زي بوست:
ممّا تعيه الذاكرة ولا تنساه، أني أرسلت، في بحر العام 1970، قصة بعنوان “حذارِ من العدوى” إلى مجلة “العربي” الكويتية في عهد رئيس تحريرها العالم الأديب الدكتور أحمد زكي.
ويقتضيني البيانُ أن أشير إلى أنّ ممّا يعانيه الكتّاب الذين ينشرون نتاجهم الفكري في الدوريات الثقافية، أنه يكون في المجلة المتعامَل معها كثيرٌ ممّا تتلقّاه من الرسائل وتقصيرٌ ما في إعلام الكاتب بوصول المادة إليها، أو بترشيحها للنشر، وإن كانت المجلة تبادر إلى موافاته بالمكافأة المادية المستحَقّة، وهذا التقصير في الإعلام بالوصول قد يسبّب لصاحب المادة المرسلة قلقًا ربما يبلغ حدّ الحرج، كما أروي في حكايتي هنا.
أقول: انتظرت وقتًا دون أن أتلقى جوابا، لا ولا اكتحلت عيناي بمرأى القصة منشورة. وقد سألت المجلة في ذلك، إلى أن أيقنت أنّ القصة لم تحُز الرضا، ومع أسفي لذلك فقد بادرت إلى توجيهها لمجلة عزيزة أخرى، هذه التي سرعان ما بادرت إلى الكتابة لي بالموافقة، وانطوت الرسالة على شيك بالمكافأة، على ما اعتمدته هذه المجلة من “عادة مستحسنة”.
الذي وقع لي أني، بعد هذا التلقّي الأريحيّ، وصلت إليّ – يا للمفاجأة! – من المجلة الأولى رسالة متضمّنة شيكا بمكافأة على هذه القصة! فتحتّم عليّ أن أكتب لهم بطيّ القصة والامتناع عن نشرها فإني – وقد طال انتظاري – وجّهتها لمجلة أخرى وأني تلقيت منهم فأصبح لهم وحدهم الحقّ في نشرها، وتوخّيًا للسرعة فقد “أبرقت” لهم بعبارة موجزة «أوقفوا نشر قصتي “حذار من العدوى” التفاصيل بالبريد»! وأذكر أني استفدت من خدمة هاتفية مستحدَثة مكّنتني من أن أمسك بسماعة الهاتف اتّصل بـ”البرقيات المهتوفة” أُملي عليهم نصّها، ثم… أخذت أحرّر “الرسالة المفصّلة”.
كان ذلك في أواخر أيام ذلك الشهر الشتوي. وعندما أهلّ الشهر الجديد نزل عدد “العربي” إلى المكتبات، وفيه رأت عيناي “حذار من العدوى” متمدّدة فوق ثلاث صفحات من هذه المجلة الشهيرة!
وأُسقط في يدي من جديد. فعدت أكتب للمجلة الأخرى، برقية مهتوفة مماثلة: «أوقفوا نشر قصتي “حذار من العدوى” التفاصيل بالبريد»، عازمًا على كتابة رسالة تفصيلية ثانية!
ذلك كله “مقدمة” لما سوف أحدّثكم عنه!
لأننا نعيش في ظلّ نظام حريص على أن يعرف كلّ ما يجري في الوطن من دقائق الأمور، في الشوارع يعمّها ضوء النهار وفي البيوت المغلقة أبوابُها، فإنّ ثمّة “رقابة” بريدية – هاتفية.
لمّا اطّلعوا، هناك، على البرقية الأولى، ارتابوا في مضمونها: طلبٌ برقيّ للتوقف عن نشر شيء، وأنّ في البريد تفاصيل! وزاد في الريبة ظهور البرقية التي تلتها… فاعتقدوا أنهم وضعوا اليد على “تخابُر” ما وهو في مراحله الأولى!
احتجزوا البرقيتين واحدة بعد الأخرى وبقي عليهم أن يبادروا إلى إلقاء القبض على صاحبهما. فتحوا “دليل الهاتف” وأخذوا رقمي، وكُلّف “عنصر” بالاتصال بي.
في ذلك اليوم، تلقيت – وأنا في بيتي وحيدا فأسرتي في العطلة الانتصافية بحلب – مكالمة هاتفية يسألني صاحبها بصوت غير مألوف لي عن عنوان بيتي! استنكرت الطلب، وظننت المتكلم “عابثَا” يتسلى، فأطبقت التلفون في وجهه… وعدت إلى طاولتي أكتب.
بعد ربع ساعة جاءتني مكالمة أخرى، يغمغم فيها رجل بمثل تلك الكلمات، فزجرته: «يعني العبث الذي بدأ به صاحبك تريد أن تتابعه أنت!»، وأغلقت!
صباح اليوم التالي غادرت البيت متوجّها إلى عملي (وكنت مديرا لدائرة حكومية مقرها في أول شارع الفردوس قرب “بوّابة الصالحيّة”)، أسير الهوينى عبر الجادة الرئيسية مدة نصف ساعة، وعند وصولي آخذ صندويشة جبنة مسقسقة من بيّاع العصير في زاوية الشارع، وفوق أطلب تحضير كأس شاي من يد “أبو محمد”.
وفيما أنا أمضغ لُقيماتي وأحتسي، قُرع باب مكتبي. دخل رجل سلّم بأدب وقدّم نفسه بغمغمة. طلبت منه أن يستريح، فجلس مطرقًا لا ينظر إليّ تأدّبا. وفي ذلك استحضرت في ذاكرتي “السمعيّة” صوت صاحب المكالمة “العابثة” الأولى، فرأيت أنّ الصوت واحد. قلت له: «أنت اتصلت بي أمس؟»، فانتعش وقال نعم، مقدّمًا إليّ بطاقته بصفته رجل أمن، مدلّلا على صدقيّة شخصه، فقلت: «يا رجل! الآن أعرف أنك رجل أمن، لكن كيف لي أن أعرف هذا على الهاتف؟».
وقد سألته كيف وصل الساعة إليّ؟ فقال بأنه عاد إلى دليل الهاتف، وأخذ عنوان البيت، فتوجّه إليه، قرع الباب لا أحد، سأل “بقال” الحارة، فأجابه بأنه رآني قبل قليل أخرج من بيتي إلى عملي. ما العمل؟ دلّه، فأتى إليّ.
وأبلغني دعوةَ أن أذهب إلى فرع الأمن في “شارع الباكستان”، أوله قريبا من “ساحة السبع بحرات”. وهمّ بالانصراف، فاستبقيته لأذهب وإياه.
قبل مغادرتي الدائرة همست في أذن “معاون المدير” (حيدر ب.) أني ذاهب الآن إلى جهة أمنية موقعها في… فليُعلم بهذا المديرَ العام صديقَنا “الدكتور أحمد رجائي”.
في الجهة الأمنية استقبلني ضابط بلباس مدني، في غرفة تحتوي على سرير متواضع، وطاولة صغيرة، وسخّان كهربائي وإبريق شاي وكؤوس. طلب مني أن أجلس على طرف السرير.
وبدأ الاستجواب بسؤالي عن “حكايتي” عن “العدوّ”، الحكاية التي أطلب وقف نشرها، في برقيتين متتاليتين؟
هل أضحك… أم أبكي على أمّة ضحكت من جهلها الأمم!
قلت:
ــ وأوقفتم إرسال البرقيتين؟
وأدركت أنّ عيونهم قرأت كلمة “العدوى” من غير الألف المقصورة.
ولم يعسر عليّ أن أشرح لهم أنّ القصة – وإني مؤلفها – تدور حول تلميذات مدرسة أصيبت إحداهنّ بمرض ما فكان تحذيرٌ من العدوى! وأني أرسلتها إلى مجلة، لم أتلقَّ منهم قبولا لها، فوجّهتها ثانية إلى مجلة أخرى.
وتوالت عليّ بعدئذ الأسئلة اللطيفة: من أين أستوحي قصصي، وما هي “طقوس” الكتابة؟ ولم أستغرب أنهم لم يسمعوا باسمي كاتبًا، مع أنّ فرعهم معنيّ بالصحافة والثقافة والأدب. كانوا ودودين، وبدا أنهم منحوني مودّتهم.
في هذه الأثناء تلقى الرجل مكالمة ممّن تبيّن لي أنهم يسألون عني؟ قال لهم: «لا لا، المسألة بسيطة، محلولة».
أصدقائي الأعزاء.
فأما المجلة الأخرى، فقد ساءهم أني زوّدتهم بقصة سبق أن أرسلتها إلى سواهم، طالبوني، فكتبت لهم ما سمّيته “هدية للصديقة سعاد”، تلك القصة التي ضمّها فيما بعد و”حذار من العدوى” وغيرهما، كتابٌ سمّيته “رحلة حنان” (رحلة حنونة يقوم بها المؤلف برفقتكم في عالم الصغار)، وقد اعتذرتْ في حينه عن قبول مخطوطته وزارة الثقافة “لعدم الجدارة”، فتولت نشره “دار المعارف بمصر” عام 1975 وأصدرته في سلسلتها الشهيرة “اقرأ”، ثمّ إني أعدت إصداره بطبعة جديدة عام 2002 في الدار التي أسّستها بدمشق تحت اسم “إشبيلية للدراسات والنشر والتوزيع”، نشرت فيها بضعة عشر من أعمالي وأكثر من ذلك كتبا لأصدقائي الأدباء.
Social Links: