إبراهيم الجبين – العرب اللندنية:
في هذه اللحظات يجري تحوّل هائل في الولايات المتحدة، ليس انتقالا للسلطة بين رئيس جمهوري وآخر ديمقراطي كما جرت العادة، بل تحوّل من نوع آخر. هي الديمقراطية الأكبر في العالم، ومسرحها الانتخابي يراه ويراقبه مليارات البشر، للإلهام والتعلّم، وإذا به اليوم، ساحة تراشق بالطعون والاتهامات بالتزوير والاحتيال.
ما الذي تآكل؟ إنها الديمقراطية ذاتها. الآلة والفكرة التي حان أوان تجديدها.
آمنّا أن “دودُ الخلّ منه وفيه”، كما يقول المثل العربي الشهير، فالخلُّ يبقى طورا نبيذيا قد يمكن التعايش معه، وفيه حلاوة ومرارة للمتذوقين، إلا أن الحالات الجديدة اليوم، مستعدة للعيش حتى في الخردل، رغم كل قسوته واستحالة التنفس وسط رائحته النفاذة الحرّاقة.
أولئك الذين باستطاعتهم تحمّل كل الظروف القاسية من أجل أن يعبّروا عن نفاقهم الفكري والاجتماعي والثقافي، سواء للمتطرفين من كلّ المذاهب والملل والنحل، أو للسلطات أو لأيّ سيّد يجثون على ركبهم أمامه، لا ينبغي أن يمرّ يوم دون الإشارة إليهم أو التنبيه منهم، فهم صنّاع التشوّه الذي تعاني منه المجتمعات، وهم نخب مزوّرة تكره ذاتها وتكره الناس. فلو كانت أنفسهم عزيزة عليهم لما هانوا. ورحم الله بدوي الجبل الشاعر السوري الكبير الذي قال “لا يهين الشعوب إلا رضاها، رضيَ الناسُ بالهوان فهانوا”.
يتسلل دود الديمقراطية التي بدأنا بها، فيقولون لك إن الديمقراطية التي تناسبنا نحن غير تلك التي تناسب الأوروبيين والأميركيين، نحن ديمقراطيتنا توافقية، تطبخ في الكواليس، ليصبح الوضع في العالم العربي مثل العراق “الجديد” ولبنان “الطائف”، ويا للمثالين المحزنين المدمّرين من فرط الديمقراطية.
دود الخردل الديمقراطي يبشّر بالمحاصصات والتكتل العرقي الطائفي والكراهيات المبرمجة، بينما يسجد للنموذج الغربي الذي يخشى من تطبيقه في بلاد الشرق.
هناك جانب من الهيبة ينطوي عليه الشعور المتحضّر بالحرية في العالم المتقدّم، إنها هيبة الآخر التي يتدرّب عليها المرء منذ نعومة أظفاره، ولذلك يحترم الخيارات الديمقراطية ونتائج الصناديق، دون خشية من الآخر، دون تشكيك به من أنه قد ينقضّ عليه ويفترسه حين يفوز.
المساواة أعظم من صنم الديمقراطية الذي يصنعونه من تمورهم ثم يأكلونه حين يجوعون. مساواة في الحقوق والواجبات، وليس أهم تلك الحقوق هو الحق بالسياسة، بل هو قد يكون آخر هموم الناس، بل المساواة في العيش والتعليم والعمل. وهذه جوهر الحياة لا الممارسة الحزبية المنحصرة في نسبة ضئيلة من الناس.
أما أهل الشرق، فلديهم بدل الحيلة ألف من الحيل، ليصلوا إلى تلك المساواة متجاوزين كهوف الظلام والكراهية والتشدّد وينابيع النفاق الآسنة. ومن جديد صدق البدويُّ حين قال “حَسِبوا ضِحكة الشعوب ارتياحا، واللّظى حينَ يضحكُ البركانُ”.
Social Links: