بعض الخواطر عن العمل مع منصور أتاسي على آمال وتطلعات مشتركة
عام مضى على رحيل الصديق والرفيق منصور اتاسي ” ابو مطيع” ، ومازال صوته الرخيم في أذني وصورة وجهه الباسم الوديع حية في ذاكرتي، لم نلتق منذ مغادرته سوريا إلى القاهرة، وكنا نخطط لقدومي إلى تركيا وفشلت محاولات عدة في وصولي إلى تركيا قبل أن يصلني ذلك الخبر عن رحيله المؤلم. لسنوات طويلة لم ينقطع تواصلنا وتبادلنا للرأي وحوارنا حول سوريا والسوريين حيث كان حريصا على مشاركة الآخرين وسماع آرائهم، وهذه واحدة من مزاياه التي يتمتع بها، مستمع جيد ومنفتح على الحوار والشراكة مع الآخرين.
تعود علاقتنا إلى انتمائنا إلى الحزب الشيوعي ( خالد بكداش)، حيث كان خيارنا في ذلك الوقت عند الانشقاق الثاني للحزب. في لقاءات حزبية شعرنا بتقارب موقفينا النقديين ودعاني للقاء مع كادر من منظمة حمص المدينة حول الأوضاع الاقتصادية في ذلك الوقت. بعد توتر مع الحزب خرج لينضم إلى قدري جميل في ” «اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين”، واتصل بي حينها والتقينا وكان الرفيق والصديق العزيز توفيق البطل ( الذي لم يصمد قلبه أمام مآسي السوريين فغادرنا مبكرا ، 2011)، فقلنا له أن قدري جميل غير جدير بالثقة وهو شخص انتهازي وكنا قد قلنا هذا الرأي لقيادة الحزب، ننصحك بالابتعاد عنه، إنه يستثمر بفكرة عزيزة على قلوب الشيوعيين وهي وحدتهم لتحقيق أغراض أخرى خاصة، وتوصل من خلال عملهما المشترك إلى الاستنتاجات التي كنا قد توصلنا لها، لم يثنه فشل المحاولة من تكرارها فعمل مع رفاق آخرين على تأسيس ” هيئة الشيوعيين السوريين” وهذه ميزة أخرى تمتع بها منصور وهي عدم اليأس والتعلم من الفشل، كان هناك لقاءات أحيانا مع مجموعات يسارية معارضة، كنا نلتقي فيها.
بعد اندلاع الثورة السورية، كان منصور من الأوائل المنضمين لها وتكريس الوقت والجهد مع ” هيئة الشيوعيين السوريين” للمشاركة في كافة الانشطة المدنية للثورة، وانضم إلى “هيئه التنسيق لقوى التغيير الوطني الديمقراطي”، ومن أهم مساهماته كان المشاركة في لجنة من شخصيات ومثقفي حمص لحماية السلم الأهلي ومنع التجاوزات ذات البعد الطائفي والتدخل لتحرير المخطوفين؛ تم اغتيال بعض اعضاء اللجنة واعتقال الآخرين والذين كان من بينهم منصور، النظام والقوى الداعمة للعنف والاقتتال الطائفي لم يكن يرضيها وجود مبادرات شعبية تعتبرها معطلة لمشروعها. لم يهزم الاعتقال منصور خرج قويا ومصرا على سلمية الثورة ومدنية أهدافها.
كان هناك حاجة لتأكيد دور اليسار في الثورة، والذي لم يحاول التأكيد على هويته وعمل على تحقيق أوسع تضامن وتعاون مع جميع القوى الوطنية والديموقراطية، وفي ذات الوقت كان اليسار الرسمي الاحزاب الشيوعية والقومية قد التفت حول النظام وتبنت مقولته في “المؤامرة الكونية “، واتهمت الثورة بالمؤامرة السلفية والاخوان المسلمين المنفذين لمؤامرة خارجية، بادرنا مجموعة من الشيوعيين السابقين إلى تشكيل ” تجمع اليسار السوري الديموقراطي” وشارك منصور في التأسيس وعملنا معا على هيكلة الجسم الجديد الذي لم يكن فيه تراتبية، وهيئات قيادية وقاعدية، بقي منصور في حمص بعد خروجه من المعتقل إلى أن ازدادت عليه الضغوط فقدم إلى دمشق وعملنا معا في دمشق وكان يلح على تشكيل حزب وكنت أرى أن المرحلة غير مواتية نتيجة الظروف التي تمر فيها البلاد واضطراب الافكار والاراء والحاجة للحوار والبحث والتقييم الموضوعي وغيرها من المسائل السياسية والايديولوجية، وعملنا في الوقت ذاته على فتح حوارات مع قوى يسارية مع الثورة لتشكيل ” تحالف اليسار الديموقراطي” الذي شارك في الحوار والاعداد له عدد من الهيئات والمنظمات اليسارية من كافة انحاء سوريا وأغلب تلك الاجتماعات كانت تتم في منزل الصديق العزيز سلامة كيلة وتوقفت تلك الاجتماعات حينها نتيجة تلقي سلامة تحذيرا من قبل الأمن، تمت متابعة الاجتماعات لاحقا دون التوصل إلى صيغة نهائية للورقة التأسيسية، وتدريجيا توقفت تلك اللقاءات.
استمر التواصل مع منصور بعد انتقاله إلى القاهرة ومن ثم إلى اسطمبول، واستمر منصور في دأبه لتأسيس حزب سياسي وفي نيسان 2015، تم تأسيس “حزب اليسار السوري الديمقراطي”، رغم جميع العقبات و الصعوبات التي واجهته لم يتنازل منصور عن بناء الحزب فهو بالنسبة له الأداة الرئيسية للعمل على تحقيق تطلعات وآمال الشعب السوري في الخلاص من الاستبداد وبناء الدولة الديموقراطية العلمانية العادلة، نشط الحزب وفتح حوارات وعقد ندوات عبر الانترنت كان لي شرف المشاركة في عدد منها، وكنت أعجب لقدرته على التحمل والعمل الدؤوب حيث كانت معظم هذه الندوات تتم مساء وفي وقت متأخر ويمتد الحوار فيها أحيانا لساعات، إضافة إلى اصدار صحيفة الكترونية يومية، والتواصل مع المنظمات السورية والتركية وبناء علاقات تضامن وتحالف، كان الهم العام هو الشاغل بالنسبة له وأموره الشخصية ثانوية نادرا ماكان يتحدث عنها في حال سئل عنها.
اليوم عام على رحيل منصور الذي مازال ماثلا امامي بكل الشجاعة والاقدام على قول الحقيقة وتحمل عبئ ذلك بكل اقتدار، إنه من الشيوعيين القلائل الذين ينتمون إلى الشيوعية وليس إلى حزب ورايتهم صدق الانتماء والاخلاص للناس لم يتغير خلال تلك السنوات الطوال من المواجهة مع قيادات فقدت مصداقيتها وحسها الثوري إلى مواجهات مع الاستبداد ثم اللجوء القسري وألمه، كان منصور اتاسي حاضرا في معارك الوطن من أجل الحرية والعدالة والمساواة، كان من ذلك الرعيل الشامخ والمضحي وضع حياته في خدمة قناعاته و الصالح العام تحية إلى ذكراه ولتكن منارة لرفاقه لمتابعة دربه.
نبيل مرزوق
Social Links: