عون ومؤتمره الدولي لإعادة اللاجئين: لعبة خطرة لعزلة أشد

عون ومؤتمره الدولي لإعادة اللاجئين: لعبة خطرة لعزلة أشد

منير الربيع _ المدن

يبحث لبنان عن أي فرصة تدفع عنه العزلة الدولية التي يعيشها. وعلى طريقة التاجر المفلس الذي يعود إلى دفاتره القديمة، تعمل السلطة اللبنانية على فتح ملفات واستخدام عناوين لبعث الاهتمام الدولي بالبلد المنكوب، بعد فشل أركانها المديد في إدارته، وفشلهم المتجدد في كسب ذلك الاهتمام الذي أفشلوه: المبادرة الفرنسية.

عون ومؤتمراته الدولية

شطر كبير منهم يعتبر أن الولايات المتحدة الأميركية بشروطها وعقوباتها، هي التي أجهضت مبادرة إيمانويل ماكرون، لأن واشنطن تريد للبنان أن يستمر قابعاً في الحصار. وفشل رئيس الجمهورية ميشال عون في تعويم نفسه وتسويفها، كان قد دفعه إلى اتخاذ قرار برفع مستوى التمثيل في المؤتمر الدولي الذي نظمته روسيا في دمشق، لبحث عودة اللاجئين السوريين.

وعلى الرغم من  فشل المؤتمر الروسي – الدمشقي، كان لقرار عون ذاك تبعات سياسية سلبية على لبنان. لكن العادة العونية في العناد والمكابرة، أبت على الرئيس العنيد إلا أن يتقدم بمبادرة جديدة بخصوص اللاجئين السوريين: حماسته لاستضافة مؤتمر دولي على الأراضي اللبنانية، للبحث في إعادة اللاجئين السوريين من لبنان.

ويستخدم لبنان جملة عناوين في التحضير لهذا المؤتمر، الذي اقترحه وزير الشؤون الاجتماعية اللبناني رمزي مشرفية على المبعوث الرئاسي الروسي ألكسندر لافرنتييف. فوافقت موسكو لأسباب متعددة: الدخول إلى الساحة اللبنانية المتاحة في هذه المرحلة، طالما أنها ترتبط عضوياً وجغرافياً وسياسياً وجتماعياً واقتصادياً بسوريا الخاضعة للسيطرة الروسية شبه الكاملة.

وقد أعلن رئيس “مقر التنسيق الروسي – السوري لعودة اللاجئين” ميخائيل ميزينتسيف، تأييد روسيا للمبادرة اللبنانية في شأن عقد المؤتمر الدولي، على غرار المؤتمر الذي عقد في دمشق يومي 11 و12 تشرين الثاني الجاري حول عودة اللاجئين السوريين. واعتبر ميزينتسيف أن انعقاد المؤتمر هو “العنصر الأول في تنسيق الجهود الدولية لحل واقعي لمشكلة عودة السوريين من الخارج”، مشيراً إلى أن روسيا تؤيد مبادرة الجانب اللبناني بعقده على الأراضي اللبنانية، وفق ما نقلت عنه وكالة “سبوتنيك” الروسية.

التحالف المشرقي

ويعيد الاقتراح اللبناني إلى الأذهان نظريات التحالف المشرقي أو التوجه شرقاً، ذاك الذي طرحه مسؤولون لبنانيون بعد الانهيار والعقوبات والضغوط الأميركية. واستُخدم شعار التوجه شرقاً في محاولة لابتزاز القوى الدولية، وتحديداً الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي.

لكن واشنطن لم تغير من سياستها، واستمرت بضغوطها، مقتنعة أن توجه لبنان شرقاً لن يؤدي إلى تحقيق أي مكسب للبنان. فالدول الشرقية غير قادرة على تقديم أية مساعدة لبلاد منكوبة. والذريعة المشرقية اللبنانية جزء من سياسة الضعفاء في الابتزاز الذي يجيده الزعماء اللبنانيون. والسياسة هذه توسعت بعد فرض العقوبات على جبران باسيل، الذي أصبح يطالب السفيرة الأميركية بالكف عن التدخل بالشؤون اللبنانية.

استفزاز أميركا

أما الاقتراح اللبناني لعقد مؤتمر يبحث إعادة اللاجئين السوريين في لبنان بناء على المبادرة الروسية، فله أكثر من هدف: الاستمرار في استفزاز الأميركيين. وحسابات متباينة داخل الفريق الواحد. فالفريق الذي ينتمي إليه مشرفية يريد تحسين علاقته بالنظام السوري وروسيا، طالما أن الآخرين لا يؤمنون بعودة اللاجئين في ظل بقاء نظام الأسد على رأس السلطة السورية، لا بل يعتبرون أنه لا يريد عودة اللاجئين.

أما رئيس الجمهورية وفريقه فيريدون القول للأميركيين: لدينا خيارات بديلة عنكم. وهذا في محاولة للحصول على اهتمام روسي بلبنان، بعد نكسات كثيرة أصيبت بها العلاقة بين الطرفين. فلبنان لم يتجاوب مع الكثير من المبادرات الروسية، على الرغم من توجيه دعوات كثيرة إلى مسؤولين لبنانيين للبحث في تقديم مساعدات عسكرية روسية للجيش اللبناني، فرُفضت بسبب العلاقة مع الأميركيين تجنباً لاستفزازهم. لكن لبنان اليوم يريد تحسين العلاقة مع روسيا، بعد نكبة باسيل الأميركية، ونكبة سواه أيضاً.

ويظن زعماء لبنانيون أن مجرد اقتراحهم مبادرة تتعلق باللاجئين السوريين، تستدعي فوراً اهتماماً أوروبياً ومشاركة فيها. فهم يطمحون بأن تشارك الدول الأوروبية في مثل هذا المؤتمر الذي يعقد في لبنان، على الرغم من عدم مشاركة الأوروبيين في مؤتمر دمشق.

ويظن مقترحو المؤتمر أن لبنان وضعه مختلف، وأن المقاطعة الأوروبية لمؤتمر دمشق سببها القطيعة مع النظام السوري. ويظنّ دعاة المؤتمر اللبنانيون أن مؤتمرهم المزمع يعيد الاهتمام الأوروبي بهم من بوابة اللاجئين السوريين.

في أحضان الأسد وإيران

وهذا المسار الذي يدفع السلطة اللبنانية إلى البحث عن أية فرصة للإيحاء بأن لديها حضوراً إقليمياً ودولياً، ولو كان مسرحه سوريا وروسيا وإيران فقط، يجعل البلد في عزلة أكبر. لانه لن يستدرج أي اهتمام، لا بل سيكون دافعاً للمزيد من الضغوط.

إنها لعبة خطرة يقودها لبنان، وقد تدفع إلى ممارسة المزيد من الضغوط الممنهجة على اللاجئين السوريين، ودفعهم إلى التظاهر أمام المقرات الدولية والمفوضية العليا لشؤون اللاجئين، أو إلى البحث عن مهرب من لبنان ولو عبر البحر في اتجاه أوروبا. ولعلّ هذا يستدرج الاهتمام الدولي.

وحادثة بشري التي حصلت قد تستخدم في هذا السياق، خصوصاً بعد أن حصلت عملية تهجير للاجئين السوريين من منازلهم.

كما أن ضعف بنى المعارضة سياسيًا وتنظيميًا، وقيام الدول المتدخلة في ملف الثورة بإضعاف دور تنسيقيات الثورة، واحتواء بعض منها، أدّى بصورة ما إلى ضمور دور هذه التنسيقيات، وتبعية كثير من قوى المعارضة لأجندات إقليمية ودولية مختلفة، وهذا الأمر انسحب على التشكيلات العسكرية (فصائل الثورة)، كما انسحب على بنية مؤسسة “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة”.

إن بيان “جنيف 1” عام 2012، والقرار “2118” عام 2013، هما من أسسا لصورة الحل السياسي للصراع بين النظام السوري والثورة السورية، وكان هذان القراران يعكسان ميزان قوى قائمًا على الأرض لمصلحة الثورة السورية، بينما أتى التدخل العسكري الروسي لمنع إسقاط النظام في الربع الأخير من عام 2015، ليغيّر في ميزان القوى لمصلحة النظام السوري، وهو أمر ارتبط بقرار دولي جديد غامض ومشوش هو القرار “2254” عام 2015، ويختلف عن سابقيه (بيان جنيف1 والقرار 2118) بتجاهله لتراتبية ثلاثية الحل، هذه التراتبية هي الحوكمة (هيئة حكم انتقالية تنتقل إليها صلاحيات منصب رئاسة الجمهورية وكذلك صلاحيات الحكومة)، والدستور، والانتخابات برعاية دولية كاملة.

إن المعارضة السورية التي اضطرت للقبول بالقرار “2254”، هي من بدأ سلسلة الانحدار حيال مطالب الثورة، وحيال تنفيذ القرارين السابقين، وهي فعلت ذلك لأنها بالأساس لم تمتلك القدرة على ضمّ الملفين العسكري والسياسي الثوري تحت جناحيها، وهو أمر سمح للقوى الخارجية بفرض مؤتمر “الرياض 1” ثم “الرياض 2″، ولم تحتمِ بحاضنتها الشعبية.

تشكّل “الهيئة العليا للمفاوضات” جاء عمليًا بقرار من أطراف دولية، كان لها مصلحة بإيجاد إطار سياسي، يشكّل “الائتلاف” جزءًا منه، إذ حاز “الائتلاف” في هذه البنية الجديدة، التي انفردت فعليًا بمسألة التفاوض، على نسبة 66% من عدد أعضاء هذه الهيئة، ثم بعد سنتين تقريبًا، أرادت المجموعة الدولية المتدخلة بالصراع السوري إضعاف “الرياض 1″ بحجة تشدده، فأتت بـ”الرياض 2″ الذي صار لـ”الائتلاف” فيه نسبة أعضاء 40%، ثم قامت المجموعة الدولية بابتكار ما سمي باللجنة الدستورية، وهي لجنة ينبغي أن تتشكّل وتقوم بعملها وفق القرار الدولي “2118” بعد تشكيل هيئة حكم انتقالية.

إن هذا الانحدار السياسي في قدرة المعارضة السورية على الإمساك بملف الصراع، كشف أيضًا عن أن المعارضة السورية المرتبطة بجذر الثورة (تغيير نظام الحكم الاستبدادي وبناء نظام حكم ديمقراطي) هي قوى خارج أطر هذه المعارضة بصورة عامة، وهي تفتقد إلى التنظيم والتأطير والبرنامج، لذلك بقيت محصورة في إطار الاحتجاج الصغير، (اعتصام، تظاهرات صغيرة، نشاط على السوشال ميديا).

إن المعارضة وقوى الثورة العسكرية كانتا مطالبتين منذ بدء التدخل العسكري الروسي، وغياب الدعم الحقيقي من “مجموعة أصدقاء سوريا”، بمراجعة استراتيجية عملها، فشروط الصراع وظروفه تغيرت، بينما هذه المعارضة لم تحاول تغيير استراتيجيتها، وهذا ما جعلها تخسر شيئًا فشيئًا على صعيد ميزان القوى، الذي رجح لمصلحة النظام وحلفه الروسي- الإيراني.

إن القرار “24” الذي أصدره رئيس “ائتلاف قوى الثورة والمعارضة”، الدكتور نصر الحريري، هو قرار أتى نتيجة موضوعية للسياق الذي مرّت به قوى الثورة منذ التدخل الروسي، أي سياق القبول بتقديم التنازلات.

هذا القرار، ينبغي ليس مجرد رفضه وطيّه، بل يتطلب القيام بمراجعة ثورية حقيقية، تقوم بها قوى الثورة والمعارضة، التي لم تنخرط بقبول سياسة فرض الأمر الواقع، التي تحاول قوى دولية تمريرها على السوريين.

المراجعة المطلوبة تتمثل بعمل، وليس بمجرد هجمات كلامية، وهذا العمل يتلخص بمراجعة جديدة للسياسات التي تنتهجها المعارضة وقوى الثورة، ووضع إطار تنظيمي لتوحيد الجهود، التي تمنع مزيدًا من الانحدار والتفريط بمطالب السوريين الخاصة بالانتقال السياسي الحقيقي، من دولة استبدادية إلى دولة مؤسسات ديمقراطية، وهذا أمر يحتاج إلى الالتفاف حول “هيئة التفاوض السورية”، لدعم إصرارها على تزامن السلال الأربع، ومنع النظام من اللعب بالوقت، عبر جدولة المفاوضات. وبإمكان “هيئة التفاوض” اللجوء إلى الحاضنة، التي بدأت فعالياتها تولد من جديد، كي تقوّي موقفها التفاوضي.

إن الدعوة إلى عقد مؤتمر للقوى الشعبية الثورية والوطنية كانت خطوة صحيحة، ولكنها خطوة ناقصة، بسبب عدم دعوة جميع قوى المعارضة إلى التباحث حول المؤتمر، وأهدافه، ومخرجاته، على قاعدة رفض تقديم التنازلات السياسية، التي تسمح باستمرار النظام بصورة جديدة.

انعقاد المؤتمر بصورة سريعة، ينبغي أن يتبعه تشكيل إطار عمل واحد، بأهداف محددة، مرحلية، أو استراتيجية، أي ببرنامج عمل ممكن وملموس، يمنع تقديم تنازلات، وهذا يأتي من خلال تحويل المؤتمر الشامل إلى مرجعية عمل وطني أساسية، هذه المرجعية يمكنها أن تلعب دور برلمان مؤقت، ريثما يتمّ تفعيل تنفيذ القرارات الدولية (بيان جنيف 1، والقرار 2118، والقرار 2254) كسلة واحدة متكاملة، تفضي إلى تشكيل هيئة حكم انتقالي تتلوه انتخابات بعد صياغة دستور للبلاد.

مؤتمر القوى الوطنية، كي ينجح بمنع التنازلات السياسية، يحتاج إلى مرونة عالية، بكيفية إدارة ملف الصراع مع النظام أمام المجتمع الدولي، وهذا يعني أن أي عمل سياسي لن ينجح من دون أن تحمله قوى الشعب السوري، أي بمعنى آخر، عدم تقديم تنازلات بخصوص بيان “جنيف 1” والقرار “2118”، والضغط لاستصدار قرار دولي يُجبر النظام على تنفيذ القرارات الدولية الخاصة بالصراع السوري.

إن وجود مرجعية لاتخاذ قرارات وطنية حاسمة “برلمان مؤقت”، ستمنع مؤسسات المعارضة من القفز فوق إرادة هذه المرجعية، كما ستجبر القوى الدولية المنخرطة بالصراع في سوريا على مراجعة استراتيجياتها السابقة، والكفّ عن تبديد مطالب التغيير السياسي التي يريدها السوريون، وهذا يجعل السلطة الحقيقية لإدارة الصراع مع النظام وأمام المجتمع الدولي بيد قوى الثورة من خلال هذا “البرلمان” الشامل لكل السوريين.

إذًا، العملية متكاملة، تتمثل بضرورة وجود مرجعية وطنية “برلمان مؤقت”، هي من يشرف على عمل المؤسسات التنفيذية (ائتلاف وهيئة تفاوض وحكومة مؤقتة)، وكذلك ضرورة التخلص نهائيًا من الفصائلية، والعمل على وحدة قوى الثورة العسكرية بجيش حديث مهني، لا يتدخل بشؤون الناس في مناطقه، وضرورة توسيع الحياة المدنية وتفعيل منظمات المجتمع المدني وقوى الرقابة بشتى مسمياتها.

هذا يتطلب تغيير بنية “الائتلاف”، وتغيير آليات عمله، ما يساعد على تجدده، ومنع استخدامه كأداة بيد قوى دولية لها أجندات خاصة بها في الصراع السوري، لا مصلحة للسوريين فيها.

فهل يستطيع مؤتمر القوى الوطنية السورية تجاوز عثرات المعارضة، أم أن الوقت لم يحن للتغيير الجدي للأمور، وأن ما يحدث ليس أكثر من رد فعل ينتهي بعد وقت قصير.

  • Social Links:

Leave a Reply