خمسة عشر عاماً مع المناضل 3/5

خمسة عشر عاماً مع المناضل 3/5

زكي الدروبي

كيف تتعامل مع التحقيق:

جاء لمنزلي أحد رجال الأمن ولم أكن في المنزل حينذاك فأكد أنه سيأتي باليوم الثاني، حين علمت من اهلي في المساء بالزيارة اتصلت بأبو مطيع متسائلاً إن كان لا يزال في مكتبه، وأخبرته برغبتي في زيارته، فقال أنا خارج من المكتب الآن، فأكدت على رغبتي في زيارته فوراً، عاد ليعتذر بأنه خارج فوراً من مكتبه، فقلت له بلهجة حاسمة ” عم قول لك أنا جاي لعندك، مشوار الطريق، عشر دقائق ربع ساعة بصير عندك” فرضخ لإلحاحي.

امتطوت صهوة دراجتي الهوائية، وكالبرق وخلال ربع ساعة تقريباً كنت قد أصبحت عنده، ووجدت شخصاً غريباً يقف على باب مكتبه، وحين وصلت  إلى داخل المكتب سألت أبو مطيع، هل هذا الواقف على باب المكتب يتبع لك؟ خرج أبو مطيع للتأكد وعاد “لا يوجد أحد بالخارج” ، فأخبرته بالواقعة وزيارة الأمن لي.

هنا طمأنني وقال لي لا تخف هذه زيارة عادية للتخويف، سيسألك معلومات عامة عنك وأهلك وإن حصل وسألك عن الاجتماعات العامة التي حضرتها فلا تنكرها، هم يعرفون ومتأكدون من حضورك، وليكن جوابك بمقدار السؤال، لا تسترسل بالحديث، واحفظ الجواب وما قلت لأنه سيزورونك بعد فترة عدة مرات ليسألونك نفس الأسئلة وسيكون هناك تقاطع بين اجاباتك خلال الزيارات كلها. لا تخف حتى لو استدعوك للفرع، لا يوجد اعتقال، لن يعتقلوا شخصاً مثلك، لا يريدون صنع أبطال، الزيارة فقط من أجل التخويف، وإن حصل وتم اعتقالك وهذا نسبته ضئيلة جدا، فلا تخشى شيئاً وتأكد أن العالم بأسره معك، والفضائيات والانترنت ستتحدث عنك، وإن كنت تجلب لأهلك ربطة خبز واحدة، فسيأتيهم ربطتي خبز، أهم شيء هو عدم الاحساس بالضعف الناجم عن الوحدة، سيحاولون إشعارك بانك وحيد لا يهتم بك أحد، وهو أسلوبهم لكسرك وقد يحاولون تجنيدك، لا تخف أبدا.

قلت له عن الاستاذ نجاتي طيارة كان يضرب عن الطعام حال اعتقاله، ولا يأكل شيئاً حتى يخرج وسأفعل مثله، أجابني أبو مطيع رحمه الله، لاء، الإضراب عن الطعام سلاح خطير، ولست مدرباً عليه، لهذا يجب أن تأكل وتعتني بنفسك بالسجن وتلعب الرياضة ولا تضعف أبدا.

في اليوم الثاني أتى عنصر المخابرات وعرف عن نفسه بأنه من الأمن العسكري، ولا أخفي سراً أنني في لحظتها كدت أموت من الخوف، تمالكت نفسي ودعوته للدخول، وقال لي أنه قرأ مقالاتي وأحب ان يتعرف عليّ عن قرب، فقلت له أهلا وسهلا بك في منزلي، وبدأنا الدردشة سوية، وانا سرحت في الحديث عن السينما والأفلام وحركة الكاميرا والسرقات الفنية، فهذا المخرج المسرحي يسرق مشهدا من فيلم كذا ليوظفه في مسرحيته، وهذا الممثل الكوميدي المشهور يسرق قصة فيلم كاملة ليعرضها على أنها فيلم عربي و… الخ، وبعد نصف ساعة تململ عنصر الأمن وسألني مباشرة، “كيفو منصور” فأجبته على الفور منيح كتير، مبارح بالليل كنت عنده، ألم يخبركم المخبر اللي كان واقف على باب المكتب، فتعلثم عنصر المخابرات وقال نعم أخبرنا.

تابعت الهجوم على عنصر المخابرات، هل ذهابي إلى مكتب الاستاذ منصور الاتاسي ممنوع؟ إنه رجل كبير في السن وعنده خبرة حياتية، وأنا استقي من خبرته وتجاربه بالحياة، فإذا كان ممنوع الالتقاء معه أخبرني كي أتوقف عن زيارته، فتعلثم عنصر المخابرات وقال “لا أبداً مو ممنوع”.

لا أدري القوة الألهية التي نزلت عليّ، فقد كنت أحدثه بقوة وثقة، ولا أخشاه، وحين سألني عن أحد الاجتماعات قلت له نعم حضرته، إنه إعلان حمص، وكنت في لجنة الصياغة، فقال لا أحدثك عن اجتماع آخر، استغربت فلا أذكر غيره في ذلك الوقت، لكنه أنعش ذاكرتي بذكر اسم شخص فتذكرت الاجتماع.

نعم صحيح إنه ندوة عن قانون الأحزاب، أنتم قلتم ستصدرون قانون أحزاب، والتقينا في منزل أبو مطيع لنناقش القانون، فقال متسائلاً أي ؟ أكملت، كان هناك رأي يقول لنرخص للجميع، وليعمل الجميع فوق سطح الأرض ولتضربه الشمس، فمن يصلح يبقى ومن لا يصلح يختفي. كان هناك رأي آخر يقول بأنه ضد تشكيل أحزاب على أساس ديني أو قومي، لأن هذا النوع من الأحزاب سيضر بالوطنية السورية وسيخلق صراعات لا داعي لها.

من حضر الاجتماع؟ قلت له لا أعرف، كان أبو محمود وأبو علي وأبو خالد و…. وكان بيننا الدكتور عبد العزيز الخير وكان هناك لهجات مختلفة، شامي على حلبي على … الخ، طبعاً كنت أعرف أسماءهم لكن لم أبح بها لعنصر الأمن.

فيما بعد التقيت مع أبو مطيع وأخبرته ما حدث بالتفصيل، فقال لقد نبهتك لضرورة الاجابة على قدر السؤال، لماذا لم تلتزم، فاستغربت، قال لي أن تقدم معلومات مجانية له، ازداد استغرابي، فعاد أبو مطيع ليوضح، حين سألك عن الحاضرين قلت له ما بعرف، أبو فلان وأبو فلان ، وكان يجب أن تقف هنا، ولا يجب أن تذكر الدكتور عبد العزيز، وأن هناك لهجات مختلفة، قلت له يا ابو مطيع هم يعرفون أن الدكتور كان بالاجتماع، قال لي ليعرفوا بطريقتهم، مو شغلتنا نعطيهم معلومات ببلاش، نحن يجب أن نخفي وهم يجب عليهم البحث والتقصي، والشاطر إما ينجح بالتخفي أو يعرف المعلومات.

هنا تعلمت هنا ماذا يعني الجواب على قدر السؤال، واليوم حين يحادثني أحد ما راغباً بمعرفة معلومة ما قد تكون من أسرار الحزب أو الثورة، أتحدث معه لساعة من الزمن لكني ألف وأدور وأدخل في قصص أخرى – كما تحدثت مع عنصر الأمن عن السينما والمخرجين السينمائيين – وتفاصيل وإغراق بمعلومات معروفة معلنة لكني أبدا لا أبوح بمعلومة تعتبر من الأسرار الداخلية لنا.

كان أبو مطيع على حق

كنت أستمع لنصائحه وأنفذها بعد حوار وإقناع، وأنفذ ما برأسي إن لم أقتنع، وكنت أناقشه في ما أكتب من مقالات واستمع لرأيه وأنفذ قناعاتي فيما بعد، وحصل أن تمسكت برأي ونشرت مقالي كما هو، وفي مرات أخرى مزقت المقال بالكامل.

كان يحضني على أن يكون عملي الصحفي في خدمة مدينتي ووطني وليس لأجل الشهرة والقول أنني صحفي جريء لا يهاب أحد.

تعاونا على إعادة إحياء نادي السينما في حمص، وقال لي وأنا الذي كنت أكتب في النقد السينمائي حينذاك أن للثقافة والسينما دور كبير في تخفيف الاحتقان الطائفي بالمدينة، وعلينا أن نقوم بنشاط ثقافي وسينمائي بمضمون حقيقي دون أدلجة ودون تحميله بعداً سياسياً، يكفي أن يكون عناك نشاط ثقافي بعيداً عن سطوة الأمن والبعث ويكون متنفساً للحماصنة بمختلف توجهاتهم السياسية والمذهبية.

كان قد نصحني وأنا بطور تشكيل مجلس إدارة النادي باستبعاد شخصان، لكني لم استمع لنصيحته لأكتشف فيما بعد أن أحدهما كان رأس حربة في مشروع استيلاء المخابرات على النادي، والآخر كان معاونه المباشر، ليقول لي أبو مطيع معاتباً ما سمعت نصيحتي، ” لك هذا دكتور جامعة، وبعثي، ومعه فلوس، وقريبه في المخابرات، أنت شو يا …” فضحكت وقلت التوبة آخر مرة، وطبعاً لم تكن آخر مرة أعارضه فيها، وكان في كل مرة يحترم خياراتي، وكنت في كل مرة أكتشف فيما بعد أنه كان على حق وكنت أنا المخطئ.

كان يحضني على احترام الآخرين، وفي إحدى المرات كنت غاضباً من موقف أحد مثقفي حمص من محاولات عميل المخابرات السيطرة على النادي، وكنت أقول له : هذا فلان .. فقال لي الأستاذ فلان، فعدت لأقول له ليس استاذ، فلان، فعاد ليقول عيب بابا، اسمه الاستاذ فلان، فقلت له هو شخص مغرور جدا، صحيح أنه يحفظ مكتبة من الكتب في مخه، لكنه مغرور، أنت أفضل منه بكثير وأقول لك أبو مطيع وأناقشك وتناقشني واقنعك وتقنعني ولم أراك يوما تتمسك برأي، فقال أنا سياسي وهو مثقف.

السياسي والمثقف، متلازمة أضرتنا في ثورتنا كثيراً، فقد استلم بعض المثقفون وأساتذة الجامعات مؤسسات المعارضة، وأبعد عنها السياسيون، وهذه هي النتيجة اليوم، لقد أصابهم الغرور بسبب كمية الكتب الكبيرة والمعلومات الكثيرة التي يخزنوها في دماغهم كأمثال الحمير تحمل أسفاراً، ولهؤلاء عمل محدد وهو التنظير للثورة السورية، وللسياسيين عمل آخر هو قيادة العمل السياسي اليومي عبر التنظيم والنشاط وخلافه، إلا أن غرور المثقفون دفعهم لتبوء مكان ليس مكانهم، فهل كتب علينا نحن شباب الثورة أن نعمل بكل شيء، التنظير بالفكر والعمل السياسي وتحمل أخطاء الآخرون وتصحيحها ؟

  • Social Links:

Leave a Reply