ياسر المسالمة
رحل عن دنيانا الرجل الكبير والمناضل العتيد منصور أتاسي, لم يكن رحيله اعتيادياً كما لم تكن حياته كذلك, حيث أشعل رحيله ينبوعاً من الحبر المسال في رثائه, كيف لا وقد كان ينتمي لقلّة وطنية سورية خسرتها ساحات النضال وابتلي بسواهم من المرتزقة والمتسلقة ظهر ثورتنا بما أعملوه فيه من طعن وتجريح في محاولتهم الركوب على ظهر أشرف الثورات حتى أحنوا ظهرها وباتت تكابد في المسير.
لقد كانت مسيرة الراحل الكبيرغنية, بل كانت عصارة من التجارب شهدت مراحل الصعود والهبوط, الهزيمة والنصر, لكنها كانت في كل المراحل ملحمة من الميثولوجيا السياسية السورية, كيف لا ونحن نرى أثر الراحل في كل مكان, وتأثيره في رفاقه ومحازبيه, ناهيك عن طيب سمعته لدى أهله وأصدقاءه وكل من عرفه يوماً.
كان لي شرف التعرّف على الراحل الكبير في العام 2012م في القاهرة عاصمة جمهورية مصر العربية, عندما دعانا إلى بيته الكريم في منطقة المعادي لحضور أمسية فنية للفنان عبد القادر المنلا, كانت تلك المرة أول مرة ألتقيه, وبرغم ذلك أبدى حفاوة لا مثيل لها كأنما كنا أعز أصدقاءه.
توالت بعدها لقاءاتنا, تارة في المظاهرة, تارة في صالون زيتون السياسي الذي أسسه صديقنا شادي الشحادة, تارة في اجتماعاتنا وندواتنا وعملنا السياسي, لا زلت أذكر التفاصيل, تفاصيل أول لقاء سياسي معه, عندما لم يجد حرجاً في أن يلتقينا في بيتنا المتواضع في وسط البلد ليناقش معنا التعاون, كان يحادثني بعد كل حدث لننظم مظاهرة أو تحركاً, لا زلت أذكر موقفه عندما هاجمت مظاهرتنا عصابات البلاك بلوك أمام الجامعة العربية, كيف حمى السيدات المشاركات برغم خطورة الموقف, لكنه لم يغادر كما فعل كثيرون يومها.
ذات يوم خابرني ليقترح تأسيس جسم يعنى بالسوريين وثورتهم في مصر, بعد عمل طويل قررنا الدعوة لاجتماع عام في مقر أحد الاحزاب المصرية, كان الحضور أزيد من مئتي ناشط وناشطة من السوريين, قبل الاجتماع كنا نناقش رئاسة الجلسة, كان المنطق يقول أن يكون هو رئيس الجلسة, لعمره ومكانته وخبرته, وللزخم الذي سيعطيه للإجتماع, لكنه ببساطة رفض, أصر أن أكون أنا مديراً للجلسة, قال يومها: “هي ثورتكم معشر الشباب وحقكم أن تتصدروا المشهد, نحن ننصحكم فقط”, وبرغم صعوبة الموقف إلا أن دعمه جعل من هذا الاجتماع واحداً من أنجح اجتماعات السوريين برغم محاولات إحدى الحضور إحداث بلبلة, هذه السيدة اليوم من أعتى شبيحة نظام بشار الاسد.
على الصعيد الشخصي جمعتنا ساعات طوال في مقهى زهرة البستان, هذا المقهى الذي بات قهوة السوريين في القاهرة, كان لي فيها مكان ثابت وكان الفقيد يأتي باستمرار ليجالسنا, كنا نلعب الطاولة كثيراً, الجميع كان يشارك, وكان الراحل ذا حضور لطيف, يمازح هذا, ويسأل عن ذاك الغائب, ويناقش الأحداث ويقدم تحليلاته واستنتاجاته وخبراته, كنا ننهل منه كما الظمآن, كانت متعتي الأكبر عندما يجتمع على طاولتي مع الراحل الكبير سلامة كيلة, تلك اللحظات أسست لوعيي وأثرت فهمي لما يدور حولنا.
تعجز هذه السطور المقتضبة عن الحديث عن فقيدنا الكبير, بل تعجز كلماتي عن الوصف والرثاء, لتبقى لنا الذكرى وقوداً دافعاً للعمل ومنهجاً في حياتنا الشخصية, لم يكن يحب أناديه أستاذ منصور, حتى عندما حادثني من اسطنبول مطمئناً, كان يحب أن أناديه عمي أبا مطيع, لذا أقول وداعاً, وعهداً, ووفاءاً, إلى رحمة الله, عمي أبا مطيع.
Social Links: