أما وقد انتهى الكابوس .. ما العمل الآن؟

أما وقد انتهى الكابوس .. ما العمل الآن؟

وائل السواح – العربي الجديد:

جو بايدن هو الرئيس السادس والأربعون للولايات المتحدّة الأميركية. أما دونالد ترامب فسيذكره التاريخ مزحة أميركية سمجة، أو قد يُدرَّس في كتب التاريخ مثالا على تمكّن الشعبوية في مرحلة ما من الهيمنة على مقاليد الأمور.

نشرت، في 4 يوليو/ تموز الماضي، في هذه الصفحة من “العربي الجديد”، مقالة بعنوان “ترامب: نهاية الكوميديا السوداء”، غامرت فيها بالتنبؤ بسقوط الرئيس ترامب في الانتخابات. وكنت بين قلّة توقّعوا ذلك. يقول هيغل في مكان ما “كلّ ما هو واقعي منطقي وكلّ ما هو منطقي واقعي”. وقد كان دونالد ترامب، قبل أربع سنوات، أمرا منطقيا، ولذلك صار حقيقة واقعة، ولكنه فقد كلّ منطق من خلال ممارساته وأخلاقه وسوء إدارته وتشجيعه العنصريين الأميركيين والاحتكارات العملاقة، وقطيعته مع حلفائه الطبيعيين، وتقرّبه من حكّام العالم الديكتاتوريين، من بوتين إلى كيم جونغ أون ومن رودريغو دوتيرتي إلى محمد بن سلمان. وكان فقدانه المنطق في بقائه رئيسا لأعظم قوّة في العالم مقدّمةً لكي يصبح وجوده غير حقيقي، وهو ما قرّرتْه صناديق الاقتراع الثلاثاء الماضي.

كتبت، في مقالتي المذكورة أعلاه، إن ترامب جمع كلّ مساوئ الرؤساء الأميركيين، من دون أن يتحلّى بأيٍّ من محاسنهم، ومن مساوئه تهرّبه من الضرائب، وطلبه من الروس والصين مساعدته في الانتخابات، وفشله الذريع في مواجهة “كوفيد – 19″، وانسحابه من اتفاقية باريس للمناخ، وأخيرا انهيار الاقتصاد الأميركي. لذلك كان من غير المعقول، ولا الواقعي، أن يستمرّ رجل كهذا في منصبه، في بلد ديمقراطي.

 

ومع ذلك، ينتهي ذلك كله خلال عشرة أسابيع، وعندها ستبدأ المهمّة الحقيقية. ولئن كان ترامب سيتحوّل إلى ذكرى سيئة، فإن الترامبية لن تزول بين عشية وضحاها، بل قد يجد أتباعها طاقة متجدّدة، وهدفًا في حشد حركة مقاومة جديدة، ملتزمة بتقويض الإدارة القادمة ونزع شرعيتها. وقد بدأ ذلك، فترامب يقوم اليوم تماما بما هدّد بالقيام به منذ أشهر، فهو يطلق الأكاذيب ونظريات المؤامرة حول الفساد المستشري وتزوير الأصوات (فقط في الولايات التي يخسر فيها بالطبع). وللأسف، بعض المشرّعين الجمهوريين الذين من المفترض أنهم يعرفون الأمور بشكل أفضل، مثل السيناتور تيد كروز وليندسي غراهام، وزعيم الأقلية في مجلس النواب كيفين مكارثي، يردّدون أكاذيب الرئيس، ويظهرون للأميركيين مرة أخرى من هم على حقيقتهم.

لطالما شكّل ترامب، بجهله الهائل ونرجسيته المستهلكة، تهديدًا للبلد وللعالم، ولكنّ تهديده ربما لم يكن أبدًا كما هو اليوم، مهزومًا ومريرا وغاضبًا، ولم يبقَ لديه شيء ليخسره. ستمرّ أشهر عصيبة، يمكن أن يستمرّ فيها الرئيس بوضع العصي في الدواليب: فهو على الأرجح لن يستسلم بسهولة، وسيستمرّ في رفع قضايا قانونية لا أساس لها ولا أدلّة عليها في الولايات التي خسر فيها. وقد يعاد عدّ أصوات في ولايتين على الأقل (ويسكنسن وجورجيا، وربما بنسلفانيا) ولكن القائمين على الأمور فيها متأكدّون أن إعادة عدّ الأصوات لن تغيّر من النتيجة ومن الأمر الواقع شيئا، وسيظلّ جو بايدن الرئيس الذي سيحتل المكتب البيضاوي في العشرين من يناير/ كانون الثاني المقبل.

 

ثمّة أمور لا يستطيع دونالد ترامب فعلها، فهو مثلا لا يعرف الاعتذار، ولا يشعر بالخطأ حين يقترفه. وهو بالتأكيد غير قادر على الاعتراف بالهزيمة بشكل حضاري، كما فعلت الديمقراطية هيلاري كلينتون في 2016، وميت رومني في 2012، وقبلهما الجمهوري الكبير السيناتور جون ماكين، حين قال في خطاب قبول الهزيمة “لقد كان باراك أوباما خصمي، وهو الآن رئيسي”. ولن نطلب من الرجل ما لا طاقة له به، ولكننا سنطلب منه الكفّ عن الأذى والتوقّف عن تحريض جماعاته من العنصريين والفاشيين الجدد، بمن فيهم جماعة “الأولاد الفخورون” وجماعة QAnon وبقايا الكوكلوكس كلان، من تخويف الأميركيين، كما فعل أحدهم في لوس أنجليس، حين هدّد بارتكاب مجزرة جماعية بالديمقراطيين. والأهم، سنطلب إليه ألا يسيء استخدام الأسابيع المتبقية له في البيت الابيض في اتخاذ قرارات مصيرية تضرّ بالبلاد والعالم عقودا مقبلة، من خلال الأوامر التنفيذية التي أسرف في استخدامها.

ولسوف نراقب عن كثب، وقد كانت السنوات الأربع الماضية بمثابة اختبار طويل ومكثف ومؤلم، في أحيانٍ كثيرة، لقيم أميركا المعلنة ونظام الحكم فيها. وستكون الأسابيع العشرة المقبلة اختبارًا أكبر. وحين يجتاز الأميركيون هذه المرحلة العصيبة يبدأ العمل الحقيقي. وستبدأ الإدارة الجديدة بمحاولة إصلاح الكوارث التي تسبب بها العهد السابق. أولاها بالتأكيد إدارة مواجهة وباء كوفيد 19، حيث ستعيد الإدارة الجديدة الثقة بالعلم، وستعطي الأولوية لما يقرّره الأطباء، وليس لما يريده رؤساء الشركات الكبرى وبورصة وول ستريت. ثم يبدأ التعافي الاقتصادي من خلال تشغيل طاقات الأميركيين جميعا، مع إعادة العمل بنظام ضريبي عادل، يشارك فيه أصحاب المليارات بحصّتهم في إنعاش الاقتصاد. ويلي ذلك رأب الصدع بين الولايات المتحدّة وحلفائها الغربيين الذي تسبّب به الرئيس ترامب، والعودة إلى اتفاقية باريس للمناخ، كما وعد بايدن في حملته الانتخابية، وإصلاح نظام الرعاية الصحية، بترميم خطة أوباما لشمول كلّ الأميركيين في نظام تأمين صحي ترعاه الحكومة، وإصلاح نظام الشرطة، بحيث توقف أساليبها التمييزية ضدّ السود والملوّنين في البلاد، وإصلاح سياسة ترامب الهمجية تجاه المهاجرين، ورفع الحظر الجائر الذي فرضه ترامب على القادمين من دول ذوات أغلبية مسلمة، وإعادة الدعم لقطاع التعليم ودعم المجتمع المدني ودعم الأقليات المهمّشة، عرقيا ودينيا وجنسيا.

 

وسيتعيّن على بايدن وضع سياسة أكثر وضوحا تجاه سورية وليبيا واليمن، وسيوضح سياسته تجاه إيران، حيث يعتقد كثرة من المراقبين أنه لن يعود إلى اتفاق إيران النووي القديم، بل سيدفع نحو اتفاق جديد، تكون فيه طهران مجبرة على تقديم تنازلات حقيقية في سورية والعراق ولبنان. وسيعيد بايدن النظرة العقلانية للعلاقة مع إسرائيل ورئيس وزرائها البلطجي، بنيامين نتنياهو. ولكن المهمة الأكبر والأخطر ستكون في إعادة اللُّحمة المجتمعية للأميركيين التي مزّقها الرئيس ترامب شرّ ممزّق. لم تعرف الولايات المتّحدة، منذ الحرب الأهلية، هذا الحدّ المريع من الانقسام المجتمعي الذي طاول مجتمعات وأقاليم ومدنا وأحياء وعوائل. وصار مألوفا أن يبتعد الأميركيون عن حديث السياسة، ليتجنبوا الشقاق والخلاف في العائلة وبين الأصدقاء. ونمت في الولايات المتّحدة بشكل صارخ نزعات تآمرية، لم تكن معروفة على نطاق واسع، ولعلّ أخطرها حركة كيو آنون (QAnon) التي تتبنّى نظرية مفادها أن الرئيس ترامب يقاتل سرا عصابة من المتحرّشين جنسيا بالأطفال، تضمّ ديمقراطيين بارزين ونخبة من عمالقة هوليوود، وحلفاء “الدولة العميقة”. وستكون مهمّة بايدن الرئيسية إعادة جمع الأميركيين باعتبارهم أميركيين، وليسوا ديمقراطيين أو جمهوريين، بحيث يعود الحوار والإصغاء للآخر واحترام رأيه من دون خوف أو حَذَر أو حساسية. وباختصار، لن تكون مهمّة الرجل سهلة، ولست أحسده على مُقبل الأيّام.

  • Social Links:

Leave a Reply