د. يحيى العريضي – تلفزيون سوريا:
السوريون، بمختلف أطيافهم ومواقفهم ومواقعهم، يعرفون أن لا قيمة لدستور في بلدهم. لنصف قرن، ما عهدوا احترامًا لدستور أو عملاً به، إلا عندما يكون بخدمة الحاكم. القانون يُختَرق، القضاء يباع ويشترى، والتشريع يُفصَّل ويُسَن ليناسب الحاكم.
الدستور الذي عهدوه منذ بداية سبعينيات القرن الماضي تم تفصيله على مقاس الحاكم. طوال هذه السنوات، يضيف الحاكم إليه، يحذف منه، أو يغيّره كما يشاء، دون رادع أو مسؤولية أو وازع أخلاقي. نسي السوريون أن عندهم دستوراً. ما عرفوه وعاشوه كان قوانين الحاكم العرفية، وبطش مخابراته، وبلطجية ميليشياته، وفلتان إدارييه وسياسيه، بغياب كامل للدستور أو قوانينه.
يدرك السوريون أن مشكلتهم ليست في الدستور، بل بغياب من يحترم إنسانية الإنسان وحريته وحقه في حياة حرة كريمة في بلد سيد حر مستقل. يعرف السوريون أن ما يُسمى “الدستور” في بلادهم لم يحمهم من تسلُّط الحاكم، أو فلتان قطعانه الأمنية والعسكرية أو التغول في دمهم وكرامتهم، أو من استباحة بلدهم بميليشيات وقوى خارجية سحقت من يعارض الاستبداد. بالمختصر، لم ينفعهم في منع مصيبتهم، عندما طالبوا بالحرية المنصوص عليها في بنوده.
بعد اقتناع العالم- حتى روسيا التي حمت النظام بجبروتها العسكري- بأن لا حل في سوريا إلا الحل السياسي، لم يبق للسوريين إلا العملية السياسية، التي يمكن أن تعيد حقوقهم وبلدهم إلى سكة الحياة. صدرت القرارات الدولية المأمولة في تحقيق ما يصبون اليه، إلا أن روسيا سعت إلى إفراغ تلك القرارات من مضامينها. عندما استمر خرق هذه القرارات، علّقت الهيئة العليا للمفاوضات لقاءات جنيف، فأدار العالم ظهره للقضية السورية لأكثر من عام سقط خلاله معظم ما يُسَمّى “المحرر”. ابتدع الروس مسار “أستانا”؛ وعبره أجهضوا أهم بند في القرارات الدولية /وقف إطلاق النار/، وحولوه إلى “خفض تصعيد”؛ عادوا وقضموه.
حاول الروس أيضاً إقحام بعدٍ سياسي في “أستانا” للإجهاز على مسار جنيف بالكامل؛ إلا أن ذلك أُفشل، فخرجوا ببدعة “مؤتمر للشعوب السورية” في سوتشي، حيث تمخض عنه فكرة تشكيل “لجنة دستورية”، أرادوها أن تكون برعايتهم وتحت إشرافهم؛ إلا أن اشتراط الأمم المتحدة حضور “سوتشي” بجعل اللجنة برعاية وإشراف أممي وطبقاً للقرار ٢٢٥٤، وإلا فقدت شرعيتها، جعل الروس يقبلون بذلك مستمرين بادعاء وصايتهم عليها. من جانبه، نظام الأسد كان رافضاً لها جوهرياً. ولكن، لأسبابها، دفعته موسكو لقبول اللجنة مستمرة بمحاولاتها في جعل مفاعيلها على قياس مصالحها، وحسب مزاج منظومة الاستبداد.
بناء على كل ذلك، استمر النظام بالتعنت والتملص والتلاعب والتصرف بلا مسؤولية تجاه سوريا والسوريين، حيث هاجسه الإبقاء على منظومة الاستبداد، واستخدام “تجاوبه” للتمثيل على العالم بأنه يريد عملية سياسية وصفها رأسه “باللعبة السياسية” فاضحًا نية منظومته. من هنا كان الموقف والمسلك و الأداء خلال جولات الدستورية؛ ومن هنا كانت المخالفات للقواعد الإجرائية المتفق عليها: بداية من التبرؤ من وفد السلطة، إلى نعته بالوفد الوطني، مروراً بالتشكيك بوطنية الوفود الأخرى، وصولاً إلى طروحات لا علاقة لها بتعديل أو كتابة دستور كالحديث عن “الاٍرهاب”، الذي لا يختلف اثنان على أن نظامهم قائم عليه وممارساً له، بما في ذلك استخدام الأسلحة المحرمة دولياً، وكقتل المعتقلين تحت التعذيب، والاستمرار بالحديث عن “المؤامرة الكونية”، التي لو استهدفته، لما بقي أياماً؛ ولكنها فعلاً استهدفت سوريا وشعبها تاركة منظومة الاستبداد تفترس شعباً بلا معين.
أمام كل هذه المعطيات، يتابع السوريون الآن من ينبري لكتابة دستور لهم؛ فها هم يسمعون ويتابعون من ضفتهم لجنة مؤلفة من أناس لم ينتخبونهم يتحدثون عن الحرية والعدالة والحقوق وفصل السلطات وتحديد صلاحيات الحاكم، وضوابط لا تسمح بأن يكون حاكماً بأمره؛ وفي الضفة الأخرى مجموعة تمثل نظاماً كتب دساتيراً داسها بحذائه؛ نظاماً اعتقلهم، وقتلهم، وشردهم، ودمر حياتهم وبيوتهم بقانونه العرفي منتهكًا الدستور والدسترة.
أخيراً وليس آخراً، طالما توفر بصيص أمل بتغيير، سيستمر وفد المعارضة بالالتزام بالقواعد الإجرائية ومدونة السلوك للجنة؛ وبالتصرف بمسؤولية تجاه القرار الدولي الحافظ لحق السوريين؛ سيستمر متحملاً الجلوس مع بعض مَن يشاركونه بحمل الهوية ذاتها (رغم فقدان نسختهم منها لأي حس بالمسؤولية تجاه شعب وبلد دمّره الاستبداد الذي يسلب إرادتهم وضميرهم). سيستمر وفد الهيئة لأنها البقعة السياسية الوحيدة المتبقية من عملية سياسية أطبق الروس كل منافذها.
الأمر الطبيعي أن يكون لسوريا دستور يليق بها؛ أما هذه الظواهر المخالفة للطبيعة الآدمية والأخلاقية، فلا تستطيع أساساً أن تعيش في ظل دستور محترم وقانون لا أحد فوقه.
سوريا القادمة تريد دستوراً لا مكان فيه لمنظومة الاستبداد؛ سوريا تريد دستوراً للحياة لا للموت. لقد ماتت سوريا الأسد. سوريا المستقبل تريد دستوراً لسوريا السيدة وأهلها الطيبين.
اللافت أن الحديث لا يتعلق بدولة عادية تعتمد الديبلوماسية والحوار السياسي والقوة الناعمة في علاقاتها، أو لتعزيز مكانتها، على الصعيدين الدولي والإقليمي، وإنما عن دولة مقاتلة، وتدخلية، تعتمد القوة العسكرية لفرض ذاتها وتوسيع نفوذها، لا سيما أن الحديث يتعلق بدولة دخلت في حرب طويلة مع العراق (1980- 1988)، وهي تخوض حرباً وحشية ضد الشعب السوري منذ 10 أعوام دفاعاً عن مصالحها وعن بقاء نظام الأسد.
Social Links: