا، سيكون “النظام السوري الجديد” المرتقب تكوّنُه، عاجلًا أم آجلًا، نظامًا هشًا ومرتهنًا وفاسدًا وعاجزًا على المستويات كافة، واستبداديًا في الجوهر على الرغم من شكلانيته الديمقراطية؛ وعلى السوريين أن يعدوا العدّة لمعارضته ومقاومته فكريًا وسياسيًا وإعلاميًا ومدنيًا، إن أرادوا لآمالهم ومصالحهم وتضحياتهم ألا تضيع. لذلك؛ كان رأيي، وما يزال، تأكيد أهميّة ذهاب السوريين نحو تنظيم أنفسهم في قوى ثقافية وسياسية ومدنية جديدة، تنسجم مع قيم الحرية والكرامة، ومع رؤية جديدة لسورية والوطنية السورية. وهذا لا بدّ من أن يمر عبر إدارة الظهر لنظام الحكم القائم، وللجماعات العصبوية، الطائفية والعرقية، وللقوى والأحزاب الأيديولوجية، الإسلامية واليسارية والقومية. وحينذاك؛ يمكن أن نتفاءل ونتوقع ولادة تدريجية لسورية أخرى.

  • Social Links:

Leave a Reply