الهيئات العامة المستقلة

الهيئات العامة المستقلة

طارق الكردي_سوريا

أثارت ورقة الأفكار الأولية التي قدمها وفد المعارضة في اللجنة الدستورية، حراكاً وطنياً تجسّد في عدد من النقاشات والتفاعلات التي ربما فاجأت الكثيرين، ولكن هذا الحراك في التعبير عن الآراء لا يمكن النظر إليه إلا من زاوية إيجابية، فهو من جهة أولى يدلّ على اهتمام متزايد لدى الشخصيات والفعاليات الثورية والمعارضة تجاه أعمال اللجنة الدستورية بشكل عام، وما يمكن أن يقدم فيها من طروحات قد ترقى لأن تكون مضامين دستورية في الدستور الجديد لسوريا، ومن جهة أخرى أثبت هذا الحراك أنَّ القوى السياسية والشارع الثوري والسياسي ما يزال بكامل عافيته ونشاطه ومحافظ على حيويته، وهو مستعد دائماً للدفاع عن مبادئ الثورة وقيمها وصيانة تضحيات السوريين في سبيل الوصول إلى تحقيق الانتقال السياسي وتنفيذ كامل للقرار ٢٢٥٤.

بالتأكيد أننا في وفد المعارضة متماهين ومتحدين مع هذه المطالب والمواقف، فمن حيث المبدأ إن قوى الثورة والمعارضة ليس أمامها إلا التمسك بالتنفيذ الصارم للقرارات الدولية ذات الصلة بالقضية السورية وفي مقدمتها القرار ٢٢٥٤.

والجدير بالذكر أن هذه الورقة لم تتضمن إلا نسبة قليلة جداً من الأفكار والموضوعات التي عمل عليها وفدنا، والتي تصلح لتكون مضامين دستورية حول المبادئ الأساسية، والسلطات الثلاث، والمحكمة الدستورية، والفصل بين السلطات، ومضامين دستورية حول بناء الجيش، وضبط الأجهزة الأمنية، وأيضا حول العدالة الانتقالية، وملف المحاسبة والمساءلة، وغيرها من المواضيع الأساسية والمهمة للشعب السوري، ولضمان مستقبل سوريا الخالية من الاستبداد والفساد والإرهاب، وسيتم طرح كل هذه الموضوعات وغيرها في الوقت المناسب وفقا للاستراتيجية التفاوضية الخاصة بوفد مرشحي هيئة التفاوض السورية.

ومن هنا، وحرصاً على توضيح بعض النقاط التي وردت في ورقة الأفكار الأولية أقدم هذا المقال ضمن سلسلة مقالات لشرح بعض النقاط التي أثارت حواراً ونقاشاً، وسأبدأ بشرح مفهوم “الهيئات العامة المستقلة”.

إن بعض الموضوعات التي تعالجها الهيئات العامة المستقلة دائمة ومستمرة، وبعضها الآخر يعالج موضوعات تُعدُّ من حيث الشكل مؤقتة، فكيف يرد المؤقت في نص دستور دائم؟

إن مفهوم الهيئات العامة المستقلة كان قد دخل إلى الفقه الدستوري منذ فترة ليست بطويلة، المعيار الأساسي الذي يحكم هذه الهيئات هو استقلالها تماما عن السلطة التنفيذية، وتتم عملية إحداثها واختيار أعضائها ومراقبتها من قبل السلطة التشريعية، وهذا ما يعطي هذه الهيئات الحماية الكاملة من تدخل السلطة التنفيذية في عملها.

إن بعض الموضوعات التي تعالجها الهيئات العامة المستقلة دائمة ومستمرة، وبعضها الآخر يعالج موضوعات تُعدُّ من حيث الشكل مؤقتة، فكيف يرد المؤقت في نص دستور دائم؟

إن الدستور الجديد الذي تحتاجه سوريا هو دستور غير تقليدي، يجب أن يحتوي على باب ينظم الأحكام الانتقالية والمؤقتة، التي تحتاجها البلاد في فترة الانتقال السياسي، ثم إن حل المشكلات التي تتصدى لها الهيئات العامة المستقلة ربما يحتاج إلى سنوات أو أكثر من عقد من الزمان، وكل التقارير والدراسات تتحدث عن أرقام ملايين السوريين المهجرين من مساكنهم بين لاجئين ونازحين، إضافة إلى النسبة الهائلة من  الدمار الكلي أو الجزئي الذي لحق بالمباني في المدن والبلدات السورية، ووجود عشرات آلاف من السوريات والسوريين قيد الاعتقال أو التغيب القسري في سجون النظام والسجون السرية للميليشيات المتحالفة معه، فمعالجة كل هذه الملفات والوصول إلى نتائج مرضية يحتاج إلى مدة ليست بقصيرة من الزمن والعمل الجاد المستمر.

يعتقد بعض القانونيين والسياسيين أن الهيئات المستقلة هي الأساس الحقيقي للدولة، وإنها الضامن لعمل مؤسسات الدولة بشكل قانوني بعيداً عن تأثيرات السلطة التنفيذية المتمثلة بالحكومة، وأيضاً هي بعيدة عن التأثيرات السياسية المباشرة بسبب بعدها عن نطاق تأثير الأحزاب الحاكمة.

منح الاستقلالية بنص دستوري واضح لهيئات وظيفية تخصصية، أمر أساسي يساعد في سرعة التعافي من آثار سنوات الحرب التي شنها النظام على الشعب السوري، ويعزز من مسيرة السلام المستدام بعد الوصول إلى الاتفاق السياسي الذي يضمن ويؤمن الانتقال السياسي وتنفيذ كل القرارات الدولية ذات الصلة.

المُجمل إن الدول التي تعاني من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، تحتاج لإجراء نقاشات عميقة حول الإصلاحات المؤسساتية اللازمة لإقامة نظام ديمقراطي حقيقي، كما تحتاج إليه سوريا، وذلك بإرساء نظام سياسي يضمن حماية حقوق الإنسان لجميع المواطنين والسكان، ويعالج الملفات الإنسانية الأخرى التي نتجت عن عقود من الدكتاتورية والقمع.

وفي واقع الأمر إن الانتقال السياسي المنشود في سوريا يتطلب إيجاد وإحداث هيئات مستقلة وظيفية، تعنى بالقضايا التي يشكل التعاطي السليم معها أحد أركان السلام المستدام، وضمان عملية المحاسبة والمساءلة وجبر الضرر، وعدم التكرار، ومن هذه القضايا والموضوعات نذكر على سبيل المثال لا الحصر:

١-العدالة الانتقالية.

٢-حقوق الإنسان والبحث في قضية المعتقلين والمفقودين والمغيبين قسرياً.

٣-المهجرون واللاجئون والنازحون.

إن استقلالية هذه الهيئات مطلوبة لنجاح دورها في ردع مولدات العنف والانتهاكات، والتي في الغالب يكون مصدرها الرئيسي بعض أجهزة السلطة التنفيذية، ومن الأمثلة الحديثة لدساتير بعض الدول التي ورد فيها نص على إحداث هكذا هيئات: تونس، مصر، الأردن، العراق.

اللجنة الدستورية مهمتها وضع المضامين والمواد الدستورية، التي تمنح الشرعية للقوانين والأنظمة التي ستصدرها السلطات سواء فيما يخص تشكيل الهيئات العامة المستقلة أو غيرها من الموضزعات، التي تحتاج إلى إصدار قوانين خاصة لتنظيم وضبط عملها.

إن الحوارات والنقاشات بين ممثلي المعارضة في اللجنة الدستورية، والقوى السياسية، والفعاليات الثورية والشعبية، والمنظمات والنقابات المهنية، هي أساس المشاركة الشعبية التي من خلالها سيتمكن الشعب السوري من قول كلمته وتحديد خياراته في العملية الدستورية.

  • Social Links:

Leave a Reply