ولأنه صديقي!!
ولأن منصور أتاسي كان صديقي، وايجابياته لا تحصى، سأتكلم بصراحة عن بعض ملاحظاتي السلبية، ومنها أو أولها هو انخراطه بالعمل السياسي من الصباح وحتى آخر الليل. لقد تعارفنا في عام 1973 أو عام 1974، في مطعم الأمير الحمصي، لصاحبه رزوق. كنا في العشرينيات من أعمارنا، وقد بدأنا في اكتشاف العالم، كل على طريقته وبأدواته، وكان من موضة ”اليسار“ أن نتعاطى المشروبات الكحولية وندخن، وكان مطعم الأمير، الملاصق للتدوليدو، المكان الأرخص بالنسبة لنا، لم يكن منصور أتاسي من المداومين معنا، فقد كان أكثر جدية من شلتنا، التي تضيق وتتسع حسب الخصومات والمنافسات والقصائد، وحسب الأحلام الثورية والغزل وتأثير الخمرة، لذلك لم يكن منصور، المستقر جدا في قناعاته، يجد راحته بيننا، فهو يريد أن يتكلم بالشيوعية، ويريد أن يصغي له الأخرون، وكنا من هؤلاء الآخرين، ولكن القلقين وغير المنضبطين.
وتمضي الأيام، ويفتتنا حافظ الأسد، مع تفتيته للمجتمع السوري، ويلاحق كل من يتكلم بالسياسة من السوريين، وفي مقدمتهم اليساريين على أنواعهم، في عزّ صراعه مع الطليعة المقاتلة والاخوان المسلمين، حتى الذين كانوا في خدمته، في ”الجبهة الوطنية التقدمية“، فقد حولهم إلى موظفين في خدمته، وللثناء على ”قائد المسيرة“، ومن خولت له نفسه أن يوجه بعض النقد لسياسات الزعيم، كان نصيبه الطرد من ”جنته“، في الحد الأدنى، وكان منصور أتاسي أحد الذين تركوا مبكرا الخدمة في ” أحزاب الجبهة العتيدة“ لأن هذه الأحزاب لم تعد تمثل الناس الذين كانوا يتكلمون باسمهم.
غرقت في السجن الأول كبعثي، ثم جاءت الخدمة العسكرية، وبعدها العمل في لبنان، ثم العمل في تجارة الكتب، ومن جديد السجن، وبعد ذلك الهرب إلى كندا، وكانت لقاءاتي بمنصور تحدث بالمناسبات، دون متابعة ودون قطيعة، فقد بقي خيط الود والاحترام موصول بيننا. بدأت الثورة التي كنا نحلم بها، كنت في كندا أتابع الأخبار ، وكان منصور من أوائل المنخرطين في الثورة وحوارات الناس، ولم ينجو من التهديد من قبل النظام الأسدي، فقرر الخروج إلى القاهرة، ومن هناك أعدنا تواصلنا كصديقين قديمين يحلمان بالتغيير وإساقط الاستبداد، ولم نتفق في الوسائل، كان المرحوم يريد أن نمارس العمل التنظيمي، وكنت غير مقتنع بذلك، فأنا بعيد عن الأرض جدا، وعن الناس أيضا، فقد مضى على وجودي خارج سورية ما يقارب ربع قرن، فكيف لي أن أعمل في تنظيم سياسي؟ كنا أصدقاء، وحافظنا على ذلك.
في عام 2013 شاركت في أحد مؤتمرات المعارضة السورية في اسطنبول، ومنذ اليوم الأول شعرت وكأنني لم أغادر سورية، وكأن الثورة لم تبدأ، وكأن الحياة جامدة في عقول الكثير من السياسيين، وجاء منصور أتاسي مفتشا عني، فهو غير مدعو، وقد استغربت ذلك، ولكن وجدت في حضوره مخرجا لي، فدعاني الى بيته للعشاء، وكان عنده عدد من السياسيين السوريينو يناقشون مستقبل الثورة، وكنت ساذجا فصدقت.
في السنوات التالية وقعت في حب إسطنبول، فقد كانت نافذتي على سورية، وكان منصور حاضرا دائما، بدفئه ومساعدته لي ولغيري، وكانت أسرته تعاملني كواحد منها، واستطعنا ترميم صداقتنا بسرعة، مع احتفاظ كل واحد منا بمكان، هو بإصراره ومثابرته على العمل السياسي الفكري والتنظيمي، وأنا بمتابعة التعرف على السوريين الاسطنبوليين، والآثار العثمانية والبيزنطينية التي سحرتني، وجعلتني أعشق تفاصيل التاريخ السوري والمجتمع السوري، الذي أقتلعت منه.
كنت أرى حركة منصور اليومية، وأشاهد إرهاقه لأسرته بسبب ممارسته للسياسة وخدمة الناس، وكان يتجاهل الوهن والامراض التي بدأت تغزو جسده المنهك، ولكنه كان مصرا على المتابعة، وقد لفت نظره أكثر من مرة إلى ضرورة الراحة، ونصحته بالتخلي عن العمل السياسي، ولكنه لم يسمع، وأدركت، فيما بعد، أن منصور أتاسي لا يعرف معنى للحياة خارج العمل السياسي، فصمت مرغما.
في أحد الأيام، وكان قد خرج من وعكة صحية، التقينا في أحد المقاهي في تقسيم، وكنا بحدود العشرة أشخاص، ودار نقاش حول السياسة وممارسات ممتهني السياسة السوريين المعارضين، فقلت له بكل الحب، وعلنا، عليك يا صديقي أبو مطيع أن تستقيل من حزبك والعمل السياسي كله، دع الأمر للشباب، فهم أكثر حيوية، ويفهمون حاجات مجتمعهم بطريقة مغايرة لفهم ”الختايرية“، اتركهم يعملون، واستمتع أنت بما تبقى لك من حياة.. لم يرد منصور، ولم يقطب، تابع حديثه وكأنه لم يسمع ملاحظتي، فقررت بعدها الصمت والاكتفاء بمحبة منصور أتاسي.
لقد فاته، رحمه الله، الكثير من متع الحياة وجمالياتها بسبب غرقه في السياسة، ولكن أظن أن العشاق دائما هكذا، لا يرون إلا المعشوق.
ستبقى صديقي يا منصور أتاسي….
من ميخائيل سعد،
مونتريال كندا، الأول من كانون أول 2020
Social Links: