خمسة عشر عاماً مع المناضل 1/5

خمسة عشر عاماً مع المناضل 1/5

زكي الدروبي

تمهيد:

يصعب على أي أحد استعراض أكثر من خمسة عشر عاماً في أسطر قليلة، فكيف وأنا أتحدث عن شخصية مثل منصور الأتاسي؟ لهذا سأحاول الحديث عن تفاصيل لا يعرفها الكثير، وسأركز على سنوات ما قبل الثورة وحتى انطلاقتها.

لقد كانت السنة الماضية منذ لحظة إعلان الوفاة وحتى لحظة كتابة هذه الكلمات من السنوات الصعبة جدا في حياتي، فقد فقدت صديقاً ليس كمثله أحد – رغم اختلاف العمر بيننا – وكتبت حين وفاته مقالة رثاء عنونتها في وداع الأب والمعلم، محاولاً تلخيص صداقة من نوع فريد، جمعت بيني كشاب بالثلاثين من عمري حين تعرفت عليه، تعرض للخذلان من الجميع، وبين رجل في النصف الثاني من عقده الخامس غمرني بعطفه وحنانه، وعمل بجهد كبير لاحتواء نزقي وغضبي الكبير من هذا العالم القاسي، الذي يقتل فيه الانسان في كل مكان من أجل مصالح شخصية لأصحاب شركات يملكون الملايين، ولا يعبأون لموت الملايين من أجل زيادة ثرواتهم.

كانت البداية في الاعدادية حين تشربت من أستاذ التاريخ والجغرافيا الأفكار الكبرى، وعلمت أننا ننتمي لحضارة عظيمة، وحلمت ببسمارك العرب الذي يوحدنا في دولة قوية، لم يكن استاذي الخمسيني بعثياً، إنما كان حالماً كما أصبحت، وحين وقعت عيناي على مكتبة والدي قرأت فيها الكثير الكثير من الكتب، ومن بينها تاريخ أوروبا من القرون الوسطى حتى ما بعد الثورة الفرنسية، فزاد شغفي وبحثي عن المخلص، فخدعت بداية في صدام حسين الذي تحدى الولايات المتحدة الامريكية، وأرسل الصواريخ إلى اسرائيل، وبدأ بتوحيد الدول العربية عبر احتلال الكويت، والقضاء على “مشيخات الخليج العفنة”.

التقطني حزب البعث معبئاً جاهزاً، فخدعت مرة ثانية، وهذه المرة كانت بحافظ الأسد، واعتقدت بأنه المناضل الأوحد الذي سيوحد الامة العربية، ويقضي على الكيان الصهيوني العدو، وما أن أنهيت المرحلة الثانوية في منتصف التسعينات، وخضعت خلالها للعديد من الدورات الصحفية في الشبيبة، حيث تطورت بسرعة بالصحافة، واشتريت كتب متعددة عن الفنون الصحفية المختلفة قرأتها بنهم، حتى أصبحت قيادياً في منظمة الشبيبة في لجانه النوعية المتعلقة بالصحافة.

لم أغرق في الايديولوجيات والتركيبة التنظيمية، إذ بقيت حتى انتهائي من الثانوية نصيراً بالشبيبة، ولكي احصل على الشهادة الثانوية كان لابد من أن أصبح عضواً عاملاً في الشبيبة، ومن ثم نصيراً في البعث.

في أواخر التسعينات كان لدي تساؤلات كبرى، عن الفساد الذي وجدته في الشبيبة، وعن غيرها من القضايا، لكن التساؤلات كانت تقف عند عتبه كبير الآلهة، نعم حافظ الأسد كان إلهاً ولم يصل شكي إليه، ولم أكن أجد أجوبة للأسئلة الكثيرة التي تدور في ذهني، بأي صفة نقل بشار الأسد رسالة من الرئيس لأحد أمراء الخليج؟ هل لأنه ابنه كما يقال؟ فكان جواب أمين الفرقة الحزبية : – غير المقنع لكني لم أجد مصدر معلومة آخر، فقد كان كل شيء معقم، لا صحف لا مجلات لا تلفزيونات .. فقط قناة غصب عنه رقم واحد ورقم اثنان –  هو رفيق مثلك تماماَ، كلفته القيادة بمهمة وذهب لتأديتها، وقد تكلفك القيادة أنت بمهمة ما بيوم من الأيام وعليك تأديتها.

تكاثرت الأسئلة، ولم أجد الإجابة حتى جاءت وفاة حافظ الأسد وتوريث بشار، فكانت الصدمة التي أيقظتني، وانتشرت الفضائيات والانترنت، وبدأت رحلة البحث عن الحقيقة، وبدأ معتقلي الرأي بالخروج من معتقلات النظام، وبدأت التعرف عليهم والاستماع لقصصهم.

كان في صدري بركان ضخم يريد الانفجار ليطيح بكل ما حوله، وقد أطلق هذا البركان انفجارات صغيرة مكتومة، عبر الـ  “بخ” على الجدران رفضاً لانتخابات التوريث مع الصديق عمر ادلبي، أو عبر المشاركة في الانتخابات والتصويت ب (لا)، ومن ثم ضرب عنصر شرطة على باب القصر العدلي بحمص لأنه دفعني، وتلاسن كان قد يفضي لضرب موظف في مديرية مالية حمص، و… الخ.

جاءت انتخابات مجلس الشعب الأولى بعد التوريث، وسألت والد صديقي عمر، الحاج منيب رحمه الله وهو إمام وخطيب مسجد في حمص، من ستنتخب يا حاج، فقال سأنتخب منصور الأتاسي، استغربت وقلت له لكنه شيوعي، وأنت مؤمن وخريج الأزهر الشريف و…، فأجابني أنا إنسان مؤتمن على الكلمة، ويجب أن أوعي الناس، وانتخابي لمنصور الأتاسي – لم أكن قد تعرفت عليه شخصياً- ترسيخ لمبدأ انتخاب البرنامج الانتخابي، فهو الوحيد الذي احترمني كناخب، وأعلن برنامجاً انتخابياً، أما من تبقى فكلهم وضعوا صورهم يضحكون، مثل “اللافاشكيري”، قالها رحمه الله ساخراً منهم، فقد كان ذو نكتة، وكان هو الآخر يملك قلب الشباب، واعتنى بي، ونبهني لحقيقة ومضمون الإسلام، بعيداً عن الشعارات البراقة، والعبادات التي لا يكون هدفها الله سبحانه وتعالى، إنما المراءاة.

شاركت بالانتخابات وانتخبت أبو مطيع، وتعرفت بعدها على جريدة قاسيون لدى الصديق المرحوم ثائر سلوم في دمشق، وكان مراسلاً لجريدة “الزمان” اللندنية في سوريا، وأعجبني سقفها المرتفع، فأرسلت لأبو مطيع على صندوق البريد رسالة، أطلب منه الاشتراك في الجريدة، مع استعدادي لدفع الـ 300 ليرة  سنويا رسم الاشتراك، ونوهت بأنني انتخبته في انتخابات مجلس الشعب، وكان أشد ما أخافه عدم ثقته بي، وخوفه من ارسال الجريدة، وحاولت تضمين أسماء عائلتي وأجدادي، وكل التفاصيل المتعلقة بي ضمن الرسالة، ليطمئن لي.

بعد فترة أتى من شخص طرفه معرفاً عن نفسه أنه من طرف منصور الأتاسي، ومعه رسالة مكتوبة بخط يد أبو مطيع، وقدم لي جريدة قاسيون، ومن خلاله وبرفقة صديق آخر من رابطة العمل الشيوعي تعرفت على أبو مطيع بشكل شخصي، ومنذ تلك الأيام لازمته بشكل يومي تقريباً، ولم أفارقه إلا للضرورات القصوى، كاعتقاله في حمص، وسفري للقاهرة بعدها، وسفره هو من القاهرة لتركيا، بعد انقلاب السيسي، وزيارة الأمن المصري له في منزله، وتهديده بضرورة ترك القاهرة، لأنه أعلن موقفاً سياسياً مناهضاً للانقلاب العسكري، رغم خلافه مع الاخوان المسلمين، وانتقاده الشديد لسياستهم، لكنه كان يرى أن الخلاف السياسي يحل عبر الأساليب الديمقراطية، وصناديق الانتخاب، وليس عبر الانقلابات العسكرية، وكتب يومها منشورا على صفحته قال فيه : تعاون حكم المرشد والفلول والعسكر على وأد التجربة الديمقراطية الوليدة في مصر.

سوريا بلد غير آمن لعودة اللاجئين والنازحين في ظل بقاء الأجهزة الأمنية ذاتها منذ عام 2011

  • Social Links:

Leave a Reply