يحيى العريضي_سوريا
يُقال: “تجوع الحُرَّة، ولا تأكل بثدييها”؛ ويقال: “الموت، ولا المَذَلّة”. هكذا أقوال تنبع مِن رَفع الإنسان لمقام المناقبيات والقيميات على مقام المحسوسات؛ ولكن الحياة ومعاييرها تُقدّم لنا صيغاً مختلفة الأولويات. فعندما تبحث أمٌ في حاوية نفايات عمّا تسدّ به رمق أطفالها، فإنها تقدِّم الحياة- ولو بمذلّة وانكسار-على الأنَفَة والكرامة؛ وعندما يصمت معتقل على شتم عرضه، لتوقي لكمةً تفقده بصره، لا يكون جباناً، ولا مفرّطاً بكرامته. إن أصل الفعل النيّة؛ وتقييمه بنتائجه وتبعاته.
ليس الهدف من هذه المقدمة مرافعة فلسفية في القيم، بل توطئة لإضاءة على حال سوريا، ومآلاته، وما علينا فعله لننقذها وننقذ أنفسنا.
بعد أن وصل السوري إلى هذا الدرك من الوجع- وهو الذي يحمل جينات من ساهموا بالحضارة البشرية – تجده يغار من أناس يعيشون في ظل قانون يحترم آدميتهم، ويقدّر إبداعاتهم، وينعمون بالأمان والصحة، ولا تُدَنَّس كرامتهم، ولا يجوعون، أو يُقتَلون من أجل شخص أو عصابة مريضة أخذتهم رهائن، وعاملتهم كعبيد. يفاقم حالة السوري معرفته بأن العبودية ومفهوم الرعيّة انتهيا من عالمنا؛ ولكنهما لا يزالان يحومان فوق رأسه.
إن سردية “المؤامرة الكونية” لا تخفف، ولا تبرر، ولا تلغي جريمة نظام الأسد بحق سوريا وشعبها
لن ينقذ سوريا أو يعيد أهلها إليها- أكانوا في داخلها، أم خارجها، أو تحت ترابها- ولن يعيد كرامة أو روح أو جسد مَن قضوا تحت التعذيب، أو بفعل براميلٍ أو صواريخ؛ ولن يردّ عفة أو كرامة مَن اغتُصِبَت، أو يرفع الذل والهوان والوجع والعوز والاحتلال قَتلُ أو حرقُ بشار الأسد وقطيعَه الإجرامي ألف مرة. إن بداية استرداد ذلك تكون عبر عدالة لا بد من فرضها، وعلى رأسها تجريم الفاعل بما فعل، وإزاحته من المشهد السوري.
إن سردية “المؤامرة الكونية” لا تخفف، ولا تبرر، ولا تلغي جريمة نظام الأسد بحق سوريا وشعبها (مَن عليه ومَن معه). لقد أخذت منظومة الأسد الاستبدادية سوريا رهينة، واضعة السلاح برأسها وروحها؛ وزاد في ذلك المصاب جلبها لميليشيات إيران، وقوة الروس العسكرية، التي زادت وفاقمت حالة الرهينة. والمفارقة أن تلك الميليشيات وتلك القوة الروسية لم تنقذ العصابة، بل ساهمت بإنهائها بقدر ما ساهمت ثورة السوريين، وربما أكثر. ما من قوة في العالم تستطيع أن تعيد تأهيل تلك المنظومة؛ ولكن جزءاً من هذه القوة يستطيع أن يعيد سوريا إلى الحياة، إن فكّرت جوهرياً بمصلحتها، ودون جشع.
لا يمكن أن تكون سوريا وأهلها بالنسبة لسلطات الأمر الواقع الثلاث الموجودة في سوريا، والمتمثلة بروسيا وإيران كحماة لمنظومة الاستبداد، وأميركا وتركيا في الشمال الشرقي والغربي السورييّن، أهم من مصالح بلادها. ولا ينفع السوريين الاستمرار برمي المسؤولية واحدهم على الآخر، أو على القوى المتدخلة، أو التلظي بحجة “المؤامرة الكونية” السخيفة والحقيرة من جانب منظومة الاستبداد. وفي الوقت ذاته، لا يمكن أن يكون الشعب السوري مسؤولاً عمّا حدث، وهو بلا حول أو قوة. صاحب القرار هو المسؤول، وعليه تحمُّل تبعات ما حدث. رغم أن هذا الكلام قديم، وقد يرى فيه البعض ضرباً من السذاجة، وكثر قد أسمعوه لأصحاب القرار الدموي التدميري لسوريا، واستمروا بركب رأسهم؛ إلا أن سوريا لن تعود إلى الحياة مع استمرار سلطة الاستبداد الأسدية.
قد تكون الدول تجاه مواطنيها شبه جمعيات خيرية خادمةً للإنسان معززةً له، ولكن عندما يكون لها تمددات ومصالح تقتضي تدخلها في دول أخرى؛ فهي لن ترى في تلك الأمكنة التي تتدخل فيها إلا مناطق نفوذ لخدمة مصالحها أولاً. من هنا، لا الروس سيرفعون الحيف عن سوريا وشعبها، ولا هم سيترددون في بيع هذه المنظومة الاستبدادية، والمصافقة عليها من أجل مصالحهم، عند توفر السعر المناسب؛ ولا الأميركيون مغرمون بشعب سوريا أو إنقاذها- لأنهم لو كانوا كذلك، لانتهت مأساة سوريا منذ سنوات- ولا إيران أتت كرمى للشيعة، أو لحماية المراقد، بل لتوسيع إمبراطورية الملالي، وجعل حدود مواجهاتها الإقليمية والدولية خارج أراضيها؛ ولا تركيا حملت السوريين واستنفرت سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، إلا لتكون حالة فاعلة ولاعباً أساسياً في الصراع على الشرق الأوسط، وخاصة أنها تشترك مع سوريا بحدود تقارب الألف كيلومتر. السؤال الأساس بالنسبة للسوريين؛ وفي ضوء رخاوة القانون الدولي، ولكون القرارات الخاصة بسوريا بلا أنياب؛ ومن خلال التفاعل مع قوى الأمر الواقع تحالفاً أو مواجهة، لا بد للسوريين أن يفكروا، وعلى مضض، بالأجر المطلوب لتلك القوى، طالما أن دحرها بالقوة غير ممكن الآن. فمن يأخذ رهينة، ومقتدر؛ ينتظر ثمناً أو ديّة. فنحن نعيش في عالم يحكمه قانون القوة، لا قوة القانون. الخيار الآخر ثورة شعبية تحريرية جديدة، تستفيد من عثرات السنوات الماضية، أساسها الوعي، وأداتها خلايا بالآلاف، عدد واحدتها لا يزيد عن خمسة، تجعل حياة الاحتلال داخلياً كان أم خارجياً مستحيلة. والدفاع عن النفس حق شرعي. لقد بات أعداء السوريين، كل السوريين، واضحين تماماً. لا بد من كسر كل الحواجز بين السوريين. الظالم والمستبد والمحتل واحد.
لن ينطلق السوريون من لا شيء في استعادة بلدهم؛ هناك دعائم واستنادات لما سيقررون فعله
لن ينطلق السوريون من لا شيء في استعادة بلدهم؛ هناك دعائم واستنادات لما سيقررون فعله؛ وأهمها أن الداعم الأساس لمنظومة الأسد، روسيا، في مستنقع، تدركه لكنها تكابر. وإيران الداعم الآخر فشلت في تحويل سوريا إلى ما يشبه لبنان. والمنظومة ذاتها في حالة شلل اقتصادي وعسكري وسياسي وأخلاقي. والثلاثة يرزحون تحت عقوبات هالكة. ومن هنا، استحالة إعادة تأهيل منظومة الاستبداد؛ فلن يكون هناك إعادة إعمار، أو عودة للاجئين بوجودها؛ ولا اعتراف بسلطتها أو “انتخاباتها”. وها هي ملفاتها الإجرامية يتم فتحها بكثافة مؤخراً. قد يأخذ الأمر وقتاً؛ لكنه آتٍ لا محالة. لا بد لهذا الكابوس من نهاية.
Social Links: