حازم نهار – المدن :
بعد هزيمة حزيران/ يونيو 1967، أُصيب الأديب نجيب محفوظ، مثل مثقفين آخرين، وكثير من العرب، بصدمة شديدة، سببها عدم التصديق أو الاستيعاب، ما خلَّف في نفسه حزنًا واكتئابًا عميقين، إلى درجة أن قلمه لم يطاوعه على كتابة ما يعتمل في روحه من حُطام، ولم يستطع أن ينقل ألمه وصراخه كتابةً. هربت منه الكلمات والتعابير، وعجز عن صناعة لوحة أدبية كما اعتاد، وهو الذي بنى صرحه الأدبي على قاعدة الكتابة المستمرة والمنظمة واليومية، بإصرار عجيب، على تسخير حياته للأدب. قال لمحاوره ذات مرة: “أتعرف عناد الثيران؟ … إنه خيرُ وصفٍ للحالة التي كنت أعمل بتأثيرها”.
كانت حالته، في عقب الهزيمة، أقرب ما تكون إلى الشلل النفسي الذي يمنع العقل والروح من التفكير والكتابة. وصفَ حالته في وقتٍ لاحقٍ بقوله “صدمة عنيفة، عدم تصديق، عدم معقولية، ذهول، مرارة، سخط على كل شيء”. ويتابع: “كان يحدث لدي حالة من (هياج) للكتابة، وأشعر برغبة شديدة في ممارسة الإبداع، لكني لا أجد أي موضوع”.
ولكي يتغلَّب محفوظ على يأسه وعجزه، اخترع طريقة “الكتابة من الصفر”. في هذه الحالة لا توجد في رأسه أي فكرة، ولا أي حدث أو عنوان أو شخصية. هناك رغبة في الكتابة فحسب. يبدأ بالكتابة، يكتب الكلمة أو الجملة الأولى، لتظهر الثانية، ولتجرّ الكلمات والجمل بعضها بعضًا. يبدأ بجملته الأولى، ولا يعرف إلى أين ستأخذه.
في عام 1994 اعتدى شاب على نجيب محفوظ بطعنه في رقبته، ما سبب له عجزًا في يده منعه من القدرة على استخدام القلم، ومنعته الإصابة من التواصل مع العالم الخارجي، ليغدو بلا مادة يستفيد منها في كتابته. كيف يتغلب على حالته الجديدة، وكيف سيستجيب لعشقه للكتابة هذه المرة؟ استطاع محفوظ، بفضل ثيران رأسه، أن يقاوم العجز والغياب، فجعل مادته هي أحلامه، ولجأ إلى الإملاء؛ يكتب شخص آخر له ما يريد، وكانت هذه تجربة جديدة وغريبة عنه، لطالما استغرب قدرة طه حسين عليها، فاستخدام القلم بالنسبة إليه جزءٌ من عملية الكتابة ذاتها، لكنه تحدى نفسه وكتب أحلامًا عديدة، جمعها ونشرها في كتاب.
عذرًا من نجيب محفوظ، فلا أحد يبدأ من الصفر. فللكاتب، والسياسي أيضًا، مخزونه الخاص الذي تراكم عبر الزمن، والذي يكون حاضرًا دائمًا في كل لحظة يخطُّ فيها حرفًا، وإذا ما أصابه العجز في لحظة ما، لا يعني أنه يصبح مساويًا لوافد جديد إلى عالم الكتابة أو السياسة؛ فنقطة الصفر عند محفوظ ليست معادلة لنقطة الصفر عند غيره. تمامًا مثل التاجر الخبير الذي يتعرض للإفلاس لسبب ما، ويصل إلى نقطة الصفر المالي؛ فهو ليس مثل الوافد الجديد إلى عالم التجارة. الأول يستطيع أن ينهض سريعًا باستثمار اسمه وتاريخه في السوق، فيما الثاني قد يحتاج إلى دهر، مع أن كليهما في نقطة الصفر ماليًا.
يعني ذلك أن البدء من الصفر تجربة خاصة بالوافدين الجدد إلى حقلٍ ما، لكن لا أحد يبدأ من الصفر من الموجودين أصلًا في الميدان، لا في الكتابة، ولا في السياسة. وهنا يأتي دور التاريخ والتجربة اللذين ينبغي لنا الاستفادة منهما، شريطة إخضاعهما للتفكير النقدي. يقول محمود درويش “نحن لا نستطيع الكتابة من الصفر؛ يعجبني تعريف إليوت للنضج الأدبي بأنه إحساس الشاعر بأسلافه، وإحساسه بوجود من سبقوه خلف هذا الإنتاج. الإبداع ليس قطيعة تامة مع ما سبق. إنه استمرارية لما هو حيّ في التراث وقطيعة مع ما لم يعد قابلًا للتعبير عن حساسية زماننا”.
للصفر حكايات كثيرة في الوضع السوري، والعربي عمومًا. نحن مولعون بالصفر؛ فالصفر أحد حدّي معادلة قيمية تحكم تفكيرنا: لنا الصدر دون العالمين أو القبر، فنحن إما أن نكون في القمة أو في درجة الصفر. وكثيرًا ما بدأنا، أو توهمنا البدء، من لحظة الصفر، وكثيرًا أيضًا ما رمينا تاريخنا وتجاربنا وراء ظهرنا نتيجة رغبتنا الشديدة في البدء من الصفر. كيف نفسِّر العودة إلى نقطة الصفر كلما تغير المسؤول مثلًا؟
نحن قبل الإسلام لا شيء؛ هكذا أراد لنا كثيرون أن نقتنع، ولا تكاد كتل بشرية كبيرة منا تعرف شيئًا عن تاريخنا السابق للإسلام. الإسلام هو لحظة الصفر، نقطة الانطلاق وبدء الخليقة. ومن هذه النقطة بدأ تاريخنا الهجري. ولذلك رمينا خلف ظهرنا تاريخنا وثقافاتنا الأخرى، حتى أننا أطلقنا على كل ما قبل لحظة الصفر اسم “الجاهلية”، وكأننا نتبرأ منه أو نعبِّر عن شعورنا بالذنب تجاهه. مع أن الإسلام في مرحلة قوة أهله كان في تفاعل خلّاق مع الحضارات كلها؛ اليونانية والفارسية والرومانية وغيرها. يقولون: في الحج، يعود المرء إلى نقطة الصفر، يعود كمن ولدته أمه توًّا. قد يكون الصفر في تفكيرنا رمزًا للنقاء، ولذلك هناك رغبة شديدة في استحضاره، في الانطلاق منه أو العودة إليه.
لنتخيل امرأة خَبِرت تجربة الحب، تتعرف إلى “مراهق” لما ينبت برعم الحب بعد في قلبه وعقله. سيكون الحبيب أهوجًا، وسيحاول امتلاكها، ومصادرة تاريخها، وإهالة التراب على ماضيها، طامحًا إلى البدء معها من الصفر، ليشعر بالنشوة، وبأنه لا رجلَ قبله، ولا بعده. في رواية عالم بلا خرائط، خاطبت المرأة القوية، نجوى العامري، حبيبها الروائي، علاء الدين نجيب، قائلة: كلما تعرفت إلى رجلٍ، أكتشف أنه يريد أن يبدأ معي من الصفر. ستهرب هذه المرأة من غزل “المراهق” هذا، وستشعر أن روحها تأبى إلا أن تغرِّد بعيدًا منه.
كيف نتغلب على عجزنا في السياسة؟ هل نبدأ السياسة من الصفر؟ في السياسة، كما في التاريخ والحب، هناك أيضًا من يرغب دائمًا في البدء من الصفر، والأمثلة هنا أكثر من أن تُحصى؛ كثيرًا ما يلجأ السياسي إلى جعل لحظة دخوله إلى معترك السياسة لحظة الصفر أو نقطة البدء، فمعه سيكون للسياسة طعم آخر مختلف عما قبله، لذا يتعامل مع البلد وكأنها ستولد بين يديه من جديد، ويكره أن يفكر في أنها موجودة قبله. حكاية البلد تبدأ من لحظة اعتلائه عرش السلطة أو المعارضة. يسمّون هذه الطريقة في السياسة “الإحلال”؛ أن تبني نظامًا نقيضًا للنظام القائم في كل شيء، وهذه محض خرافة سياسية، ونتيجتها هي كثرة الهدم السياسي ونقص البناء السياسي في تاريخنا. الطريقة السياسية العقلانية تقوم على البناء؛ قراءة تجارب التاريخ وتقييمها في ضوء حاجات العصر الراهن والأهداف. هذا ما أطلق عليه ياسين الحافظ الوعي المطابق/ المقارب للواقع.
هذه الرغبة في البدء من الصفر تتجلى بشيوع سياسات غير عقلانية، على شاكلة “اجتثاث البعث” في العراق، وعلى شاكلة “إسقاط النظام السوري بأركانه ورؤوسه ورموزه وسياساته كافة” كما عبّر كثيرون، ليأتي الواقع بعقلانيته الصارخة، ويضربنا على رؤوسنا؛ فسياسة “اجتثاث البعث” حولت قسمًا غير قليل من البعث العراقي إلى “داعش”، والسياسة الخرافية للكثيرين في “المعارضة السورية” جرتهم شيئًا فشيئًا إلى قبول الدخول في مستويات متدنية من التفاوض مع “النظام السوري”، من دون أي وخزة ضمير أو شعور بالتناقض وسوء العقل والتدبير. شعار “إسقاط النظام” شعار شعبي، صادق وصحيح، يحتاج من النخب السياسية الثقافية إلى تجسيده سياسيًا؛ إعادة إنتاجه بصيغة السياسة ترتبط بموازين القوى واللحظة السياسية من جهة، وبالتمييز بين السلطة والحكومة والنظام والدولة من جهة ثانية.
مع الثورة السورية، دخل كثير من السوريين معترك الحقل السياسي، وهذا جيد طبعًا. بعضنا تنطع إلى المستويات القيادية من دون سابق اطلاع أو خبرة، وأصبح سياسيًا أو ناطقًا رسميًا أو مفاوضًا أو محاورًا لدول الإقليم والعالم، على الرغم من أنه لم يقرأ صفحة واحدة في حياته. كانت لحظة الثورة بالنسبة إليه هي لحظة اكتشاف موهبته السياسية، ليبدأ ممارسة السياسة من الصفر، أو في الأحرى هنا من الفراغ، ومن الطبيعي أن يضيع ويُضيِّعنا. سار في طريق التجريب فحسب، وفي كل مرة يبدأ من الصفر، لا يُراكم ولا يتعلم. الطبيب الذي يتعامل مع المريض من دون خبرة أو معرفة قد يقتل شخصًا واحدًا، فيما السياسي عديم المعرفة والخبرة قد يقتل شعبًا أو يمزِّق قضيته.
هناك في سورية تيارات سياسية، بصرف النظر عن أيديولوجياتها، مغرمة بنقطة الصفر. أراد التيار الإسلامي مثلًا ربط الثورة السورية عنوة بحوادث نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات. والغريب، وللأسف، أنها كانت رغبة “النظام السوري” نفسه، مع أن الثورة قامت على أكتاف من وُلدوا بعد أن انتهت. نقطة الصفر بالنسبة إلى التيار الإسلامي هي حوادث الثمانينيات، وما تلاها مشطوب من تاريخ سورية، والثورة السورية ليست إلا استكمالًا لتمردهم آنذاك، وردًا على مظلوميتهم. كانت هذه في العمق النقطة المحرِّكة للإسلاميين معظمهم، وكانت في الوقت نفسه اختزالًا فاضحًا للثورة، وواحدة من نقاط قتلها.
تيارات أخرى ركبها هوس “العودة إلى نقطة الصفر الاستعماري”، وكأن تاريخَ سورية خلال 1946-2011 شيءٌ لا قيمة له أو يُفترض التبرؤ منه. هذا خطاب لا يروق لقسم كبير من السوريين، فضلًا عن لا واقعيته ولا عقلانيته، إذ لا يمكن أصلًا القفز فوق هذا التاريخ كلاميًا. واستحضر قسمٌ من الكرد السوريين تجربة إقليم كردستان العراق، فيما استحضر قسم آخر تجربة كرد تركيا. عمليًا، أرادوا الانطلاق من “صفر” غيرهم، بدلًا من اختراع “صفرهم” الخاص إن جاز التعبير. الصفر المستورد أكثر إغراء على ما يبدو.
للصفر حضورٌ طاغٍ في الوضع السوري؛ لم يتعامل “النظام السوري” مع السوريين، في يوم من الأيام، إلا بوصفهم أصفارًا، وعمل دائمًا على أن تكون “معارضتهم” و”نخبهم” أصفارًا هي الأخرى، وهكذا كنا فعلًا بأيديه وأيدينا. كيف نتجاوز قيمتنا الصفرية؟ بالتأكيد لن يكون ذلك بالعودة إلى نقطة الصفر، وتكرار التجارب الصفرية التي طحنتنا خلال السنوات العشر الماضية. ما زالت، في اعتقادي، وصفة ثالوث الفكر والسياسة والتنظيم هي الأجدى، على الرغم من أنها تحتاج إلى كثيرٍ من الوقت والجهد والصبر.
Social Links: