ساري حنفي – الجزيرة نت:
أستاذ علم الاجتماع في الجامعة الأمريكية ببيروت
أثارت التصريحات التي أدلى بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن وجود “أزمة في الإسلام” في كل مكان، ودعمه لعرض رسوم كاريكاتيرية مسيئة للنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- ردود فعل كثيرة في فرنسا والعالم الإسلامي. هل هناك فعلا أزمة في دين واحد أم أن هناك أزمة علمانية فرنسية متطرفة ومغرورة وإقصائية في ظل كونية مفهوم حرية الرأي؟ وهل يمكن ممارسة هذه الحرية بدون المسؤولية الاجتماعية (بهذه الحالة باتجاه دين لأقلية في فرنسا)؟.
لوضع الأمور في نصابها: يتمتع الفرنسيون من أصول مسلمة والمهاجرون منذ أمد طويل بحريات دينية لا بأس بها ومواطنة يصعب أن نتصورها في كثير من الدول العربية، ولا أعتقد أن الموجة الحالية من الإسلاموفوبيا والإرهاب القادم من جهاديين أو يمين متطرف قد يغير كثيرا من هذا الوضع، كما أن عمل الشاب الإرهابي (المدان بكل معنى الكلمة) قاتل أستاذ التاريخ صمويل باتي هو عمل نادر للغاية، وندرته توازي ندرة الأعمال التي يقوم بها اليمين المتطرف ضد المهاجرين في فرنسا أو الجالية المسلمة.
سأتناول هنا فقط الشعبوية السائدة في فرنسا منذ عدة سنوات، والتي تتغذى على خطاب يتعلق بالنزعة الجمهورية المتطرفة، وتحول العلمانية إلى دين في مواجهة الأديان الضعيفة في فرنسا (كالإسلام)، وأخيرا بالعداء للمهاجرين. وإذا كان ماكرون قد تمكن من الوصول إلى الإليزيه في غفلة من الفرنسيين، مُستغلا بلوغ المجتمع السياسي الفرنسي لحظة غير مسبوقة من التشظي قبيل الانتخابات الرئاسية الأخيرة، فإن إعادة انتخابه تتطلب منه جرعة أكبر من الشعبوية التي تزداد خطورتها يوما بعد يوم كونها -حسب إيمانويل تود في كتابه حول «الصراع الطبقي» في القرن 21- في تحالف بين طبقات اجتماعية عليا ماكرونية مع شرائح هوياتية محافظة ذات انغلاق ديني لوبونية (الجبهة الوطنية التي تتزعمها ماري لوبن).
هذا الخليط الشبيه بمنتخبي ترامب بالولايات المتحدة يختلف عن النموذج الأميركي بمعاداة شريحة من هؤلاء الفرنسيين من أصول مسلمة، التي ترفض الانصهار في فرنسا. و”الانصهار” (assimilation) يختلف كليا عن “الاندماج” (integration)، فعلى عكس ما يوحي له ماكرون، تدل الكثير من الدلائل على اندماج رائع لهؤلاء الفرنسيين والمهاجرين في المجتمع الفرنسي، ويعني الاندماج الانخراط الإيجابي لهؤلاء بالحياة الاجتماعية والاقتصادية، وبحد أدنى السياسية، مع المحافظة على الحريات الفردية لهم في المزج الخلاق بين العادات والتقاليد الفرنسية وتلك الباقية من بلاد الأصل. فهم يعيشون التعددية الثقافية في بلد يجنح سياسيوه الشعبيون إلى رفضها والتمسك بالنزعة الجمهورية المتطرفة، التي لم تستوعب أن فرنسا تغيرت بتعدد الإثنيات والديانات التي يحملها هؤلاء، وتغيرت أيضا بتأثير العولمة عليها مثلها مثل أغلب البلدان في العالم. وأن مفاهيمها لليبرالية والعلمانية لم تعد تصلح بشكلها الصلب المغرور مع عصر التعددية الثقافية والأخلاقية والقانونية، التي تجتاح حداثتنا المتأخرة، هذه التعددية التي تشكل أساسا لمقاومة نزعات الشعبوية والاستبدادية السائدة في كثير من الدول في الشمال والجنوب.
خطاب شعبوي
هناك 3 إشكالات في خطاب ماكرون في الأسبوع الماضي:
الأول: هو اعتبار أن الدين الإسلامي في أزمة في كافة بقاع العالم، وعلى الرغم أن من حق أي إنسان أن ينتقد أي دين أو عقيدة كما يشاء؛ ولكن لا أعتقد أن مثل هذه المقولة لها معنى فكري أو معرفي عندما يقولها رئيس جمهورية في بلد أكثريته مسيحية، وفي السنة التي يحضر فيها للانتخابات البلدية الجزئية. فالكثير من المحللين السياسيين يؤكدون أنه يعول على انتخابه من خلال جر الأصوات اليمينية المتطرفة.
الثاني: اعتباره نشر صور مسيئة للرموز الدينية مثل النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- هو شيء طبيعي في سياق حرية التعبير، واعتباره أن ذلك ليس فقط حقا ولكنه واجب، كما بدا لي في برنامج تلفزيوني فرنسي قبل سنتين عندما طلب المذيع من فنان فرنسي من أصل عربي أن يسب النبي، وعندما فعلها قام الجمهور الهائج بالتصفيق: وكأنه طقس العبور للحداثة ذات العلمانية المغرورة. وهذا شعبوي وعنصري في بلد ربط دائما مفهوم الحرية بالمسؤولية الاجتماعية، وحساسيات الأقليات، وحتى في سياسة الدولة الخارجية.
ففي فرنسا من يناقش عدد اليهود الذين ماتوا في المحرقة يعد مرتكبا لجريمة، تدخل صاحبها السجن، ويمنع أيضا الدعوة لمقاطعة البضائع الإسرائيلية. نعم لم تكن يوما من الأيام حرية التعبير مطلقة في ظل الديمقراطيات الراسخة. لقد نظر ببراعة الفيلسوف اللبناني ناصيف نصار للمسؤولية الاجتماعية باعتبارها الوجه الآخر للحرية، وطورت الكثير من البلدان قوانين ضد “التحريض” (incitement). وكيف لا يكون اعتبار نشر مثل هذه الصور الرخيصة في ظل تزايد العنصرية والتمييز ضد المسلمين إلا تحريضا على هذه الأقلية؟
على عكس بيان الخارجية الفرنسية المدعية أن “المتطرفين” هم من ينتقدون الموقف الفرنسي ومقاطعة البضائع الفرنسية، لقد قامت جهات رسمية دينية إسلامية (الأزهر، هيئة كبار العلماء في السعودية، وزراء الأوقاف في كثير من الدول الإسلامية) بإدانة الموقف الفرنسي بمساسه الرخيص برمز ديني فقط للإساءة. وطبعا كالمعتاد تحرك بعض الأصوات العلمانية المتطرفة العربية للاستهزاء بهذه المواقف، واعتبار أنه كان على هذه المؤسسات إدانة الإمبريالية الأميركية والتحرك لقضايا أكثر مادية، وهذا يدل أن الاستخفاف بالرموز الدينية ليس حكرا على فرنسا؛ ولكن على نخب عربية لم تفهم أن العلمانية هي صيرورة محلية وليست قالبا فرنسيا للتقليد.
اعلان
إذا كانت هذه العلمانية الأخلاقية كونية في قضية الفصل أو التمايز بمعنى حماية الدين من سلطة الدولة وحماية الدولة من هيمنة الإكليروس الديني، فليس هناك أي دليل سوسيولوجي أن هذه العلمنة ترتبط بنقصان التدين ولا بمنع المتدينين من ممارسة السياسة من خلال إضفاء الأخلاق عليها، كما هو الحال في كثير من بلدان العالم بما في ذلك العالم الإسلامي.
الثالث: هجومه ودعوته لمنع أي حركة أو حزب ينتمي إلى ما يسميه الإسلام السياسي في فرنسا، وهو كما كل أنظمة الثورات المضادة كالإمارات ومصر، حيث إن أي معارضة منظمة ضد سلطة استبدادية أو شعبوية تعدّ معادية للعلمانية. ولا عجب في أن ماكرون حليف انتهازي لهاتين الدولتين لأسباب أهمها اقتصادية (خاصة بيع الأسلحة)، وسأتناول نقدي لتلك النقطة لاحقا.
أزمة العلمانية الفرنسية
سأركز هنا بالتحديد على أزمة اللايكية (العلمانية) الفرنسية، وأوضح هنا أنني لست ضد الدولة العلمانية أو ما يحب أن يسميها بعض المفكرين الإسلاميين بالدولة المدنية أو ما سماها عبد الوهاب المسيري بالعلمانية الجزئية أو العلمانية الأخلاقية أو الإنسانية، بمعنى أنها دولة تفصل فيها مؤسسات الدولة عن المؤسسات الدينية في ظل مفهوم المواطنة للجميع، بغض النظر إن كانوا يتبعون لدين ما أو لا دينيين (أي تبني سياسات المواطنة في الدولة الوطنية، وليس فقط سياسات لصالح طائفة المؤمنين)، وفعلا لقد أصبحت الدولة العلمانية هي السائدة في العالم بما فيها العالم الإسلامي، وحتى في دول يحكمها حزب ذو توجهات إسلامية (ضمن تحالفات أخرى بالطبع) مثل تركيا، ماليزيا، تونس أو المغرب. وإذا كانت هذه العلمانية الأخلاقية كونية في قضية الفصل أو التمايز بمعنى حماية الدين من سلطة الدولة وحماية الدولة من هيمنة الإكليروس الديني، فليس هناك أي دليل سوسيولوجي أن هذه العلمنة ترتبط بنقصان التدين ولا بمنع المتدينين من ممارسة السياسة من خلال إضفاء الأخلاق عليها، كما هو الحال في كثير من بلدان العالم بما في ذلك العالم الإسلامي.
سأختصر بنية الأزمة المفاهيمية لللايكية الفرنسية بأربع نقاط:
أولا: أتفق مع الأنثروبولوجي الأميركي طلال أسد والفيلسوفة الفرنسية سيسيل لابورد، أن العلمانية خاصة في فرنسا قد فهمت الدين على الطريقة المسيحية، وبالتحديد اختزاله على الاعتقاد الفردي وحرية الضمير، وخاصة على الطريقة البروتستانتية، ومكانه بالتالي الفضاءات الخاصة كالبيت والكنيسة، هكذا تصبح الطقوس والمعاملات بين البشر مجرد استعراضات دعائية للدين. فمثلا سوف يؤخذ موقف من الحجاب الإسلامي في المدارس والمؤسسات العامة على أنه دعوة للتدين، وهذا ممنوع في العلمانية. ويتحول بعض دعاة اليسار الفرنسي العلمانوي إلى “فقهاء” ليثبتوا أن الحجاب ليس من الإسلام، منتهكين بذلك أبسط الحريات في أن الفرد من يحدد معنى سلوكه الاجتماعي، أو أن الحجاب هو رمز “لعبودية المرأة” مسقطين معنى ثقافيا منبثقا من الثقافة الأوروبية على مجتمعات أخرى، وهذا نسميه في العلوم الاجتماعية بالمركزية الإثنية.
إن منع الحجاب في المدارس والمؤسسات العامة هو انتهاك صريح لحرية ممارسة الأديان والمسوغ (شبه الوحيد) هو الاشمئزاز عند الفرنسيين ذوي نزعة “الثقافة الواحدة” (cultural majoritism) من الحجاب. وقد أدانت الفيلسوفة الأميركية مارثا نوسباوم في كتابها الرائع “الاختباء من الإنسانية: الاشمئزاز، والخزي، والقانون” (Hiding from humanity disgust, shame, and the law) أي قوننة تنبني على الاشمئزاز من تصرفات الآخرين، وهذا حكم عام فيجب ألا تبنى الأحكام الأخلاقية أو القانونية لمنع أفعال ما على الاشمئزاز، فمن له مسوغات ضد المثلية، مثلا، عليه استحضارها، لا أن يكتفي بالدعوة لقوننة ضد هذه الفئة؛ بسبب الاشمئزاز من فعل المثلية. يبدو هذا التطرف اللاييكي الفرنسي شاذا مقارنة مع العلمانية السمحة الأوروبية، حيث تلبس بعض الشرطيات النرويجيات المسلمات الحجاب، ويلبس بعض رجال الشرطة السيخ الشباب التربان.
ثانيا: العلمانية تحمل قيما مدنية عظيمة وكذلك الأديان؛ لكن هذه القيم، حتى الخيرة منها، تدخل في تنافس وتصارع، وبعضها يصبح جزءا من الثقافة بحيث يصعب تمييز ما هو فعلا من بقايا تعاليم دينية أم من مصادر قيمية أخرى، على عكس مطلب جون رولز، لا يمكن مطالبة المواطنين بتحمل مسؤولية أخلاقية لتبرير قناعاتهم السياسية بشكل مستقل عن معتقداتهم الدينية. يعترف يورغن هابرماس بمكانة الدين في المجال العام؛ لكنه يحصرها فقط في المداولات غير الرسمية، ويستبعدها من المجال المؤسسي، ويرى بأنه يجب على المجتمعات الدينية الانخراط في التفكير الذاتي التأملي من أجل تطوير موقف معرفي تجاه ادعاءات الأديان الأخرى ووجهات النظر الأخرى تجاه المعرفة العلمانية، وخاصة العلمية، وتجاه أولوية التبريرات العلمانية في الساحة السياسية؛ لكن هل من الممكن بالفعل فصل الأسباب “الدينية” عن “العلمانية”؟
إن إحساس الفرد داخل المجتمع بالاحتقار، وعدم الاعتراف يدفعه إلى ارتكاب سلوكيات عنيفة يرسل من خلالها رسائل للمطالبة بالانتباه له والاعتراف به. إن هناك شعور بدفع من هم ليسوا من ذوي نزعة الثقافة الواحدة من اعترافهم بالتعددية الإثنية والثقافية في فرنسا، وتهميشهم اجتماعيا واقتصاديا من خلال لا الإسلاموفوبيا فقط
أشار علماء مثل دارين والهوف الذين درسوا مناقشة زواج المثليين في الولايات المتحدة الأميركية إلى أن اللاهوت والسياسة وهوية المجتمع الديني كلها ترتبط بعضها ببعض، حيث يقوم الزعماء الدينيون والمواطنون بإعادة صياغة لاهوتهم في سياقات سياسية جديدة. إذ لا يمكن منع الحجج الدينية من المجال العام والاكتفاء بالحجج الثقافية الأخرى؛ بل ينبغي أن يحكم عليها إن كانت حجج استبدادية أم لا، كما فعلت الفيلسوفة الإيرلندية، ميف كوك، وذلك بدعوتها أن يؤخذ عاملَي “السياق” و”التاريخ” في الحجج، إذ يكون للقراءة التأويلية للكتب المقدسة كما للفلسفة الأخلاقية الدور الرئيس لتأمين عدم استبدادية الحجج والتسويغات، إذن المشكلة ليست بالضرورة بالحجة الدينية، فقد يتحوّل الطرح العلماني الإقصائي إلى عقيدة شمولية أخرى، تتصرّف كما لو أنها تلم بكل قضايا الإنسان -وإن على نحو سلبي من خلال اللامبالاة- وهو ما يحولها إلى مرجعية ملزمة بأوامر تكاد تتصف بالإطلاقية نفسها التي تتميز بها الأوامر العقائدية الديانية.
وكما أن هناك دعوة للاعتراف بوجود اللادينيين في المجتمع ومنظومتهم الأخلاقية المدنية، فالمطلوب الاعتراف بمن يحمل قيما لها جذور دينية، وهذا ما أكد عليه الفيلسوف الألماني أكسيل هونيت، في أهمية الاعتراف بالتعددية في المجتمع بأبعادها الثلاثة الحب والحق والتضامن: أن نحب بعضنا البعض بحيث يزرع الحب بين أفراد الجماعة الثقة في النفس، وبالتالي الثقة في الغير، فيشعر الكل بالأمن العاطفي، والحق يعني الاعتراف القانوني، ويضمن حرية الأفراد واستقلالهم الذاتي، ويجعلهم يشعرون باحترام الذوات الأخرى لهم. وأخيرا التضامن الاجتماعي، وأساسه التقدير من الآخرين بحسب الأعمال المُنجزة والأدوار؛ أي تلك العلاقة التي تنجدل فيها الذوات بالمسار الشخصي للآخرين، بحيث تقوم روابط التقدير الاجتماعي.
إن إحساس الفرد داخل المجتمع بالاحتقار، وعدم الاعتراف يدفعه إلى ارتكاب سلوكيات عنيفة يرسل من خلالها رسائل للمطالبة بالانتباه له والاعتراف به. إن هناك شعور بدفع من هم ليسوا من ذوي نزعة الثقافة الواحدة من اعترافهم بالتعددية الإثنية والثقافية في فرنسا، وتهميشهم اجتماعيا واقتصاديا من خلال لا الإسلاموفوبيا فقط؛ لكن بسياسات تمييزية وإقصائية مؤسساتية، على الأقل لأولئك الذين يرفضون الانصهار. وليس من نافلة القول أن الأحزاب الفرنسية تختار وزيرا أو نوابا من أصول عربية أو إسلامية لأشخاص قد أثبتوا لا انصهارهم في الثقافة الفرنسية فقط؛ بل أيضا ممن هم في إنكار للتعددية الثقافية، وبالتالي هم الأشد بأسا على الجالية المسلمة في فرنسا من غيرهم.
ثالثا: فصل السياسة عن الدين ليس له معنى إلا بالمعنى التقني لكلمة السياسة، فتسيس الدين والدور الأخلاقي الذي يؤديه الدين سلبا أم إيجابا أصبح واضحا في كثير من الدول العلمانية، وتأثير الكنيسة على التصويت أصبح أمرا سائدا في كثير من الدول الديمقراطية، كما تؤثر على اليسار أو اليمين. فنفس مريدي كنيسة “العنصرة” (Pentecostal) في البرازيل، الذين صوتوا للزعيم اليساري لويس لولا دا سيلفا (وكان لديهم 100 نائب في برلمان 2016) قد صوتوا هذه السنة لجايير بولسونارو. إذ لم يعد مقبولا التركيز فقط على الدور السلبي للتدين سياسيا واجتماعيا؛ بسبب دوره في بعث العنف والطائفية والخنوع الاجتماعي والسياسي، فهذا التدين نفسه في سياقات أخرى يمكن أن يؤدي دورا في التقدم والتضامن الاجتماعيين ومقاومة الكولونيالية والاستبداد.
لقد تحولت بعض الحركات الإحيائية إلى إسلامية جديدة؛ لأن السياسة قد روضت أيديولوجيتها الصلبة، وعملت السلطة على تفكيكها. إن تفريق هؤلاء الفاعلين السياسيين الدينيين الجدد بين قدسية رسالته الدينية التي يؤمن بها، ودناسة العمل السياسي الذي يتطلب بشكل أساسي الحكمة في التدبير وتقنياتها، وقد تم ذلك بواسطة فصل الدعوي عن السياسي. وهذه نقطة مهمة فالدعوي (والفقيه) سيقنع الناس بحرمة الخمور؛ لكن السياسي والقانوني قد لا يمنع بيعها، لأنه من حق المسيحي وغير المتدين أن يتناولها. وهذا الفصل ليس أوتوماتيكيا، فقد نبه خليل العناني إلى المعيقات الفكرية والبنيوية لأزمة الإخوان المسلمين في مصر وصعوبة الفصل/التمييز بين الدعوي والسياسي. وعلى ضوء كل ما سبق، فإن استخدام مصطلح “الإسلام السياسي” يفقد معناه؛ لأن فضفاضيته لا تفرق بين السلفية الوهابية، والسلفية المحافظة والإحيائية والإسلامية الجديدة.
تقوم العلمانية الإقصائية الفرنسية بالتركيز على السياسات السلبية، وبدلا من تسهيل وجود تجمع تمثيلي لجمعيات ومراكز الجالية المسلمة (كما هو الحال لدى الجالية اليهودية)، تثبط الدول أي محاولات تمثيلية؛ لأنها لا ترى بأغلبية الممثلين بأنهم من ينادون بالانصهار (طبعا هذا إضافة للشرذمة المرضية للجالية المسلمة بسبب ولاءات لأجهزة أمنية ودينية في بلدان خليجية ومغاربية)، وهي بالتالي تحولت إلى حماية لديانة الأكثرية ضد ديانة الأقليات عندما تتجرأ هذه الديانة أن تكون في الفضاء العام
هذا التنميط التعميمي لا يعترف بأن هناك فكرا إسلاميا سياسيا متعددا ومتنوعا، منه الوسطي ومنه المتطرف، يحمله أفراد أو حركات إسلامية أو إسلام رسمي إلى حد سواء. وغالبا ما استُخدم تصنيف الإسلام السياسي باعتباره قدحا بمجموعات حركية معينة، والإيحاء أن اتجاهها واحد يتألف من قارئي سيد قطب من الإخوان المسلمين إلى القاعدة. وغالبا ما يستخدم هذا النعت حاملو الإسلام الرسمي الذين يعتبرون إسلامهم ليس سياسيا؛ ففي الخليج مثلا يتم وصم أي معارض أنه إخواني (وهكذا تمت استباحة دم خاشقجي، حسب بعض التصريحات السياسية والتغريدات التويترية الشعبية في السعودية). ولذا يصبح الإخواني صنوا للاحتجاجي. إذن هناك ببساطة انزلاق بالمعنى فبمناداتهم بعدم شرعية “الإسلام السياسي” هم في الحقيقة يدعون لعدم شرعية الاحتجاج. وعليه، ينبغي تحيين توصيف المخيال السياسي للحركات الإسلامية ليأخذ بعين الاعتبار صيرورة بعض الحركات السياسية من الإسلامية الجديدة وخاصة في تونس والمغرب. وبأي حال لا يوجد حل أمني مع أي طرف محافظ. وفقط يكون ذلك بالحوار والعودة إلى دولة القانون، وعلى ماكرون البحث عن مسببات تطرف الجهاديين وعنفهم المفرط في غياب الفضاءات السياسية عند حلفائه الأعزاء كالسيسي.
رابعا: إذا كانت فكرة حيادية الدولة ضرورية لاستقلالية المؤسسات الدينية، فهي لا تعني عدم إدارتها للتعددية الدينية، وخاصة في مجتمع متعدد الأعراق والثقافات. سوسيولوجيا، إذا ما نظرنا إلى مجموعة واسعة من النظم السياسية -من الدول الاستبدادية الأكثر قمعا إلى الأنظمة الديمقراطية الليبرالية- نرى أنها كلها تتجه نحو إدارة التعدية الدينية؛ إدارة الدولة، لذلك يمكن أن تكون إيجابية من خلال نظرتها الإيجابية للبعد الأخلاقي للدين (سياسات شاملة، ترقية، دمج/استيعاب، عولمة، سياسات الاعتراف) أو سياسات سلبية (سياسات حصر، تخفيض مستوى المظاهر الدينية، لا مبالاة ثقافية، سياسة عدم اعتراف/إساءة اعتراف).
مع كل أسف تقوم العلمانية الإقصائية الفرنسية بالتركيز على السياسات السلبية، وبدلا من تسهيل وجود تجمع تمثيلي لجمعيات ومراكز الجالية المسلمة (كما هو الحال لدى الجالية اليهودية)، تثبط الدول أي محاولات تمثيلية؛ لأنها لا ترى بأغلبية الممثلين بأنهم من ينادون بالانصهار (طبعا هذا إضافة للشرذمة المرضية للجالية المسلمة بسبب ولاءات لأجهزة أمنية ودينية في بلدان خليجية ومغاربية)، وهي بالتالي تحولت إلى حماية لديانة الأكثرية ضد ديانة الأقليات عندما تتجرأ هذه الديانة أن تكون في الفضاء العام. لقد أشار إيمانويل تود في كتابة “من هو شارلي؟”، بأن الإسلاموفوبيا في فرنسا تخفي النزعة الاجتماعية المحافظة للكاثوليكية. بقية أطراف فرنسا، مثل غرب فرنسا أو مدن مثل ليون، وفية للأساس الكاثوليكي القديم، وبالتالي ففي حين أن هؤلاء الأشخاص لم يعودوا يمارسون الكاثوليكية، فإنهم ما زالوا مملوئين بروحها. طبعا لقد بالغ تود في تركيزه فقط على الكاثوليكية الكلاسيكية. وهذا يجب ألا يخفي عنصرية بعض العلمانيين بكرههم للتدين الإسلامي في الفضاء العام.
أخيرا، أن نعيش اليوم في كرنفال البلاهة الذي يضعنا به ماكرون (أو التحالف المكروني اللوبيني) والموتورين البافلوفيين من الطرف الآخر، الذين أرجعونا إلى الوراء إلى ما قبل الربيع العربي. هذا الربيع الذي وضع الدولة المدنية/العلمانية الأخلاقية على الأجندة الشعبية (لا النخبوية فقط) العربية. وفي صيرورة الفعل ورد الفعل تقوم اليوم فرنسا بحل جمعيات إسلامية بطريقة لا تمت بصلة لمنطق دولة القانون، ولا يستغرب على حق فرانسوا بورغا بأن يكون الإرهاب اليميني القادم موجها ضد الجوامع في فرنسا.
Social Links: