حوار مع الفيلسوف الماركسي دانيال بنسعيد حول راهنية الماركسية – ترجمة أحمد رباص
– في التسعينيات، انتشر رأي على نطاق واسع، وفقا له لم يعد التناقض بين العمل ورأس المال هو الصراع الرئيسي في المجتمعات المعاصرة. هل أنت موافق؟
+ هناك عدة طرق للجواب على هذا السؤال. الرأي الواسع الانتشار غالبا ما يستمد حججه من تطور سوسيولوجي، و من معاينة تراجع نسبي، في البلدان المتقدمة، من حجم البروليتاريا الصناعية ضمن القوى العاملة. هذا التراجع حقيقي (في فرنسا تم الانتقال من 33٪ إلى 25٪) لكن لا يزال هناك ربع من السكان نشيطا؛ وعلى المستوى الدولي هناك بالأحرى تطور شامل للبروليتاريا الحضرية.
يتغذى غالبا الإحساس بسقوط البروليتاريا، أواختفائها في أسوإ الأحوال، من تعريف ضيق، بل عمالي، للطبقات الاجتماعية انطلاقا من مقولات سوسيولوجية تصنيفية. إلا أنه، عند ماركس، لايتعلق الأمر بسوسيولوجيا وضعية للطبقات ولكن بعلاقة اجتماعية دينامية، علما بأن الطبقات لا وجود لها إ لا في صراعها. إذا نظرنا إلى العلاقة بملكية وسائل الإنتاج، إلى شكل و مستوى الدخل المأجور، إلى المكانة (المحتلة) في التقسيم الاجتماعي للعمل، وإلى الغالبية العظمى من الأجراء في القطاع الثالث (التجارة، الخدمات، التأمينات، الخ…) (التي تتكون أكثر فأكثر من النساء)، وهم بروليتاريون بالمعنى الأولي الذي أعطاه ماركس لهذه الكلمة سنة 1848، نجد أن البروليتاريا الباريسية التي تناولها (كتاب) “صراع الطبقات في فرنسا” لم تكن صناعية، ولكنها بالأحرى قريبة من العمل الحرفي في الورشات.
لذلك نحن غالبا ما نخلط إضعاف التنظيم والوعي الطبقي (كنتيجة للهزائم السياسية والاجتماعية) بأفول لا رجعة فيه للصراع الطبقي. بعد هذا الكلام، ينبغي إيلاء أكبر قدر من الاهتمام للعقبات التي توجد من الآن أمام هذا التنظيم وهذا الوعي: خصخصة وفردنة الحياة الاجتماعية، مرونةالشغل، فردنة زمن العمل وأشكال المكافأة، ضغط البطالة والهشاشة، اللامركزية الصناعية والتغييرات (التي تطال) تنظيم الإنتاج …
ومع ذلك تبقى العلاقة رأس المال / العمل مركزية في المجتمعات المعاصرة. من ناحية أخرى، أنا لن أستخدم مصطلح “الصراع الرئيسي” لأنه يميل إلى وضع التناقضات الأخرى في مكانة “ثانوية”. هناك بالأحرى سلسلة من التناقضات التي لا تتعلق بنفس الزمانية (من نفس الحقبة التاريخية)، ولكنها متشابكة بشكل وثيق (أو “محددة تضافريا”، إذا أردنا استعمال لغة ألثوسير، بموجب منطق هيمنة رأس المال): علاقات الجندر (أو الجنس)، العلاقة بين الطبيعة والمجتمع البشري، العلاقات بين الفردي والجماعي. المشكل الحقيقي هو الربط بين هذه التناقضات.
لماذا تلتقي تلقائيا النقابات، الحركات النسائية، الجمعيات البيئية، الحركات الثقافية، في المنتديات الاجتماعية؟ السر في ذلك أن الموحد الكبير بين هذه التناقضات المختلفة هو رأس المال نفسه، والسلعنة المعممة التي تتخلل مجموع العلاقات الاجتماعية. ولكن هذا التقارب يجب أن يتم باحترام خصوصية مختلف الحركات.
علاوة على ذلك، هناك بعد للصراع الإيديولوجي في هذه المسألة. إذا قبلنا فكرة علماء الاجتماع مثل بورديو، التي بحسبها لا تدرك العلاقات الاجتماعية فقط في الحالة الطبيعية، ولكن تبنى من قبل التمثلات، فينبغي كذلك على هذه التمثلات أن تكون ذات أساس حقيقي. تمثل الاجتماعي اعتمادا على مصطلح الطبقات يستند الى حجج قوية، سواء كانت نظرية أوعملية. من المستغرب أيضا أن نتساءل غالبا عن وجود البروليتاريا من عدمه ، ولكن لا نتساءل أبدا عن وجود البرجوازية أو الباترونا: يكفي فعلا دراسة توزيع الأرباح وعائدات الوضعية للتحقق من وجودهما!
التركيز على راهنية صراع الطبقات ذو رهان واضح: رهان بناء التضامنات بعيدا عن الاختلافات العرقية، القومية، الدينية، إلخ.. أولئك الذين لا يريدون سماع الحديث عن صراع الطبقات سيكونون في المقابل أمام صراع القبائل والإثنيات، الحروب الدينية، النزاعات بين الجماعات. وسوف يمثل ذلك تراجعا غير عاد، هو بالفعل في طور التفعيل في عالم اليوم بكل أسف. إن اضفاء الطابع العالمي على صراع الطبقات هو بحق الأساس المادي (وليس المعنوي بشكل خالص) للنزعة العالمية باعتبارها ردا من المضطهدين على العولمة التجارية.
– كيف تتصور الحركات الاشتراكية الواسعة الانتشار حاليا وحقيقة كونها، بخلاف الأحزاب السياسية، تبدو أكثر قدرة حتى على تطوير المعارك ضد الرأسمالية؟ ما رأيك في مستقبل أحزاب بهذا الشكل، وكعناصر لبناء منظمة دولية؟
+ يجب أن نتفق على ما تعنيه هذه “الحركات الاشتراكية الواسعة الانتشار “. نحن على الأرجح في البداية الأولى من إعادة بناء نظرية وعملية للحركات التحررية، بعد قرن من المآسي والهزائم الرهيبة. إلى حد ما، يكون لدينا أحيانا الانطباع بالبدء مجددا من نقطة الصفر. إن حزبا مثل حزب العمال في البرازيل، الذي ظهر في أوائل الثمانينيات عند لحظة سقوط الدكتاتورية العسكرية، والناتج عن تصنيع سريع في سنوات السبعينيات، أمكن له أن يبدو مثل الاشتراكية الديمقراطية الألمانية الكبيرة قبل حرب 1914: كان يتمتع بطابع جماهيري وبتعددية إيديولوجية مقارنة.
لكن نحن في بداية القرن الحادي والعشرين، والقرن العشرون كان موجودا، ولن يتم محوه. وهكذا شهد حزب العمال في أقل من ربع قرن عملية برقطة متسارعة وتم الزج به في لعبة التناقضات المعاصرة، وعلاقات السلطة، ومكانة أمريكا اللاتينية في إعادة تنظيم الهيمنة الإمبريالية، الخ.
في المقام الأول، بالنسبة لمعارك المقاومة والمعارضة، تبدو الحركات الاجتماعية أكثر فعالية ووضوحا من التنظيمات الحزبية. ظهورها (الحركات الاجتماعية) يمثل بداية جديدة لدورة من التجارب التي بدونها لا شيء سيكون ممكنا. لكن، حتى وإن انتقد ماركس إيمان معاصريه ب”الوهم السياسي”، المتمثل في الاعتقاد بأن غزو (مجال) الحريات المدنية والديمقراطية كان آخر كلمة من التحرر الإنساني، يمكننا أن نلاحظ اليوم “وهما اجتماعيا”، مفاده أن المقاومة الاجتماعية لليبرالية، في غياب بديل سياسي، سوف تكون أفقنا الذي لا يمكن تجاوزه. هذه هي رواية “اليسار” عن” نهاية التاريخ “. ومع ذلك، فأزمة الرأسمالية قائمة، والتهديدات التي تشكلها على مستقبل البشرية والكوكب الأرضي قائمة، بحيث أن بديلا في مستوى الرهانات أمر ملح.
هنا، يتعلق الأمربمسألة مشروع واستراتيجية سياسيين، تحملهما قوى محددة. سواء ناضلنا بجدية من أجل هكذا بديل، أو اكتفينا بمجرد الضغط على القوى الليبرالية الاجتماعية القائمة، وب”إعادة توازن” التنظيمات اليسارية عن طريق إزاحتها عن اليسار تدريجيا، وعندها سنضيف إحباطا على إحباط. من أجل بناء البديل الحقيقي – وسوف يكون طويلا، لأن التلعة المراد تسلقها وعرة – علينا أن نتسلح بالصبر، أن نتوفر على قناعات، وأن نتحلى بالحزم دون تعصب طائفي، وإلا فسوف يتم تدميرنا من قبل مغامرات بلا مستقبل، تحت ذريعة الواقعية، وتراكم خيبات الأمل.
بالنسبة لإعادة بناء حركة عالمية، فهذه مسألة ما زالت فضفاضة أكثر. البعض يقارن الحركة المناهضة للعولمة، منتدياتها العالمية والقارية، ببدايات الأممية الاشتراكية الأولى: تجمع النقابات، الحركات الاجتماعية، التيارات السياسية الأقل تحديدا. فعلا، هذا موجود . والعولمة الرأسمالية – هذا هو جانبها الإيجابي – تدفع لتقارب دولي بين الحركات (تماما مثلما أن المعارض العالمية في القرن التاسع عشر قد أتاحت الفرصة لعقد الاجتماعات التي انبثقتت منها الأممية الاشتراكية الأولى ).
ولكن هناك فرق. هنا، مرة أخرى، نعلم أن القرن العشرين كان موجودا وأن الانقسامات والتيارات السياسية التي هي نتاج هذه التجربة لن تتلاشى بين عشية وضحاها. ونحن لن نعيد ضبط العدادات عند الصفر. هذا هو السبب في أن تلك التقاربات واللقاءات مثل تلك التي تتم في المنتديات إيجابية وضرورية.
لا أحد يستطيع التنبؤ اليوم بما سيترتب عن ذلك. هذا سوف يتوقف على المعارك، والتجارب السياسات الجارية، كما في أمريكا اللاتينية أو في الشرق الأوسط. نحن أبعد ما نكون عن استنفاد هذه المرحلة الأولى من إعادة البناء. هناك إمكانيات للتوسع في آسيا، وفي أفريقيا. ولكن شرط ودليل نضج هذه الحركة سوف يتجسدان في قدرتها على الحفاظ على الوحدة في العمل، وفي توسيعه حتى، دون تحديد أو فرض رقابة على المناقشات السياسية الضرورية. ومن الواضح أن المرحلة الأولى من المقاومة، ما أدعوه ب”اللحظة الطوباوية” ( قياسا إلى الحركة الاشتراكية التي ولدت في سنوات 1830-40)، قد انتهت.
إن صيغة “تغيير العالم دون أخذ السلطة” شاخت مبكرا بعدما لاقت بعض الصدى في أمريكا اللاتينية بالأخص، دون أن يقتصر عليها الأمر). بينما ثبت اليوم أن أخذ السلطة ضروري لتغيير العالم. يصعب أن نتصور اليوم انعقاد منتدى اجتماعي يتفادى طرح أسئلة التوجيه السياسي ويرفض أن يستخلص حصيلة تقارن بالتجارب البرازيلية، الفنزويلية، البوليفية، …والكوبية. ويصعب أن نتصور منتدى أوربيا لا يناقش بديلا أوربيا عن الاتحاد الأوربي الليبرالي والإمبريالي.
من هذا المنظور، يكون من المتناغم والمتكامل على أحسن وجه المساهمة في هذه التجمعات الموسعة والحفاظ على ذاكرة ومشروع محمولين على (عاتق) تيار سياسي له تاريخه الخاص وبنياته التنظيمية الخاصة.
يعد ذلك أيضا شرطا للوضوح ولاحترام الحركات التوحيدية. التيارات التي تضطلع علانية بهويتها السياسية الخاصة هي الأكثر هيمنة. إذا كان صحيحا، كما ردد فيلسوف فرنسي، أنه لا توجد طاولة ممسوحة في السياسة، وأننا “نبدأ دائما من الوسط”، فعلينا إذن أن نكون قادرين على الانفتاح على الجديد دون الخروج عن خط التجارب المكتسبة.
Social Links: